jeudi 26 avril 2012

ثقافة سينمائية

هكذا تكلم إنغمار برغمان
  
ترجمة وإعداد : عدنان المبارك
  



في عام 1987 صدر كتاب إنغمار برغمان ( المصباح السحري Laterna magica ). و سرعان ما أصبح الكتاب من أكبر إثارات النصف الثاني من القرن العشرين. ففيه يتناول هذا الفنان ، بصراحة مصدمة ، حياته الخاصة والفنية ، ويتكلم عن الآخرين الذي يسلط عليهم أضواءا معشية حقا... إلا أن الأهم في الكتاب بالنسبة لمحبي فن برغمان ، هو طرحه لآرائه وتجاربه الفلمية والمسرحية ومناحيه في الكتابة والتفكير. وقد إخترت ُعددا من فقرات هذا الكتاب التي يتكلم فيها السويدي الكبيرعن الفن السابع :

- المهمة الأكبر للممثل هي ، كما معلوم ، الموقف من الشريك. بدون " أنت " لاتوجد " أنا " كما قال أحد العقلاء.

- القرار بوضع الكاميرا جانبا لم يكن دراميا . كان هو يكبر فيّ أثناء العمل في فلم ( فاني وألكسندر ). لا أعرف هل أن جسمي قرر ما يخص نفسي أم أن النفس أثرّت على الجسم ، لكن آلام الجسم أصبح من الصعب السيطرة عليها.


- في عام 1985 جاءتني فكرة فلمية تستحق الإهتما م كما بدا لي. أردتُ الإقتراب من الفلم الصامت و العمل في أجزاء فلمية طويلة من دون حوار ولا تأثيرات صوتية. وفي الأخير أنتبهتُ الى إمكانية التخلي عن أفلامي الناطقة.

- أدركتُ باني لن أعمل أيَّ فلم و أن الجسم يمتنع عن التعاون وأن التوتر المستمر المراتبط بالعمل الفلمي أمر غير ممكن وهو بمثابة مرحلة بحكم الماضي. صرفتُ النظر عن سيناريوهي عن الفارس فين كونفوسينفي Finn konfusenfej ( هذا الذي " يدخل المزرعة و يعثرعلى النصائح " ) وعن عجوز مجهول خالق افلام صامتة عثروا على أفلامه شبه التالفة في صناديق معدنية لاتحصى كانت مطمورة في فيللا صيفية أرادوا ترميمها. بين الصور ثمة علاقة تثير الشعور بصورة غير واضحة. الخبير بلغة الصم والبكم يسعى الى قراءتها من أفواه الممثلين كي يوضح ردودهم. يحاول أن يرتب الصور وفق مختلف السياقات و يحصل على مجار مختلفة لل( أكشن )...

- أنا أفحصُ ، بصرامة ، افلامي المتأخرة و أعمالي في المسرح ، وأعثر هنا وهناك على هوس بالدقة و الكمال والذي يطرد الحياة والروح. هذا الخطر في المسرح ليس بالكبير ، فأنا قادر هناك على مراقبة حالات ضعفي وفي أسوأ الأحوال يقدر الممثلون على أن يصححوا أخطائي. أما في الشريط الفلمي فكل شيء هو نهائي. في كل يوم ثلاث دقائق من الفلم الجاهز. على كل شيء أن يحيا و يتنفس وأن يكون نتاجا. أشعر أحيانا ، فيزيقيا على وجه التقريب ، بوحشٍ من أزمان سحيقة في القدم هو نصف حيوان و نصف إنسان ، يتحرك فيّ وعليّ أن ألِده : في صباح ما أمضغُ لحيته الخشنة المقرفة ، وأشعر برجفة خفيفة في أعضائي وأسمع لهاثا. لدي شعور مسبق بالأفول الذي لا علاقة له بالموت بل الإنطفاء. أحلم أحيانا بأنني أفقد أسناني وأبصق جذوعا صغيرة منخورة وصفراء اللون.

- أختار يوما للعمل الفلمي في كانون الثاني من عام 1982 (... ) في تمام الساعة التاسعة نبدأ التسجيل المقرر في ذلك اليوم. المهم أن يكون إنطلاقنا المشترك في موعده. على النقاشات والشكوك أن تزاح خارج هذه الدائرة الداخلية للتركيز. منذ هذه اللحظة نحن ماكنة معقدة لكنها تعمل موحَّدة ، وهدفها خلق صور متحركة.
( ...) البروفات تتقدم بسهولة و يسود نشاط هاديء. وطاقتنا الخَلقية تجوس المكان. والأكثر من ذلك شيّدت آنا أسب A. Asp مكانا للإنعاش ، أضاءه سفين نكفست S. Nykvist وفق حدسه الذي يصعب وصفه والذي هو خصلته الثمينة التي تجعل منه أحد أكبر خبراء الضوء في العالم ، ولربما الأبرز. وعندما يسألون كيف يعمل ذلك يشير هو الى بضع قواعد أساسية ( إستفدتُ منها كثيرا في عملي في المسرح ). السرُّ نفسه لا يريد أو لايعرف كيف يصفه. وحين يجد أن هناك ما يضايقه وأنهم يحثونه أوحين لايشعر بانه على ما يرام يكون العمل سيئا وعليه أن يبدأه من جديد. في عملنا المشترك تسود الثقة والشعور بالأمان. أشعر أحيانا بالأسف على أننا سوف لن نعمل سوية. كما أشعر بالأسف حين أتذكر يوما مثل ذاك. ثمة قناعة حسّية في العمل ، في علاقة قريبة مع أناس أقوياء ومستقلين وخلاقين : ممثلين ودافعي عربات و كهربائيين ومدراء إنتاج و عاملين في أقسام الإكسسوار والماكياج والملابس، مع جميع هذه الشخصيات التي تملأ اليوم وتسمح بأن يكون ُمعاشا. أشعرُ بفقدان مؤلم لكل شيء و لكل واحد. أنا أفهم ماقصده فيلليني حين قال إن العمل في الفلم هو بالنسبة له أسلوب حياة. أفهم ايضا تلك الحادثة الصغيرة مع أنيتا أيكبيرغ A.Ekberg . كان مشهدها الأخير في ( الحياة الحلوة La Dolce Vita ) يجري في سيارة تقف في الأتيليه. وعندما إنتهى تصويرالمشهد و عملها في الفلم أيضا أخذت تبكي وهي ممسكة بالمقو بقوة إذ لم ترد أن تغادر السيارة. وأضطروا الى مسكها بكل لين وأخذها الى خارج الأستديو.
أن تكون مخرجا سينمائيا هو أحيانا حظ سعيد بصورة إستثنائية. التعبير غير المجرَّب للوجه يولد برمشة عين وتسجله الكاميرا. وهذا الشيء حصل اليوم. فقد شحبَ ، فجأة ، وجه ألكسندر غير المُهيّأ وبدون بروفة . الشحوب كان شديدا. على وجهه يرتسم ألم صرف. الكاميرا تسجل هذه اللحظة . ألم ، ألم غير قابل للفهم ، كان هناك لبضع ثوان ولم يعد أبدأ ، لم يكن قبلها أيضا ، لكن الشريط الفلمي مسك تلك الهنيهة. حينها أعتبرتُ بأنها لم تذهب هباءً الأيام و الأشهر حين تم مسك الدقة المتوقِعة. ربما أنا أحيا من أجل مثل هذه اللحظات القصيرة. تماما مثل صيّاد اللاليء.
عملت كرئيس في ( مسرح المدينة ) في هيلسنغبورغ . كان عام 1944 . منذ وقت بعيد كنت أعمل أيضا كمحرر يعدّ السناريوهات في ( الفلم السويدي Svensk Filmindusri - SF ) . وسيناريو واحد لي تم إخراجه ( فلم " فضيحة " لآلف سييبرغ A.Sjoberg ). و قدإعتبرت ُ موهوبا لكن مسّبباً للمتاعب أيضا. وكان عندي عقد من نوع خاص مع ( SF ) لم يعد علي بمنفعة مادية لكنه أعاقني فيما يخص التعاون مع الشركات السينمائية الأخرى. لم يكن ذلك أمرا بالخطِر. رغم النجاح المقبول لفلم ( فضيحة ) لم يتصل بي أحد عدا لورينس مارمستيدت L. Marmstedt الذي كان يتلفن من وقت لآخر. سألني بلطف لكن بلهجة ساخرة الى متى سأبقى في ( SF ) فهم بالتأكيد سيقضون عليّ بينما هو قادر على أن يعمل مني مخرجا سينمائيا جيدا حقا. ترددت ُ فقد شعرت بأني مرتبط بمرجعية ديملنغ Dymling ، وهكذا قررت البقاء عنده ، فهو قد عاملني بروح الأبوة لكنه كان معها قليل من التصدق.
في أحد الأيام وجدتُ على مكتبي مسرحية كتبها دنماركي قليل الإبتكار ويمارس الكتابة الروتينية . إقترح ديملنغ عليّ أن أكتب سيناريو بالإعتماد على هذه المسرحية . وإذا تم قبول السيناريو فبمكنتي أن أعمل فلمي الأول . قرأت المسرحية وإعتبرتها فظيعة. ولو كان قد سألني احد عن البديل لأخترت بالتأكيد دليل الهاتف. وهكذا كتبتُ في أربع ليال ، السيناريو الذي وافقوا عليه. وكان من المقرر أن يبدأ تصوير الفلم في صيف عام 1945. لغاية ذلك الوقت كان كل شيء يسيرعلى ما يرام. كدتُ أجن من الفرح و لم أر ، بالطبع ، الواقع. وكانت العاقبة أني سقطت في أكثر من حفرة حفرها الآخرون وأنا بنفسي ساعدتهم في ذلك.

