jeudi 26 avril 2012

ثقافة سينمائية

الفيلم والفن التشكيلي
  
امين صالح
  

قبل شهرين تقريبا وفي ندوة سابقة تحدثت عن العلاقة بين السينما والادب، وها انا الآن اتحدث عن العلاقة بين السينما والفن التشكيلي.
سواء أكان الامر صدفة او مقصودا وعن دراية، فان هناك توكيدا على ضرورة البحث في معنى السينما وماهيتها من خلال الكشف عن العلاقات التي تربطها بالاشكال الفنية الاخرى واظهار الفروقات الجوهرية بينها، وذلك في محاولة لاكتشاف طبيعة السينما وجوهرها ولغتها وامكانياتها.
لقد كان المخرج الروسي الراحل اندريه تاركوفسكي يعارض بشدة المفهوم القائل بأن الصورة السينمائية مركبة من عناصر فنية مختلفة، ويراه مفهوما خاطئا لانه يدل ضمنا على ان السينما قائمة او مؤسسة على خاصيات تابعة لاشكال فنية شقيقة، ولا تملك على الاطلاق شيئا خاصا بها. وهذا يعني انكار حقيقة ان السينما فن.
كذلك كان تاركوفسكي يرى أن السينما لا تزال تبحث عن لغتها، وان مسألة ما يؤلف لغة السينما هي ليست بسيطة، كما انها ليست واضحة بعد حتى بالنسبة للمحترفين.. وان ما يقرر ويحدد اللغة السينمائية مسألة لم يتم حلها بعد.
عندما يبدأ المخرج السينمائي في قراءة السيناريو فانه يشرع في رؤية الشخصيات والاحداث بصريا.. اي تشكيليا. ثم يبدأ عمليا ـ بعون من الكاميرا والعناصر الفنية الاخرى ـ في تحويل كل ذلك الى تكوينات بصرية، وفي تحقق ذلك يوظف الضوء والظل والنسق اللوني، ويعالجها وفق تجربته وادراكه وعاطفته وحساسيته الجمالية والفكرية.
عندما سئل انتونيوني: هل تعتقد بأن هناك صلة وثيقة بين الرسم والسينما؟ اجاب: لا. اعتقد بأن السينما قريبة من كافة الفنون. بمعنى انها تضاهي كافة الفنون. انها وسط اغنى واكثر امتلاء.
واذا جئنا الى الفروقات فسوف نلاحظ بأن السينما فن يعبر عن الواقع بالواقع نفسه.. بأشياء ومواد وكائنات الواقع، وذلك بخلاف الفنون الاخرى، ومن بينها الفنون التشكيلية، التي تعبر عن الواقع بعدد من الاشارات او الرموز.
وفيما يتصل بالمشاهدة نجد ان ثمة دائما مسافة بين اللوحة والمتفرج، مسافة مرسومة ومعينة التخوم سلفا. ثمة وعي او ادراك لدى المتفرج بأن ما يوجد امامه، سواء كان قابلا للفهم او غامضا، ما هو الا (صورة) للواقع ولا يمكن على الاطلاق مطابقتها مع الحياة.. حتى لو كانت شبيهة بالحياة أو تحاكي الحياة الواقعية بدقة تامة.
اما في صالة السينما المظلمة فان المتفرج يفقد احساسه بمن حوله، بواقعه، ويتطابق مع ما يراه على الشاشة، بمعنى انه يجتاز المسافة التي تفصله عن الشاشة ليدخل فيها كما لو يدخل في حلم، مؤمنا بأن ما يراه هو شرائح من الحياة.
اللوحة الفنية تدعو المتفرج الى التأمل، فأمامه متسع من الوقت للمشاهدة وليدع انطباعاته وافكاره وتخيلاته تتداعى بحرية، وبلا مقاطعة. لكن امام شاشة السينما، حيث الصور تتعاقب على نحو سريع، فليس هناك مجال للتأمل.. فالمشاهد تتغير على نحو لا يمكن معه اللحاق بها. وامام التغيرات المفاجئة والمستمرة تتعطل عملية تداعي الافكار.
اللوحة تأسر الحركة والزمن، بينما ضمن الصورة السينمائية نشعر بحركة الزمن (سواء أكانت بطيئة او سريعة) وهذا ما يوجد او يشكل ايقاع الفيلم.