- في طريقي ظهر فكتور سيوستريم V. Sjostrem . بدا ذلك كما لو أنه محض مصادفة. وضع يده بقوة على عنقي وأخذنا نسير ذهابا و إيابا عند المدخل الإسفلتي الى الأستوديو. على الغالب سرنا صامتين . لكنه تكلم فجأة عن أشياء كانت مفهومة ببساطة . أنت تعمل مشاهدا معقدة بما فيه الكفاية. لا أنت ولا روسلنغ Roosling تستطيعان أن تبسّطا هذه التعقيدات. إعملْ بصورة أكثر بساطة. صوّرْ الممثلين من الأمام ، هم يحبون هذه الطريقة ، وستكون هي الأحسن. لا تتشاجرْ بهذه الطريقة اللعينة مع الجميع. فهم سيحنقون و يؤدون العمل بصورة أردأ. لا تعملْ من كل شيء القضية الرئيسية فحينها ستخنق الجمهور. الإنتقال transition يجب معاملته كإنتقال ، كذلك ليس من الضروري أن يبدو ذلك إنتقالا. سرنا بشكل دائرة ذهابا وإيابا عند ذلك المدخل. َمسَكني من عنقي ، وكان عمليا و موضوعيا ولم يكن غاضبا مني البتة رغم أني كنت إنسانا لا يطاق.
( ... ) في المساء كنت أذهب الى السينما ، وشاهدتُ الأفلام الأميركية وفكرت : هذا الشيء ينبغي أن أتعلمه ، هذه الحركة للكاميرا هي بسيطة. المفروض أن يكون روسلنغ قادرا على فعل هذا الشيء. هذا المونتاج كان جميلا وعليّ أن أتذكره.

- الإيقاع في أفلامي آنذاك قد ُخطط له في السيناريو أي على الطاولة لكنه يولد أمام الكاميرا. كل أشكال الإرتجال غريبة عليّ. وأحيانا حين أكون مرغما على إتخاذ قرارات غير مدروسة أعرق وأتخشب من الرعب. الفلمنة بالنسبة لي وهم ُمخطط بتفاصيله ، إنه عكس للواقع الذي كلما عشت ُ أطول يبدو لي وهميا أكثر.


- الفلم حلم حين لايكون وثيقة. ولذلك يكون تاركوفسكي أكبرهم جميعا. هو يتحرك مصحوبا بالمؤكَّد في منطقة الأحلام ، وهو لا يوضحها ، وفي الأخير لماذا كان عليه أن يوضح ؟ إنه ذو نبوءة ، و قادرعلى تحقيق رؤاه في الوسيطة الأصعب لكنها الأكثر حساسية. طيلة الحياة كنت أطرق أبواب تلك الغرف التي يتحرك هو فيها بأسلوب أكيد. أحيانا فقط أفلحتُ في التسلل الى هناك. معظم جهودي الواعية إنتهت بفشل يدعو الى الرثاء : " بيضة الأفعى " ، " اللمسة " ، " وجها لوجه " ، والى آخره.
فيلليني وكوروساوا وبونويل يتواجدون في نفس الدرب الذي يطرقه تاركوفسكي. انتونيوني سعى الى الوصول لكنه أضاع نفسه ، وإختنق في ضجره. ميليه Melies كان هناك دائما ولم يفكر بهذا الأمر. فقد كان ساحرا ممتهنا.
الفلم كحلم ، الفلم كموسيقى . ليس هناك نوع من الفن كما الفلم لايتجاوز وعينا اليومي و يصل الى مشاعرنا بالصورة المباشرة وعميقا الى زوايا النفس . عطب صغير في عصب بصرنا ، نتيجة مصدمة : 24 كادرا مضاءا في الثانية ، وبينها الظلام ، فالعصب البصري لايسجل الظلام. عندما أنظر في الشريط الفلمي على طاولة المونتاج ، كادر بعد كادر لا أزال أملك كما في الطفولة شعورا مدوِّخا بالسحر : داخل الخزانة في الجدار ، في الظلام ، كنتُ ألفُّ ببطء ، كادرا بعد آخر ، و أرى التغيرات التي لا ُتلاحظ تقريبا ، وأدرتُ ذراع الآلة بصورة أسرع : ها هي الحركة.
الظل الصامت ، أو الناطق ، ينادي جهاراً الزوايا الأكثر سرّية في نفسي. رائحة المعدن الساخن ، الصور الرجراجة والخاطفة ، صليل صليب مالطه ، مقاومة ذراع الآلة في اليد.


- في أيام خلت فجأة من العمل عملتُ مع الكاتبة أُولا إساكسون U. Isakson والمخرجة غونيل لندبلوم G.Lindblom ، سيناريو ( السوق الفردوسي ) الذي إعتمد على رواية أُولا. وكان المقرر أن تنتجه شركة ( سينيماتوغراف Cinematograph ) العائدة إليّ ، وأن يبدأ التصوير في آيار. كنا جميعا مشغولين جدا بالتحضيرات ، وإجراء العقود والبحث عن أماكن التصوير. و مسلسلي التلفزيوني ( وجها لوجه ) كان قد إنتهى. والصيغة الفلمية لهذا المسلسل ستعرض في نهاية الأسبوع على رجال عمل أمريكان ُوجدوا حينها هناك. و قبلها ببضعة أشهر أنهيتُ كتابة سيناريو ( بيضة الأفعى ). وسيكون منتجه دينو دي لورنتس D.de Laurentis .
وبعد تردد وببطء بدأت أفكر بالعمل في الولايات المتحدة. السبب كان بالطبع توفروسائل مالية أكبر سواء لي أو لشركتي ( سينماتوغراف ). وهكذا فتحت أمامي إمكانيات أكبر فاكبر كي إنتج بنقود أميركية أفلاما ذات نوعية جيدة ، ويخرج الآخرون أفلامهم. كان يسليني للغاية القيام بدورالمنتج والذي كما أرى الآن لم أقم به بصورة جيدة. كانت الشركة مسنودة بعمودين من فولاذ . بأصدقاء مقربين ومعاونين قدامي. وكان لارس – أوفه كارلبيرغ
Lars- Owe Carlsberg ( كان تعاوننا قد بدأ في عام 1953 عندما أخرجت فلم " أمسية لاعبي السيرك Gycklarnas afton " ) قد مسك بمقود الإدارة الكبيرة ، وكاتينكا فاراغو K. Farago ( منتجة فلم " أماني النساء " من عام 1954 ) تفرغت لنشاطنا الفلمي المتزايد. ( ...)
كنا مغتبطين ، و كان تعاوننا على ما يرام ، و تقدمنا في نشاطنا : " همسات وصرخات " ،" مشاهد من الحياة الزوجية " ، " دفاع المجنون " لكييل غيرده K. Gerde ، " الناي السحري ".

- أنا ودينو دي لورينتيس وصلنا الى إتفاق بأن فلم ( بيضة الأفعى ) سيتم تصويره في ميونيخ ، وهو إختيار مدروس جيدا، فأحداثه تجري في برلين العشرينات وليس هناك أي شيء في برلين كي نعثر على مكان للتصوير عدا الحي المجاور لجدارها و المسمى كروتسبيرغ Kreuzberg. وهذا موقع شبحي لم يرمم منذ الحرب.(...)

- ثمة في بافاريا ستوديو كبير فيه 12 أتيلييه ويعمل هناك أربعة آلاف شخص(... ). الناس كانوا ودودين ومضيافين و لذلك قررنا السكن في ميونيخ خاصة اني إستلمت عرضا بتقديم ( لعبة الأحلام ) لسترندبيرغ في المسرح البافاري المسمى Residenztheater . الأكثر من ذلك نلتُ جائزة لها مكانتها تسمى ( جائزة غيته ) التي ستسلم لي في الخريف في فرانكفورت. بحثنا عن سكن وعثرنا عليه لكنه سيكون فارغا في ايلول (...).


- في أحلام النوم الليلية غالبما أجد نفسي في برلين. ليست هي برلين الفعلية بل أخرى ُمستعرَضة : بلا حدود ، مدينة ثقيلة ببنايات ضخمة ُمدخنة وأبراج كنائسية وأنصاب. أتجولُ بدون أنقطاع حيث حركة للشوارع نابضة ، وكل شيء هو مجهول لكنه مألوف رغم ذلك. أشعر بفزع و سرور في آن واحد ، و أعرف جيدا الى أين أنا ماض . أبحثُ عن أحياء سكنية وراء الجسور ، عن ذلك الجزء من المدينة حيث من المتوقع ان يحدث امر ما. أجتاز احد التلال . سفوحة شديدة الإنحدار ، وهناك طائرة مزمجرة تحلق بين البيوت ،وفي النهاية أصل الى النهر. من المياه التي تسيح على الرصيف ينتشلون حصانا ميتا. كبيرا كالحوت.
الفضول والفزع يدفعاني الى مواصلة التجوال. عليّ أن ألحق بموعد إعدامات علنية. حينها ألتقي بزوجتي الراحلة. يحضن أحدنا الاخر بحنان و نبحث عن غرفة في فندق كي نمارس فيها الحب. هي تسير الى جنبي بخطوة خفيفة وأنا أمسك خصرها بيدي. الشارع مضاء بقوة رغم أن أشعة الشمس محرقة. السماء سوداء وتتحرك مصحوبة بأنين مؤثر. ها قد عرفت بأني وصلت
، وأخيراً ، الى الأحياء الموبوءة. هناك مسرح لديه عرض لا يمكن تصوَّره.
ثلاث مرات حاولت أن أن أقدّم هذه المدينة من أحلامي. المرة الأولى كتبت تمثيلية إذاعية إسمها ( المدينة ) عن مدينة كبيرة ذات بيوت على وشك الإنهيار و ملغومة شوارعها. بعدها ببضع سنوات عملتُ فلم ( الصمت ) عن شقيقتين و صبي صغير في مدينة كبيرة جدا خرجت من الحرب وينطق أهلها بلغة غير مفهومة. ومؤخرا قمت بهذه التجربة في ( بيضة الأفعى ). و السبب الرئيسي في الفشل الفني هو أني سميّت هذه المدينة برلين وحددتُ زمن الأحداث بعام 1920. كان ذلك عملا طائشا وساذجا. لوكنت قد قدّمت مدينة من أحلامي ، مدينة لا وجود لها ورغم ذلك َتظهر ، بكل حدة ، بروائحها و دويها ، لو كنتُ قد قدّمت هذه المدينة لكنتُ قد تحركت ُ بحرية تامة و حق مطلق بالإنتماء ، و الأهم هنا لقدّتُ المتفرج في عالم غريب لكن معروف جيدا بصورة خفية. لسوء الحظ إنقدت لذكرياتي من سفرة لي في أحد أيام الصيف عندما لم يحدث أيّ شيء على الإطلاق. في ( بيضة الأفعى ) إخترتُ برلين التي لايعرفها أيّ أحد وحتى أنا نفسي لا أعرفها.

- أصبحت ُ الآن شخصا محترما يملك عملا ثابتا، إنسانا يجلس كل يوم وراء المكتب و يعدّل السيناريوهات ويكتب الحوارات وينظم خلاصات conspectuses الأفلام. كنا خمسة " عبيد سيناريوهات " تحت إدارة مؤهلة وذات روح أمومي - إدارة ستينا برغمان. أحيانا كان يأتي الى غرفنا أحد المخرجين وخاصة غوستاف مولاندر G. Molander .كان ودودا من على مبعدة. كتبتُ سيناريو عن أعوام المدرسة. قرأه مولاندر ووافق على عمل فلم منه. شركة سفينسك أندوستري إشترت السيناريو وإستلمتُ مبلغا لا يمكن تصوره : خمسة آلاف كرونا. آلف سييبيرغ الذي كنت معجبا به ، سيخرج الفلم. أفلحت في أن يكون لي إسهامي في الإعداد للفلم.

- كان عمري ثلاثين عاما حين فشل فلم ( الأزمة ) ثم فصلوني عن العمل في سفينسك إندوستري ( ...)
حقق فلمي الرابع نجاحا متواضعا بفضل حكمة وجهود وصبر لورنس مارمستيدت. كان هو منتجا حقيقيا جاهد من أجلأفلامه وعاش من أجلها بدءاً بالسيناريو و إنتهاءا بالدعاية للفلم.
أنا أدين له بالفضل على تعلمي عمل الأفلام.

- أولوف لاغيركرانتز O . Lagercrantz الذي أنا معجب به أخذ يضطهدني. حين أصبح المعلم الثقافي ( غورو ) في ( داغينس نيهيتير
Dagens Nyheter ) صارت هجوماته تملك أبعادا غروتسكية. وعن فلمي ( إبتسامة الليل ) كتب : ( فنتازيا رديئة لشاب صغير ، و أحلامٌ طائشة لقلب لم ينضج بعد ، إحتقارٌ بلاحدود للحقيقة البشرية والفنية ، هذه هي القوى التي خلقت هذه " الكوميديا " . أنا خجل من أنني شاهدتها ).
واليوم تكون هذه الكلمات مجرد شيء مضحك لكن آنذاك كانت سهما مسموما سبّب الضرر والمعاناة.


بد أ ، من جديد ، عمل أفلام ٍ . ( ...) كان عليّ ، وبدون إبطاء ، أن أعمل فلمين الواحد بعد الآخر. ( النساء ينتظرن ) بالإعتماد على سيناريوهي و( صيف مع مونيكا ) وفق رواية بير أندرس فوغيلستريم P.A. Fogelstrom . للفلم الثاني إختاروا ممثلة تعمل في فرقة إستعراضية ( في : Scala Teatren ) وتحمل جواربا مشبّكة و فتحة الصدر في فستانها عريضة جدا. لم تملك أيّ تجارب فلمية وكانت مخطوبة لممثل شاب. وفي نهاية تموز توجهنا الى مكان التصوير حيث شريط من السفن الراسية .
كان من المقرر أن يكون فلم ( صيف مع مونيكا ) بتكلفة غيركبيرة وحدّ أدنى من العاملين. ( ...)
كانت حياتنا ممتعة هناك في الهواء الطلق. عملنا في النهار الليل وعند الفجر و أيّ كان الطقس.. كانت الليالي قصيرة والنوم بدون أحلام. بعد ثلاثة اسابيع من العمل أرسلنا الأشرطة للتحميض. ونتيجة لعطب في إحدى المكائن حصل عيب في آلاف الأمتار من أشرطة الفلم. وهكذا كان علينا أن نبدأ كل شيء تقريبا من جديد. تظاهرنا بذرف دموع التماسيح ولكن في قرارة أنفسنا كنا مسرورين من هذه الحرية التي أُطيل أمدها.
إن العمل الفلمي هو صنعة إيروسية قوية. القرب من الممثلين محروم من المحاذير ، والإعتماد المتبادل على النفس هو كلي . الخصوصية ، الإخلاص ، الإعتماد ، الحساسية ، الثقة ، الثقة أمام عين الكاميرا السحرية يمنح شعورا دافئا بالأمان ، ولربما هو وهمي. توتر ، إنفراج ، إلتقاط أنفاس مشترك ، لحظات إنتصار ، لحظات هزيمة. الجو مشحون بالنزوع الجنسي sexuality . مرت سنوات طويلة قبل أن أتعلم في الأخير أنه في يوم ما ستتوقف الكاميرا عن الحركة و تطفأ كشافات الضوء.
طيلة كل السنين تعاونا نحن الإثنين أنا وهاريت أندرسون H.Andersson . هي قوية بصورة غير إعتيادية لكنها شخص يسهل جرحه ، تملك موهبة لها بوارق عبقرية. وموقفها من الكاميرا بسيط وحسّي. والأكثر من ذلك هي رائعة تقنياً ، وبلمح البصر تنتقل من أشد معاناة الى التسجيل الصاحي. فكاهتها خشنة ولكنها ليست كلبية ابدا. إنها شخص يستحق الحب وهي أحد أعز أصدقائي.

- غون Gun ( زوجة برغمان التي قتلت في حادث سيارة - ملاحظة المترجم ) أصبحت الموديل لنساء كثيرات من أفلامي : كارين لوبيليوس K. Lobelius في ( النساء ينتظرن ) وآغدا Agda في ( ليلة لاعبي السيرك ) و ماريانا أيغيرمان M. Egerman في ( درس الحب ) و سوزان في ( أحلام النساء ) و ديزيري آرمفيلدت D. Armfeldt في ( إبتسامة ليلة صيف ). (...).