رغم هذه الفروقات نلاحظ أن عددا من الفنانين التشكيليين المعاصرين ـ المحترفين منهم وغير المحترفين ـ اتجهوا الى الاخراج السينمائي ونذكر منهم على سبيل المثال:
الفرنسي موريس بيالا، الذي كان رساما واقام عدة معارض ثم مارس التمثيل قبل ان يتحول الى الاخراج في الستينيات.. وقد حقق فيلما دراميا مهما عن فان جوخ.
البريطاني بيتر جرينوي الذي قال: احد الاسباب الفعلية التي جعلتني اهتم بالسينما هو ما يتيحه هذا المجال من فرص استثنائية للتلاعب بالصور والكلمات، وبالتفاعل بينها. احيانا اشعر كما لو انني لست صانع فيلم على الاطلاق بل كاتبا او رساما تصادف ان اشتغل في السينما.. وهذا وضع من المفيد ان تكون فيه احيانا لانك، في هذه الحالة، تكون اشبه بالدخيل او اللامنتم، وعندئذ ـ ودون ان تعي ذلك ـ تقدر ان تقوم بمجازفات تجريبية لا يجرؤ السينمائي ان يقوم بها.. فمثل هذه المجازفات ترعب المخرجين التقليديين، المحافظين، الذين يشعرون بأن هناك قواعد وقوانين لابد من الالتزام بها. اما انا فأنتهك تلك القوانين باستمرار.. ليس من موقع المعادي لها بل بالاحرى من موقع الدخيل الذي يتساءل: هل هذه القوانين والتقاليد ضرورية حقا؟
والاميركي ديفيد لينش الذي بدأ رساما ودرس في اكاديمية الفنون التشكيلية في فيلادلفيا قبل ان يعمل في السينما في 1967 والذي يقول: بدأت رساما، والسينما هي امتداد لهذا الفن. في الرسم ابتكر قصة تنسجم مع الصورة، لكن هناك دائما في ذهني تلك الاصوات التي ترافق الرسم.. افلامي عبارة عن لوحات سينمائية، لوحات تتحرك على شرائط السليولويد، ثم اقوم بتركيب الصوت لايجاد حالة فريدة واستثنائية: تخيل موناليزا وهي تفتح فمها، من الفم تخرج الريح، بعد ذلك تستدير موناليزا وتبتسم.. سيكون ذلك غريبا وجميلا.. ان فهمي للسينما ينبع من خلفيتي التشكيلية حيث انني اتخطى القصة الى حالة اللاوعي التي يوجدها الصوت والصورة.
وهناك الايطالي انتونيوني الذي لم يحترف الرسم، والذي قال: انا لست رساما، بل انا سينمائي يرسم.
واذا عدنا الى البدايات فسوف نجد، مع انتشار السينما في العشرينيات من القرن العشرين، ان العديد من التشكيليين السورياليين كانوا يرون في السينما وسطا مثاليا لسبر واستكشاف عوالم اخرى. مان راي وهانز ريختر وفرانسس بيكابيا كانوا ضمن الفنانين الذين قاموا بمحاولات تجريبية مع الفيلم لغايات سوريالية. بيكابيا كتب سيناريو فيلم (استراحة) من اخراج رينيه كلير. وسلفادور دالي شارك بونويل في كتابة واخراج (كلب اندلسي) ان هذا الانتقال من الوسط التشكيلي الى الوسط السينمائي يجعل هؤلاء الفنانين، وعلى نحو محتوم، يوجهون اهتماما وعناية اكبر بتكوين الصورة. عندما يأتي الرسام الى الفيلم فانه، بالضرورة يأتي حاملا معه نظرة التشكيلي الى التكوين واللون. ولابد ان وظائف الرسام والمخرج السينمائي تغذي بعضها البعض.
مخرجون كثيرون تأثروا الى حد بعيد بالفن التشكيلي من حيث توظيف الالوان والاضاءة، ومن حيث التكوين:
السينما التعبيرية الالمانية استفادت من المذهب التعبيري في الرسم حيث التلاعب بالضوء والظل، والتكوينات التشكيلية، وحيث التنافر والتكثيف، الزوايا والمنظومات المحرفة، الاشكال ذات المظاهر والاحجام غير الطبيعية، الظلال الاصطناعية والاضاءة الانتقائية.
في افلام الدنماركي كارل دراير نجد مصاهرة بصرية بين لقطاته وعوالم اللوحات الهولندية والدنماركية الكلاسيكية.