- لدي أحلام تتكرر. الحلم الأكثر عادية هو حلم مهني : أقف في الأتيلييه وعلي أن أعطي شكلا لمشهد ما. الكل حاضرون : الممثلون و المصورون و دافعو العربات والكهربائيون والكومبارس. لسبب ما لا أستطيع تذكرالنص لذلك اليوم. وبدون توقف أبحث في دفتر ي للملاحظات الإخراجية. أعثر هناك على مسائل غير مفهومة. أعود الى الممثلين وأخادع بالقول لأحدهم : أعملْ وقفة ً ودرْ ظهرك للكاميرا ثم قل الموضوع. لحظة ! ، قله بخفوت.

- الممثل ينظر إليّ بريبة لكنه يفعل ما طلبته. أنظر أليه من خلال الكاميرا و أرى نصف وجه وعينا ً محدّقة. وهذا لا يمكن أن يكون شيئا جيدا. أتوجه الى سفين نيكفست الذي ينظر في العدسة ويحصل على وضوح الصورة focus . اثناءها يختفي الممثل ، ويقول أحدهم إنه أخذ فترة إستراحة كي يدخن سيكارة.

المشكلة هي المشهد على الأرضية . بسبب خراقتي تقف مجموعة من الممثلين والكومبارس محشورة في الركن ومستندة الى جدران مضاءة وذات زينة واضحة. أنا مدرك لمسالة أنه سيكون صعبا جدا إضاءة المشهد. وأرى وجه سفين غير الراضي.
أطلب إزاحة الجدار. بهذه الصورة نتحرر و يمكننا الوصول الى المشهد من جهة أخرى. أحد دافعي العربات يقول هامسا إن تحريك الجدارهو في الحقيقة أمر ممكن لكنه سيستغرق ساعتين وإن هذا الجدار مزدوج ومرتبط بسور ٍ ثقيل وغير متحرك تقريبا. و إذا حرِّك الجدار قد يتساقط الجص. أدمدم بإحساس مكدر بأني أنا من فرض ربط الداخل بالجهة الخارجية.
أطلب وضع الكاميرا في فتحة الباب. أنظر في العدسة. الكومبارس يحجبون الممثل. كي يمكن رؤيته عليه أن يتحرك الى الجهة اليمنى. ( فتاة السيناريو script-girl) تنبهني الى أن الممثل كان قد تحرك الى اليسار في اللقطة السابقة.
في الستوديو هدوء تام. ينتظر الجميع بصبر لكنه مشوب باليأس. أنظر بيأس في العدسة. هناك نصف وجه الممثل و عين محدّقة. أفكر هنيهة بأن هذا سيكون شيئا متميزاو سيقوم النقد العالمي بتقديره وتوصيفه ، لكني أنبذ الفكرة لكونها غير نزيهة.
وجاءني فجأة حلٌّ : حركة traveling . حركة الكاميرا حول الكومبارس ، حركة. تاركوفسكي يفعل ذلك في كل مشهد. الكاميرا تتحرك وتحلق. في الحقيقة أنا أعتبرها تقنية تستحق اللوم ، لكنها تحل مشكلتي. فالوقت يمر.
قلبي يخفق بقوة. يصعب علي التنفس. سفين نيكفست يقول بأن مثل هذه الحركة للكاميرا غير ممكنة. لماذا يخلق سفين هذه الصعوبات ، طبيعي أنه يخشى مثل هذه الحركات الصعبة للكاميرا ، صار عجوزا و جبانا. أنظر إليه بيأس . يشير الى شيء وراءي . سحنته حزينة. ألتفتُ . لا أرى هناك أيّ ديكور ، لاشيء غير جدار الستوديو . الحق معه ، فمثل هذه الحركة للكاميرا غير ممكنة.
أنا محبط و لذا قررت إلقاء كلمة قصيرة على العاملين . أريد القول بأني أعمل في الفلم منذ أربعين سنة ، وأخرجت خمسة وأربعين فلما وأني أبحث عن طرق جديدة وأريد أن أجدد لغة الصور، الخاصة بي وإنه ينبغي عليّ أن أشكك بدون إنقطاع بالنتائج التي أصل إليها. أريد التأكيد بأني الروعة ذاتها ، إنسان ذو خبرة كبيرة ، ومشكلتنا في هذا اليوم هي تافهة. و لو أردتُ لأستطعت التراجع ومسك الصورة من أعلى وبإنحراف. ولكان هذا حلا ممتازا. في الحقيقة أنا لا أؤمن بالله لكن القضية ليست بهذه البساطة ، فنحن جميعا نحمل في داخلنا ربّا ما ، كل شيء هو نموذج ندركه أحيانا وخاصة في لحظة الموت. أريد أن أقول لهم هذا الشيء لكنه لا يستحق التعب. إنزاح الناس الى جانب و تجمعوا بعيدا في الستوديو المظلم . هم يقفون متراصين ويتناقشون. لا أستطيع سماع ما يقولون. أرى ظهورهم فقط.

أسافرُ بالطائرة. كنت المسافر الوحيد. الطائرة تتحرك على أرض المطار لكنها عاجزة عن اٌلاقلاع والتحليق. تخترق بأزيز أصم الشوارع العريضة للمدينة. وتبقى على أرتفاع كإرتفاع الطوابق العليا للبيوت. أرى من خلال النافذة الناس وهم يتحركون و يعملون إشارات. اليوم ثقيل بسبب العاصفة. أنا أثق بمهارة القبطان لكني مدرك بأن النهاية قريبة.
أحلق الآن في الهواء بدون طائرة ، أتحرك بذراعيّ بطريقة ما ، وأقلع بكل بساطة عن الأرض. أستغربُ من أني لغايتها لم أحاول الطيران ، فهوعمل بسيط جدا. في الوقت نفسه أنا مدرك بأنه هبة خاصة ، وليس الجميع يعرفون التحليق. أولئك الذين لا يعرفون عليهم أن يستجمعوا قواهم حتى تتقطع أنفاسهم، وباذرع مثنيّة و رقاب مشدودة. أما أنا فأتمايل الآن مثل الطير.
أجد نفسي فوق احد السهول ، ومن المحتمل أنه سهب ، أكيد أنها روسيا. أحلقُ فوق نهر كبير جدا وفوقه جسر عال. عندالجسر يبرز من النهر مبنى مشيّد من الطابوق والدخان ينطلق من مداخن عالية ، أسمع دوي مكائن. إنه مصنع.
النهر ينعطف الآن بشكل قوس ضخم. الشطئان تغطيها الغابات ، الباناروما هي بلاحدود. الشمس إختبأت وراء الغيوم لكن الضوء الذي لايعطي ظلالا هو ساطع. الماء يجري بمسار عريض وهو أخضر شفاف ، أرى من حين الى آخر، ظلالا تتحرك فوق الصخور في العمق ، إنها اسماك كبيرة تتلامع. أنا هاديء وكلي ثقة.
عندما كنت أصغر عمرا كان نومي جيدا إلا أن أحلاما فظيعة كانت تعذبني : جرائم قتل ، عمليات تعذيب ، خنق ، سفاح قربى ، تدمير، غضب مسعور. وفي عمر أكبر كانت الأحلام عابرة لكنها ودودة وغالبما كانت مسّرة.
أحلم احيانا بإخراج مسرحي رائع فيه ناس كثيرون ، موسيقى ، سينوغرافيا ملونة. أهمس لنفسي وأنا في غاية الغبطة : هذا هو إخراجي ، أنا َمنْ خلق هذا الشيء.

- إقترحت ُ على فكتور سييستريم الدورالرئيسي في ( الفراولة البرية ). وكنا قد عملنا سوية في ( الى السعادة ). وبدون الشعور بالحاجة الى مواصلة التعاون معه. كان فكتور متعَبا ومريضا وينبغي في العمل أن تكون هناك حالات مراعاة لوضعه. ومن بينها كان علي أن أعده بأنه سيكون في البيت لتناول شرابه المفضل : الغروغ grog ، في تمام الساعة الرابعة و النصف. ( ...)

كان العمل في الفلم يتقدم ، وفي أحد الأيام كان من المقرر أن نصوّر المشهد النهائي : محبوبات إيساك بورغ تقودنه الى تلّ غارق بأشعة الشمس. في البعيد كان يرى والديه اللذين يلوّحان يدعوانه. أخترنا مكانا مناسبا في ( مدينة السينما ). في الساعة الخامسة عصرا أضاءت الشمس العشبَ ُمبقية ً الغابة َ في الظل. فكتور زعل وصار خبيثا. ذكرني بوعدي : في تمام الساعة الرابعة والنصف عصرا : الغروغ في البيت. توسلتُ إليه. إلا أن فكتور غادر المكان. لكنه عاد بعد ربع ساعة : " ماذا ، ألا نصوّر هذه المشاهد اللعينة ؟ ".
لم يكن ودوداً أبداً لكنه أدى واجبه. في أثناء اللقطة من بعيد مضى مع بيبي
Bibi عبرالعشب المضاء بالشمس ، ودمدم. كان قد أوصد بابه أمام أيّ لطف ٍ. وجرى الإستعداد للقطة المقرّبة. جلس هو جانبا وأحاط رأسه بذراعيه. بالطبع رفض ، بإحتقار ٍ، الإقتراح بتناول الغروغ في هذا المكان. تحركت الكاميرا وبدأت إشارة التصوير. فجأة أشرق وجهه ولانت ملامحه وأصبح ساكنا ووديعا ، إنها لحظة للرحمة. وكانت الكاميرا حاضرة حينها. وعملت ْ. ومعمل التحميض لم يفسد الصور.
بعدها بسنين أدركت ُ بأن "مسرح" فكتور ، هذا كله حول الوعد والغروغ في الساعة الرابعة و النصف وغضبه كانت كلها فزعا ً غير مرَّوض ب من أنه عاجز والأكثر من ذلك أنه سيكون منهكا أو غير مستعد أو أن هذا الدور فوق قدراته. و أني قد ُخدِعتُ و انقدت الى الإلحاح ، لا أريد الشيء نفسه مرة أخرى. هذا الفزع ، هذا الشعور بأني لن أكون مرغما ، ولا أحد يرغمني ، أنا عجوز وُمتعَب ، أوليس كل شيء لامعنى له ، و ِلمَ هذا العذاب ؟ لتخطفكم الشياطين ، أريد أن أكون وحيداً ، أنهيتُ عملي مقابل الأجرة اليومية ، ومن القسوة تعذيب إنسان مريض ، هذا كله فوق قدرتي. لكن رغم كل شيء لأذهب وأجرّب. سيكون الذنب ذنبهم. فهذا شيء لن يلقى النجاح، ولا يمكن أن يكون جيدا. لأذهب الى هناك و أبدي الإستعداد ، كي أبرهن على أني لا أحتمل أطول ، وأنا مهدود القوى. سأبرهن لهذا الغِرّ اللعين على أنه غير مسموح َسوق الناس المسنين الى ما لانهاية. سيتلقى التأكيد على هذا العجز الذي برأيه قد كشفته أنا في أول يوم.
ربما فكرالعجوز بهذه الصورة. وكم هو أمرمتمّيز أني لم أفقه ذلك إلا اليوم حين أكون في الوضع نفسه تقريبا. لقد فهمتُ معنى غضبه. وإنتهت من غير رجعة تلك اللعبة الخالية من الهمّ ، والمللُ كشف عن نابه. الخوف من العجز يهاجم ويخرّب القدرات. في الماضي كنت أحلق بدون عوائق وكنت أحمل الاخرين. أمااليوم فأنا بحاجة الى الثقة وحماس الاخرين ، كما عليهم أن يحملوني كي أرغب بالتحليق.

إجتمعتُ مع الممثلين في مكتب شركة سينماتوغراف الواقع في الطابق العلوي لبيت قديم. كان علينا أن نقرأ ( سوناتا الخريف ). إنغريد برغمان قرأت دورها بصوت راعد وقامت بحركات وتعابير وجه . كل شيء عندها ُملقن و ُمنظم أمام المرآة. كانت تلك صدمة لي. جاءني وجع الرأس ، وفتاة السيناريو script- girl راحت الى السلالم وبكت من الرعب : كل هذا القدر من النغمات الزائفة لم يسمعه أحد منذ الثلاثينات. النجمة قامت بعمل تشطيباتها ومنعت الآخرين من النطق بكلمات قبيحة.
أعلنتْ إن قصة الفلم كلها مملة وينبغي بث الحياة فيها ببضع نكات : - لماذا أنت ممّل هكذا حين تكتب يا إنغمار ؟ في أوقات أخرى أنت تعرف كيف تكون مسليا حقا. – وإستمعتْ الى ( مقدمة prelude ) شوبان والتي كانت الذروة في الجزء الأول من الفلم. المقرر أن تعزفها أولاً الإبنة ثم الأم : - يا إلهي ، هذه القطعة المملة ستعزف مرتين ؟ لكن يا إنغمار هذا سخف ، فالجمهور سيغفو ، على الأقل بمقدورك أن تعثر على شيء جميل و قصير قليلا ، أما هكذا فستكون الحال مملة ، وسأتثاءب حتى الموت.
إنغريد برغمان تقوم بدورعازفة بيانو مشهورة . جميع العازفين يشعرون بألم في أسفل الظهر عدا روبنشتاين. والعازف الذي يؤلمه ظهره يتمدد على الأرض أطول ما يمكن. أردتُ أن تستلقي إنغريد على الأرض أثناء أحدى تصفياتها للحساب. ضحكتْ : أنت حقا مجنون يا عزيزي إنغمار. إنه مشهد جاد . كما أظن لا أستطيع أن أؤدي مشهدا جادا وأنا مستلقية على الأرض . سيكون ذلك مضحكا . الجمهور سيسخر من ذلك. طبيعي أنه ليس هناك من شيء يدعو الى السخرية في هذه القصة المثيرة للرثاء ، لكن لماذا عليك أن تدفع الناس كي يضحكوا في مكان غير مناسب ، هل يمكنك أن توضح لي هذا ؟
عملنا الصعب جدا بدأ تحت حماية مثيرة للقلق. شركة التأمين رفضت توقيع عقد لإنغريد برغمان ، فقد أجريت لها عملية لإستئصال السرطان. بعد أسبوع من بدء التصوير جاء خبر من لندن التي سافرت إنغريد إليها من أجل فحوصات دورية ، بأنها مازالت مريضة وينبغي إجراء عملية جراحية لها على الفور . أعلنتْ بأنها لا بد أن تنهي الفلم أولا ، وسألت فيما إذا كان ممكنا إختصار إسهامها في الفلم لبضعة أيام. وإذا لم يكن ذلك ممكنا فستبقى طيلة الوقت المتفق عليه.
واصلت ْ العمل كما لو أنه لم يحدث شيء. الشكايات من الأيام الأولى تحولت الى هجوم مهني شجاع. إتهمني بإنعدام الصراحة وأرغمتني على أن أقول صراحة ً وبدون مقدمات. قلت لها بما أفكر به وبكل دقة ، وتجادلنا وشاهدنا اللقطات بالصورة التي أرادتها.
في الوقت نفسه إكتشفت إنغريد ظاهرة لم تلقها من قبل أبدا في حياتها المهنية . فبين الكثير من النساء في فرقة العمل ، القويات والمستقلات والمجرِّبات مهنيا و خصوصيا ً ثمة وفاقٌ و مشاعرُ شقيقاتٍ. كانت هناك كاتينكا فاراغو مدير الإنتاج و إنغير بيرسون I.Perssonالتي كانت مسؤولة عن الملابس ، و سيلا دروت C.Drott المسؤولة عن الماكياج وسيلفيا إنغمارسون S. Ingmarsson المونتير و آنا آسب A.Asp السينوغرافست و كيرستين أريكسدوتير K.Eriksdotter ( فتاة السيناريو ) وزوجتي إنغريد مدير المكتب وليف أولمان L. Ullmann الممثلة. و إلتحقت إنغريد بكل رشاقة بهذه المنظومة القوية و إستطاعت في وقت قصير أن تعثر على السكينة في رابطة للشقيقات هي ليست من الصنف العاطفي الرخيص.
في علبة من الصفيح الصديء كانت تحمل معها في تنقلاتها بضعة أجزاء من فلم عن الطفولة والمراهقة. وأثناء أربع عشرة دقيقة يمكن مشاهدة طفلة صغيرة جالسة في أحضان أمٍّ جميلة ، وصبية ترتدي لباس الحداد واقفة فوق قبر أمها ، وفتاة هزيلة في مقتبل العمر تضحك وتغني أمام البيانو ، وإمرأة شابة مبتسمة وهي تسقي الورود في بيت زجاجي . كانت إنغريد بالغة الحرص على فلمها هذا. بعد صعوبات معينة إستطعت أن استعيره كي أعيد لها فلما سالبا جديدا ونسخة جديدة لذلك الشريط الذي سلمتني إياه والخشية مرتسمة على وجهها..
كانت إنغريد غاضبة ونافدة الصبر بسبب مرضها ، وجسمها القوي إستسلم للمرض الذي كان يقرض عقلها أيضا. في الستوديو كانت منضبطة فوق العادة. في البدء إحتجت ولكن بعدها خضعت ، عادة ً ، حين وجدت ْ ُمحفزا في حقيقة أن القراربيد إنسان آخر. في صباح ما إستدارت بعنف وأرادت أن تصفعني ( ربما تظاهرت ) قائلة بأنها ستمزقني إذا لم أخبرها فوراً كيف سأعمل هذا المشهد. أجبتها حانقا بسبب هجمة غير متوقعة بأني رجوتها مئات المرات كي لا تفعل أيّ شيء وأن الهواة اللعينين وحدهم يعتقدون بأنه في كل لحظة ينبغي عمل شيء. سخرت ْ ، من باب المزاح ، لكن بقوّة ٍ ، من سمعتي كمخرج. أجبتها ، و بنفس اللهجة ، بأني أرثي للمخرجين الذي كانوا مرغمين على العمل معها في أيام عزها. تبادلنا بضع إجابات بهذه الطريقة ثم أخذنا نضحك ، وبعدها ذهبنا الى الستوديو حيث كانوا ينتظرونا وكلهم فضول. إنغريد صمتت. أجفانها كانت متورمة كما لو أنها حبست الدموع فيها . وسقط القناع الصارم والكاميرا سجلت وجه إنسان يتألم.
في أثناء التصوير تم تنظيم توثيق فلمي - خمس ساعات لفلم جاهز. بعدها بنصف عام جاءت إنغريد في زيارة وألحت على أن تشاهد ذلك التوثيق الذي لم يكن موضع فخر لها. عندما إنتهى العرض جلست لبضع لحظات صامتة مما كان شيئا إستثنائيا بالنسبة لأنغريد ، ثم قالت بلهجة لاتعاد : كان ينبغي علي ّّ أن أشاهد هذا الفلم قبل أن يبدأ تصوير تمثيلي.
في عصر أحد الأيام جلسنا جانبا وراء الديكورات وإنتظرنا إنتهاء الإضاءة . كان المكان شبه مظلم وجلس كل منا في ركنه على كوشة جلدية ممزقة. إنغريد قامت بحركة هي غير إعتيادية لدى الممثلة : مررتْ يدها على وجهها بضع مرات. وتنهدت بعمق ثم نظرت اليّ بدون إلفة أوالبحث عن إتصال : أتعرف بأني أحيا وقتا مستعارا – إبتسمتْ فجأة - on borrowed time .