الاميركي روبن ماموليان تأثر باللوحات الاسبانية: موريللو وجويا وال جريكو وفيلاسكويز.
الاميركي الطليعي ستان براكهيج، وهو فنان تشكيلي ايضا، تأثر بالرسم التعبيري التجريدي، وقال: اسعى الى سماع اللون.
الايطالي لوشينو فيسكونتي كان يستفيد من لوحات معينة في مراحل تاريخية معينة، مستلهما منها الازياء بوجه خاص.
ستانلي كوبريك تأثر بالتقاليد الكلاسيكية والرومانتيكية، وبالرسام جوبا.
تاركوفسكي تأثر بالرسم الايطالي في عصر النهضة.. دوشيو وبويتشيلي وآخرون.
ديفيد لينش تأثر بفرانسس بيكون وادوارد هوبر وهنري روسو.
ويقول المخرج تيري جيليام: فيلمنا (Jabberwocky) قريب جدا من رسومات بوش وبروجيل. هيرونيموس بوش كان مصدر الهام دائم.
المخرج الفيتنامي تران آنه صرح قائلا: فرانسيس بيكون هو رسامي المفضل. هناك بضعة اشياء من بيكون في فيلمي (Cyclo). انا متأثر به كثيرا وبالفكرة التي تتضمن بقوة في رسوماته: الوحشية بوصفها حقيقة.
المخرج البريطاني تيرنس ديفيز يؤطر كل لقطاته بعناية رسام. قبل ان يصور فيلمه (The Lovy Day Closes) عرض على مدير التصوير كتابا يضم لوحات فيرمير ورمبرانت وآخرين لدراسة تفاعلات الضوء والظل. وهي لوحات تأسر ـ كما يقول المخرج ـ الحالات والاحاسيس التي اراد ان يوصلها.
المخرج البريطاني الآخر بيتر جرينوي عبر عن افتتانه باحساس فيرمير البصري، وهو يستهلم اسلوب فيرمير في التكوين حيث كل لقطة مركبة على نحو صارم ودقيق جدا. وهو في افلامه غالبا ما يوجه تحية تقدير الى فيرمير ورمبرانت وبقية رسامي العصر الذهبي الهولندي.. ليس فقط من خلال التكوينات المقتبسة من اعمالهم، ومحاكاة تكوينات هؤلاء من حيث المظهر والكتلة واللون والاضاءة والحركة، لكن ايضا من خلال استخدامه لمصادر الاضاءة. وهو يقول: احب لافلامي ان تتحقق. بالطريقة التي فعلتها الرسومات الهولندية في عصرها الذهبي.. على المستوى الواقعي والمجازي. ان افلامي يمكن تفسيرها على نحو مرض اكثر، ويمكن فهمها على نحو افضل، عند تطبيق جماليات الفن التشكيلي عليها.
المستوى الآخر من تأثر السينما بالفن التشكيلي يكمن في اعادة الانتاج البصري (السينمائي) للوحات عالمية من مختلف العصور والمراحل، اضافة الى الاشارات ـ او الاحالات ـ الى لوحات كلاسيكية معروفة. هذا التنوع من الوعي التشكيلي يعكس رغبة المخرج في اعادة ايجاد الصور ذات القوة العاطفية وتعزيز كثافتها.
في فيلمه (فريديانا) جعل المخرج لويس بونويل مشهد العشاء يحاكي تماما لوحة ليوناردو دافنشي (العشاء الاخير)، من حيث شكل المائدة واوضاع الاشخاص وايماءاتهم. وعندما يعيد بونويل ايجاد هذه الصورة في الفيلم فانه يعرض مصاهرة مماثلة للوجه. لكن ثمة غاية هجائية هنا مع ابراز حالة عبثية: مجموعة من الشحاذين السكارى يحاكون سلوك وايماءات شخصيات دينية وقورة.
عندما يعاد ايجاد لوحة مشهورة فان مثل هذه اللحظات ـ ذات البعد السوريالي احيانا ـ تنزع الى تحطيم توقعات المتفرج بشأن ما ينبغي لهذه الصور ان تضاهي او تشبه. مثل هذه الرؤية تصدم ذاكرة ووعي المتفرج. كذلك تسعى اعادة الايجاد ـ شكليا ـ الى اضفاء خاصية جمالية على اللقطة. ومن جهة المحتوى فانها تحمل طاقة ايحائية ومجازية.