- كان عندي عقد مع ( سفينسك فلم – إندستري ) يبدأ وفقه التصوير في حزيران . كان المفروض أن يكون طويلا ومتينا تحت إسم ( أكلة لحوم البشر ). في نهاية آذار أدركتُ بأن المشروع غير واقعي وإقترحت ُ فلما صغيرا فيه إمرأتان فقط. وعندما سأل رئيس الشركة ، عن أي ّ شيء سيتكلم الفلم أجبتُ متملصا ً من السؤال بأنه عن إمرأتين جالستين على شاطيء البحر وعلى رأس كل منهما قبعة كبيرة ، و مشغولتين بالمقارنة بين أيديهما. حافظ الرئيس على قناعه وأعلن بحماس بأنها فكرة رائعة. وفي نهاية نيسان كنت جالسا وراء مكتبي في غرفتي في المستشفى وأراقب إستيقاظ الربيع حول جزء الكنيسة المخصص لكهنة القدّاس ، وعنبر الموتى.
كانت المرأتان تواصلان المقارنات بين الأيدي. في أحد الأيام إكتشفتُ أن إحداهن كانت خرساء مثلي. والثانية كانت ثرثارة متحمسة وترعى الآخرين مثلي . كنت أفتقد القوة الكافية لكتابة السيناريو بالطريقة العادية. المشاهد نشأت بصعوبة بالغة ، وبالكاد تمكنتُ من صوغ الكلمات والجمل. والرابط بين ماكنة المخيلة و العجلة المسننة للتجسيد كان مقطوعا أو معطوبا الى حد بالغ. عرفتُ ماالذي أريد قوله لكني لم أقدرعلى التعبير عنه.
كان وتيرة العمل بطيئة مثل زحف الحلزون ، من يوم الى آخر ، كما كانت هناك فترات إنقطاع بسبب هجمات الحمى و الإضطراب في التوازن والضجرمن هذا الوضع الميؤوس منه. بدأ الشعور بإفتقاد الوقت. إذ ينبغي التعاقد مع الممثلين . وهنا كنت واثقا. أحيانا كنت أتناول الغداء مع صديقي الطبيب ستوري هيلاندير
S. Helander . كان هاويا متحمسا للفوتوغرافيا . بالقرب من لوفوتي Lofoti كانوا يسجلون ( السيّد ) لهامسون Hamsun لكن بعنوان واعد ( الصيف قصير ). هيلاندير وزوجته زارا مكان التسجيل ‘ فقد كانوا من أصدقاء بيبي أندرسون المقربين . إلتقط الدكتاور صورا كثيرة . كان يعرف أني أحب رؤية الصور وهكذا أراني مجموعته المكونة من صور لزوجته والجبال. لكن كانت هناك صورتان لفتت إنتباهي بشكل خاص : بيبي أندرسون واقفة أمام حائط خشبي مصبوغ بالأحمر القاني. والى جانبها ممثلة شابة تشبهها ولا تشبهها في الوقت نفسه . تعرفتُ عليها. كانت مع الوفد النرويجي للممثلين الذيإستضافه ( المسرح الدرامي ) قبل عام. إعتبروها ممثلة ذات موهبة واعدة ، وكانت قد أدت دور يوليا ومرغريت . إسمها ليف أولمان.
جرى البحث عن هاتين السيدتين اللتين سافرتا مع زوجيهما الى يوغوسلافيا لقضاء العطلة.
وعندما إنتهى الموسم في ( المسرح الدرامي ) كنتُ قد أنهيت كتابة السيناريو. إلتقيتُ بممثلتيّ. كانتا مسرورتين ، وإنتظرتا ، فزِعتين ، بدء التصوير.
إثناء المؤتمر الصحفي كان قد عاودني ، بإلحاح ، الإضطراب في توازني. ألح المصورون الفوتوغرافيون علي بأن يلتقطوا لي صورة تحت شجرة بتولا ، مع السيدتين لكني رفضت. عجزتُ عن الحراك. الصورة فيها ثلاث هيئات شاحبة بعض الشيء ومائلة رؤوسها الى اليسار. عندما شاهدها كييل غريدي : ممثلة عجوز ُتخرج كلابها السلوقية في الهواء الطلق.
تمَّ تحديد موعد بدء التصوير. ومكانه صبح فوري Faro . كان هذا الإختيار سهلا. فوري هي منذ اعوام طويلة حبي السرّي. وفي الحقيقة كان أمرا يثير العجب. فأنا ترعرت في دالارنا Dalarna . النهر والجبال والغابات و المراعي هي منظر طبيعي مسجَّل عميقا في وعيي. رغم ذلك فأنا وقعت في غرام هذه المنطقة.
حدث ذلك بهذه الصورة : في عام 1960 كان من المقرر أن أعمل فلما بعنوان ( كما في المرآة ) ، عن أربعة من البشر في جزيرة. في المشهد الأول يخرج الأربعة من بحر هائج. أردتُ و من دون أكون هناك قبلها ، أن يتم التصوير في موقع أوركادي Orkadi . إدارة الإنتاج وجدت التكاليف باهضة ووضعت طائرة هيليكوبتر تحت تصرفي كي أرى سريعا الشواطيء السويدية. رأيتُ ثم عدت ُ وأنا أكثر تصميما على تصوير الفلم في أوركادي. الإدارة التي أصابها اليأس تذكرتْ فوري . إذن على فوري أن تكون شبيهة بأوركادي لكن أرخص ، و عملية أكثر والعمل فيها أسهل.
كي نضع حدا لأي نقاش توجهنا في يوم نيساني عاصف الى غوتلاند Gotland كي نشاهد فوري على عجل و نقرر نهائيا إختيار أوركادي. سيارة إجرة قديمة كانت بالإنتظار في فيسبي Visby . أقلتنا تحت المطر والثلج الى مرسي العبّارة. وبعد عبور بحرعاصف هبطنا في فوري . ورافقنا الحظ و ضجيج محرك السيّارة . أخذنا نقطع طرقا زلقة و متعرجة على طول الشواطيء المحيطة بالجزيرة.
في الفلم كان هناك حطام سفينة ملقى على الساحل. درنا حول رأس صخري ، وهناك كان الحطام ملقى، حطام سفينة روسية لصيد سمك السلمون وبالضبط كما كنت قد كتبته. كان من المخطط أن تحيط بالبيت القديم أشجار تفاح قديمة أيضا. عثرنا على حديقة أما البيت فبمكنتنا أن نشيّده. وفق السيناريو كان على الساحل أن يكون صخريا ، وعثرنا عليه كما كان يلتفت صوب الأبدية.
في الأخير أقلتنا السيّارة الى الأعمدة الصخرية في الجانب الشمالي من الجزيرة. وقفنا هناك نواجه عاصفة بحرية وأخذنا ننظر بعيون دامعة الى أعمدة الآلهة الغامضة التي رفعت جباهها صوب الأمواج والأفق المسوَّد.
في الحقيقة لا أعرف ما الذي حدث. فأنا عثرتُ على مشهدي الطبيعي ، بيتي الحقيقي ، وإذا أردتُ أن أكون فكها يمكن القول عن الحب من النظرة الأولى.
قلتُ لسفين نيكفست بإنه لو خيّرتُ لرغبتُ في قضاء بقية حياتي في الجزيرة وبناء بيت هناك بالضبط حيث توجد كواليس البيت الفلمية. إقترح سفين أن نبحث على مبعدة كيلومتر جنوبا. اليوم يقف هناك بيت. بني في عامي 1966 – 1967.
لتعلقي بفوري عدة اسباب . أولا جاءت إشارات من حدسي : هذا هو مشهدك الطبيعي يا برغمان. إنه يلائم أعمق تصوراتك عن الأشكال والتناسبات والألوان والآفاق والأصوات ، وأحوال السكون والأضواء والإنعكاسات. هنا الأمان. لا تسأل لماذا ، الإيضاحات هي عقلنة خرقاء ومتأخرة ex post . مثلا : في مهنتك تبحث عن التبسيط والتناسب والتوتر والإنفراج والتنفس. المشهد الطبيعي لفوري يعطيك كل هذا وبوفرة.
أما الأسباب الأخرى فهي : علي ّ أحصل على الكفة الأخرى للميزان. الأولى هي المسرح. فعلى ساحل البحر أستطيع أن أجن ّ و أصهل . طيّب ، في أقصى الأحوال يحلق في الهواء أحد طيور التم. ولكن في المسرح يكون هذا الشيء كارثة.
هناك الإعتبارات العاطفية : كان علي أن أنسحب من العالم ، أقرأ الكتب التي لم أقرؤها بعد ،أتامل النفس بالطبع. ( بعد شهر كنتُ ملتزما بصورة يائسة في قضايا سكان الجزيرة مما أعطاني في النتيجة " وثيقة من فاروي 69 " . )
الإعتبارات العاطفية التالية : أثناء تصوير ( بيرسونا ) إشتعلت عواطفنا أنا و ليف ( أولمان ) . في سوء فهم رائع بنينا بيتا على أساس حياة مشتركة في الجزيرة. نسيت ُ أن أسأل ليف عن رأيها. وقد تعرفتُ عليه بصورة متأخرة من كتابها " تبدلات ". شهادتها هي ، كما أعتقد ، عموما صحيحة من ناحية الحب. وبقي هو بضع سنوات. كنا نكافح شياطيننا قدرالإمكان. بعدها إستلمت دور كريستين في ( المهاجرون ). بفضل هذا الدور صعد نجمها عاليا. حين تركتني كان كلانا يعرف مغزى ذلك.
إن الوحدة التي يختارها الإنسان طوعا يمكن تحملها. أنأ ، وبكل حرص حددتُ طراز الحياة. كنت أستيقظ مبكرا وأتنزه وأعمل وأقرأ. في الخامسة كانت تأتي الجارة وتعدّ الغداء وتغسل الأواني وتغادر البيت. في السابعة كنت وحيدا ثانية ً.
كان لدي سبب في تفكيك الماكنة ومعاينتها. لم أكن راضيا عن أفلامي الأخيرة وعروضي المسرحية لكن عدم الرضا هذا جاء بعدها. في أثناء العمل كنت أحمي نفسي وحواسي من النقد الذاتي المدمِّر. لكن مع مرور الوقت أفلحتُ في الحكم على أخطائي وحالات ضعفي.


في فلمي ( ساعة الذئاب ) حاولت ، فيما بعد ، أن أقدم مشهدا حرّك مشاعري أكثر من غيره : تامينو Tamino يبقى وحده في باحة القصر. كان المكان مظلما . سيطر عليه الشك واليأس. أخذ ينادي : أيها الليل المظلم ! متى تختفي ؟ متى أعثر على الضوء في الظلام ؟ - الكورال يجيب ، برقة pianissimo ، من المعبد : - فورا ً ، فورا ً و إلا أبداً! – تامينو : - فورا ؟ فورا ؟ ، فورا وإلا ابدا. أنتم ، أيتها المخلوفات المختفية ، أعطوني الجواب : أما زالت بامينا Pamina حيّة ؟ - الكورال يجيب من البعيد : - بامينا ، بامينا لاتزال حية.
هذه الفواصل الموسيقية tacts الأثنا عشر تحوي سؤالين مطروحين عند نهاية الحياة - وكذلك جوابين. حين كتب موتسارت هذه الأوبرا كان مريضا وشعر بالموت. وفي لحظة يأس لايطاق صاح : أيها الليل المظلم ! متى تختفي ؟ متى أعثر على الضوء في الظلام ؟ - الكورال يجيب على نحو ملتبس : - فورا ، فورا وإلا أبدا. – موتسارت المريض المشرف على الموت يلقي السؤال في الظلام. من هذا الظلام يجيب هو على سؤاله - لكنه هل حصل على الجواب ؟
بعدها كان هناك سؤال ثان : - ما زالت بامينا حيّة ؟ الموسيقى تترجم السؤال البسيط للنص الى أكبر الأسئلة : - ما زال الحب حيّا ؟ هل الحب موجود حقا ؟ الجواب يأتي مصحوبا بالرعشات لكن بالحب أيضا ، وفي فصل غريب لإسم بامينا : - با – مي - نا مازالت حيّة ! ليس المقصود هنا إسم إمراة شابة جذابة ، إنها كلمة " الحب " مشفرة. با – مي – نا ما زالت حيّة ! الحب موجود. الحب موجود حقا في عالم البشر.
في ( ساعة الذئاب ) تتحرك الكاميرا بانوراميا ً مستعرضة ً الأبالسة التي بفضل الموسيقى هدأت بضع هنيهات ، ثم تقف مصوِّرة وجه ليف أولمان . إعتراف بالحب ُمضاعَف ، جاء برقة لكنها مصحوبة بفقدان الأمل.