عندما اراد هيتشكوك ان يجسد على نحو سوريالي حلم البطل في فيلمه (المسحور)، فقد استعان بالرسام سلفادور دالي لتصميم مناظر مشهد الحلم. وجاءت صور دالي لتشبه تلك الصور التي نراها عادة في لوحاته، والحافلة ـ هذه الصور ـ بالخطوط المتعرجة والظلال الطويلة والاحساس الحاد بالمنظور.
غير ان المشهد لم ينجح سينمائيا لانه بدا نتاج حلم رسام اكثر من كونه حلم مخرج سينمائي. لقد اعاد دالي ايجاد سوريالية الكانفاس فقط. لكن بسبب الواقعية المتأصلة والمتجذرة في الوسط السينمائي فان الفيلم يحتاج بالضرورة الى منهج مختلف للتعبير عن الحساسية السوريالية.
وفي هذا الخصوص يقول هيتشكوك: السبب الحقيقي الذي جعلني استعين بسلفادور دالي هو انني اردت ان انقل الحلم بحدة بصرية عالية. اردت دالي بسبب الحدة المعمارية في اعماله. دي شيريكو لديه الخاصية ذاتها، اعني الظلال المريرة اللامتناهية والبعد وخطوط المنظور التي تلتقي عند نقطة واحدة.
بعد سنوات، يوظف هيتشكوك اسلوب دي شيريكو في تحفته السينمائية (Vertigo) (دوار) عندما يصور البطل وهو يلاحق البطلة في مواقع مختلفة (معرض تشكيلي، ومقبرة وكنيسة وبيت قديم) حيث الظلال المديدة وعمق المنظور وفراغ الامكنة.. والبطلة تنتقل عبر المناطق كما لو في حلم.
بالنسبة للالوان (اطفال الظلال.. كما سماها ليوناردو دافنشي) فان الافلام توظفها جماليا (من ناحية التناسق والتكوين) او رمزيا (كتعبير عن رؤية ذاتية للواقع والاشياء) او دراميا للتعبير عن الحالة العاطفية والنفسية والذهنية للشخصيات.
يقول انتونيوني: اود ان الون فيلمي وكأنه لوحة وارغب بأن احقق فيه مزاجي اللوني الخاص. اود ان اخترع علاقات لونية ولا اريد ان اقيد نفسي بألوان تصويرية طبيعية(..) اللون بالنسبة لي يمتلك وظيفة نفسية ودرامية(..) على المخرج ان يستخدم في فيلمه الالوان المناسبة للقصة وان يستبعد الالوان الاخرى.
الكثير من مصوري السينما استفادوا من اللوحات التشكيلية في كيفية توظيف الالوان والاضاءة، وفي تبني اضاءة رمبرانت المجهولة المصدر لغايات درامية. المصور الايطالي فيتوريو ستورارو استفاد كثيرا من اعمال كارافاجيو وفرمير وآخرين في تعزيز الثراء التشكيلي للصور السينمائية.
والمصور العالمي نستور الميندروس يقول في كتابه (رجل وكاميرا) (A Man With a Camera): عندما احضر لفيلم ما فإنني عادة افكر في رسام معين او مدرسة معينة في الرسم. في فيلم تروفو (الانجليزيتان) وجهنا عنايتنا الى الرسم الفيكتوري دون ان يغيب عن بالنا الانطباعيون الفرنسيون. الفيلم تدور احداثه في مطلع القرن العشرين. كيف بامكاننا ان نعين هوية تلك المرحلة؟ باللوحات. بتأمل تلك اللوحات يدرك المرء ان الالوان الصافية في الملابس واوراق الجدران وغير ذلك لم تكن موجودة في ذلك الحين.. ربما بسبب استحالة التحضير التقني للاصباغ(..) وفي فيلم (ركبة كلير) اراد المخرج اريك رومر المظاهر التي تبدو في لوحات جوجان حيث الاسطح ثنائية البعد والالوان الصافية.
ويكشف الميندروس عن تأثير فيرمير في استخدام الاضاءة والتي تأتي جانبية من خلال النوافذ. ويقول الميندروس: هناك بضعة رسامين كانوا دائما مصدر عون لي لانهم استخدموا الضوء من اجل اعطاء احساس ثلاثي الابعاد بالمرئيات. فيرمير مع الاجزاء الداخلية النهارية، لا تور مع الاجزاء الداخلية الليلية المضاءة بمصدر ضوئي كاللهب، رمبرانت وكارفاجيو مع طرائقهما في توزيع الضوء والظل، اضافة الى مونيه ورينوار وغيرهما من الانطباعيين.