- أخرجت بضعة أفلام ذات نوعية تثير الشك لكني كسبت الكثير من النقود. أنا نفسي في حال سيئة بعد إخراج فاشل لكنه كان قد ُخطط بصورة رائعة ، وكان إخراجا ببطولتي وليف أولمان ، أما الديكورات فكان بهيئة الصخور في فوري Faro . أحد الناصرين protagonists الفعّالين هرب وبقيت وحدي في مكان العمل . قمتُ بإخراج جيد ل( لعبة الأحلام ). وغرقتُ في عشق ممثلة شابة ، وأفزعتني آلية التكرار ، وأنسحبُ من جديد الى جزيرتي. كتبت ُ في جو من الميلانخوليا طويل الأمد ، سيناريو فلم بعنوان ( همسات وصرخات ).
جمعت ُ مدخراتي و أقنعت ُ ممثلة الأدوار الرئيسية الأربعة كي تسهم بأجرتها في تمويل الفلم ،كما إقترضت نصف مليون ( كرون ) من ( معهد الفلم ). وعلى الفور أبدى الكثيرون من العاملين في السينما إستياءهم . إشتكوا من أن برغمان يقطع رزق زملائه السويديين ، فقد كان بإمكاني أن أعثر على تمويل للفلم في الخارج. لكن الواقع لم يكن بهذه الصورة. بعد حالات فشل جزئي كثيرة لم يكن هناك ممولين في البلاد ولا في الخارج. وكان ما فعلته صحيحا ولاغبار عليه. كنت أقدر ، دائما ، الفظاظة العلنية للفلم العالمي. ولاينبغي أبدا على الإنسان أن يشك بقيمته في سوق الفلم. أما قيمتي فكان تعادل الصفر. أشباه الكتاب بدأوا للمرة الثانية في حياتي بالكلام عن أن سيرتي الفلمية قد إنتهت. ومن العجيب أن كل هذا اللاإكتراث الأخرس أو المعبَّر عنه لم يؤثر فيّ.
صوّرنا الفلم في جو من الثقة الحية بالنفس. ومكان التصوير كان ضيعة بائسة قرب مارييفريد Mariefred . المنتزه هناك كان مهملا ، وتلك الغرف الجميلة كانت في حال سيئة لدرجة أننا كنا قادرين على تغييرها كما شئنا. خلال ثمانية أسابيع عشنا وعملنا في تلك الضيعة.
أشعر بالأسف أحيانا على أني كففت عن عمل الأفلام. وهذا الأسف طبيعي و يزول سريعا. وأكثر ما آسف عليه هو التعاون مع سفين نيكفست ، ربما السبب في أن إشكالية الضوء قد سحرتنا نحن الإثنين ، وبلا حدود . الضوء الوادع ، الخطر ، الخدر ، الحيّ ، الميت ، الواضح ، المضبّب، الحار ، العنيف ، الشحيح ، الفجائي ، المظلم ، الربيعي ، الساقط ، الخارج ، المستقيم ، المنحرف ، الحسّي ، المكتوم ، المحدود ، المسموم ، المسّكِن ، المنير. الضوء.
أنهيت فلم ( همسات وصرخات ). إستغرق العمل في الفلم الكثير من الوقت . العمل في تسجيل الصوت والتجارب المختبرية إستمرت طويلا وكانت باهظة الثمن. وبدون إنتظار النتيجة بدأنا نصوّر ( مشاهد من الحياة الزوجية ) من أجل التسلية بالدرجة الرئيسية. وأثناء التصوير تلفن محاميّ وأخبرني أن النقود ستنفد خلال شهر واحد. بعتُ للتلفزيون حق العرض في البلدان السكندنافية وأنهينا فلمنا الذي يستغرق عرضه ست ساعات ، بصورة مبكرة لكن ليس كثيرا.
تبين أن العثور على موّزع أميركي ل( همسات وصرخات ) ليس بالأمر السهل. لقد حاول وكيلي باول كونير P. Kohner وهو تاجر مجرّب ، لكن بدون نتيجة . موّزع معروف صرخ بوجه كونير بعد مشاهدته الفلم :-
I will charge you for this damned screening . وفي الأخير أشفقت علينا شركة صغيرة مختصة بتوزيع أفلام الرعب والبورنو الخفيفة . حصلت فجوة في برامج دور السينما النيويوركية من الدرجة الأولى بسبب أن فلم فيسكونتي لم يكن جاهزا للعرض. وبيومين قبل عيد الميلاد عرض ( همسات وصرخات ). وكان ذلك العرض العالمي الأول للفلم. ( ... )
بيوم قبل عشية عيد الميلاد تلفن بول كونير. كان صوته غريبا . أخذ يدمدم :
It is a rave, Ingmar , it is a rave ! لم أعرف ما معنى " rave " . مرت بضع لحظات قبل أن أدرك النجاحَ التام للفلم. بعدها بعشرة أيام بعنا الفلم لأكثرية البلدان التي تملك دورا للعرض.
إنتقلت شركة سينماتوغراف الى مكان أكبر. نظمنا صالة عرض جميلة بتجهيزات رائعة ، وأصبح مكتبنا مكانا لطيفا للقاءات ومركزا لنشاط يتطور بهدوء. كنت هناك منتجا ومنفذا لمشاريع مع مخرجين آخرين.
لا اعتقد بأني أصبحت منتجا جيدا ولأني لم أسع الى الهيمنة. أصبحت بسبب ذلك غير نزيه ، وبالغ التسامح ومفتقد للمطاليب.غالبما سنحت لي الفرصة كي أراقب عبقرية لورينس مارمستيدت كمنتج ٍ ، وحزمه و صرامته المتناهية و صدقه وروحه القتالية. كذلك رقته وتفهمه وحساسيته. لوكنا نملك منتجا واحدا لاغير من وزن مارمستيدت لما أصبحوا منسيين سينمائيونا الموهوبين : يان ترويل J.Troell وفيلغوت سييمان V. Sjoman وكاي بولاك K. Pollak وروي أندرسون R. Andersson وكييل غريدي و بو فيديربيرغ B.Widerberg ومارياني آرني M Arhne . تلك الفترات الطويلة المليئة بإنعدام اليقين والشعور بالأمان ، والمطامح المفرطة والمشاريع المرفوضة. وفجأة حفنة ملايين والصمت واللامبالاة و الدعاية الجبانة . حين َينتج الفشل ، أو الشقاء ، عن نيات طيبة ويصبح واقعا تأتي تلك الإبتسامة الخبيثة : - ماذا ، ألم نقل ؟
زيجة طيبة ، أصدقاء طيبون ، شركة تعمل جيدا ولها مكانتها الطيبة أيضا . رياح هادئة هبّت حول أذنيّ البارزتين قليلا. صار للحياة مذاق أحسن من أي وقت مضى. ( مشاهد من الحياة الزوجية ) حقق النجاح. ( الناي السحري ) كان نجاحا آخر.
ولكي نحتك ولو مرة واحدة بالشهرة سافرنا ، أنا و إنغريد ( زوجتي ) الى هوليوود. كنت مدعوا رسميا الى سيمينار في مدرسة السينما في لوس أنجلس . وهذا ناسبني بصورة رائعة. في الخارج هو حجة غير مشكوك فيها ، أما في داخلي فهي لذة غير إعتيادية بل تكاد تكون محرّمة.
كل شيء حصل فجأة وبصورة طيبة : سماء صفراء سامة فوق لوس أنجلس. عشاء رسمي مع المخرجين والممثلين. غداء لايمكن وصفه في قصر دينو دي لورنتيس المطل على المدينة و المحيط الهاديء ، الزوجة سلفانا مانيانو
S. Mangano . جمال منته من الخمسينات تحوّل الى هيكل عظمي سائر ٍ بجمجمة ممكيجة جيدا وعينين قلقتين جريحتين. الإبنة الجميلة ذات الخمسة عشر ربيعا التي هي على الدوام جنب أبيها ، طعام سيء ، تأدب مدروس ولامبال.
في المساء غداء آخر : وكيلي باول كونير ، المحارب القديم في هوليوود دعا الى المائدة بضعة مخرجين شيوخ . وليم وايلر ، بيلي وايلدر، وليم ويلمان. المزاج قلبي وكاد أن يكون مرحا. تكلمنا عن الدراماتورغيا البسيطة والرائعة للفلم الأميركي. و ليم ويلمان روى كيف تعلم ، في بداية العشرينات ، المهنة بإخراج أفلام قصيرة. قبل كل شيء كان المقصود أن يتم تحديد الوضع بسرعة : في المشهد شارع ُمترب أمام " صالون ٍ saloon " ما . على العتبة يرقد كلب صغير. يخرج البطل من هناك ويربت على الكلب . الشرير يخرج و يرفس الكلب ثم يمضي . الدراما يمكن ان تبدأ. بعد دقيقة واحدة إستطاع المتفرج أن يعرف من يحب ومن يبغض.
( ... )
قبل أعوام طويلة زارني في مدينة السينما جيروم روبنز J. Robbins بصحبة صديقته ذات الجمال الأخاذ. كانت تجربة لاتنسى : إتصال طبيعي ، سهل ولكنكان هناك إحتكاك ملتهب. شعور بالأسى عند الوداع. وعد حار بلقاء آخر سريع.
لم يحصل هذا الشيء وهو لا يحصل أبدا. الحياء البرغماني الفلاحي ، الخشية من مشاعر غير محسوبة : الأحسن أن يكون المرء كابحا لمشاعره و يصمت ويتفادى . الحياة بدون هذا كلها مجازفة ، وأقول شكرا وأتراجع بحذر ، ويتحول الفضول الى خوف ، وها أني أقدّر يوما عاديا رماديا . فمثل هذا اليوم يمكن أن نحيطه بالنظر والقيام بإخراجه.
( وجها لوجه ) كان عليه أن يكون فلما عن الأحلام و الواقع . كان على الأحلام أن تصبح واقعا ملموسا. وكان على الواقع أن يتطور ويصبح حلما. لبضع مرات أفلحتُ في التحرك بدون عقبات بين الحلم والواقع : ( بيرسونا ) ، ( ليلة لاعبي السيرك ) ، ( الصمت ) ، ( همسات وصرخات ). هذه المرة صار ت الحال أصعب. الخطة تتطلب الإلهام الذي ُهزِم. والمشاهد الحلمية أصبحت مرَّكبة ، هنا وهناك كانت مشاهد قوية وليف أولمان قاتلت كاللبوءة. بفضل قوتها و موهبتها حافظ الفلم على تماسكه. ولكن حتى هي لم تستطع أن تنقذ الذروة ، الصرخة الأولى التي كانت ثمرة للنص لكنها مستهلكة بدون عناية. العجز الفني كشر عن أنيابه من خلال أساس واهن.
أخذت الدنيا تظلم ، وأنا لم أر الظلام.
أراد التلفزيون الإيطالي أن يعمل فلما عن حياة المسيح. ودعمَ المشروع ممولون معروفون. جاء وفد مكوّن من