وفي حديث للمخرج كاريل رايس عن فيلمه (عشيقة الملازم الفرنسي) قال: في المشاهد التي تدور في العصر الفيكتوري لجأنا بوعي تام الى استخدام النوع الاكاديمي من الاضاءة، ذلك النوع الذي تراه في اللوحات الفيكتورية. كذلك استخدمنا الاضاءة الامامية والاضاءة الجانبية في رسم الشيء كما كان يحدث في اعمال ما قبل الانطباعية.
كذلك يشمل التأثر بالاعمال التشكيلية مجالي الديكور والملابس حيث يتم العمل بوحي من القواعد الكلاسيكية لاستخدام اللون اضافة الى التوظيف الدرامي له.
ولا شك ان للسينما ايضا تأثيرا على الفنانين التشكيليين، اذ يقال ان سلفادور دالي كان كثير التردد على دور السينما طلبا للاثارة والالهام (على عكس ماتيس الذي كان يشاهد الافلام لينسى همومه).
ومن مظاهر التأثر نجد اقتراب اللوحة من المشهد السينمائي، او محاولة ابراز المنظور من زوايا مختلفة واحجام متفاوتة كما تفعل الكاميرا.
السينما، طوال تاريخها، قدمت العديد من الافلام عن الرسامين، بعض هذه الافلام يحتفي بالفنان بوصفه عبقريا معذبا، رائيا، والذي يتخطى ظروفه الاجتماعية المباشرة مثل (شهوة الى الحياة) 1956 عن فان جوغ. وافلام اخرى، ابرزها فيلم تاركوفسكي عن رسام الايقونات اندريه روبليف 1966 تسعى الى عرض المرحلة التاريخية والاجتماعية التي عاش فيها الفنان. وهناك افلام مثل (كارافاجيو) للمخرج ديريك جارمان 1986، تعيد بناء او تركيب علاقة الفنان بواقعه من خلال مزيج من الحقائق والتخيلات، وبالتالي فان هذه الافلام لا تحرص على تصوير التجربة الحياتية للفنان، ولا تقدم بورتريها واقعيا او مسيرة ذاتية للفنان، بقدر ما تهتم بايجاد عوالم بديلة، وبتقديم رؤية شخصية. وهناك افلام تتيح لنا ان ننفذ الى عملية الابداع وسر الايجاد الفني، دون ان يكون الفيلم درسا في الفن او في تاريخ الفن. ان التركيز على فعل الايجاد والبحث عن عناصر ادارك الفنان التي رافقت تحقيق اللوحات، هي محاولة لكشف الصلة بين حياة الفنان وتعبيره الجمالي، اي ان يكون الفنان نموذجا لسبر واستكشاف مسألة سيكولوجية الابداع الفني.
اخيرا، فان ثمة مجالا لا يمكن التغاضي عنه، وهو مجال الرسوم المتحركة، حيث فيه تتأسس العلاقة الحميمة بين السينما وفن الرسم، وحيث يكون حضور التشكيل بارزا وقويا. وقد اشار روبير بنايون في كتاب له صدر في العام 1961 الى الصلة الوثيقة بين بعض افلام الرسوم المتحركة واعمال كاندنسكي وخوان ميرو وايف تانجي. يبين الى اي مدى استفادت بعض افلام التحريك من امكانات الخط او الرسم التخطيطي او الالوان او تنفيذ الحركة امام خلفية فارغة.
وينبغي ملاحظة ان منفذي افلام الرسوم المتحركة هم من الرسامين اساسا، الذين يحملون اساليب ورؤى مختلفة، بل ان بعضهم حقق نجاحا ملفتا عندما انتقل الى مجال الافلام الدرامية الطويلة مثل الياباني كون ايشيكاوا والبولندي فاليريان بوروفشيك وغيرهما من الذين حملوا معهم تأثراتهم بمجال التحريك من حيث توظيف الالوان والتعامل مع الشاشة كما لو انها لوحة تستقبل تكويناتهم الجديدة، والتعامل بطريقة مغايرة في السرد والبناء والمونتاج، واعتماد الغرابة والادهاش.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire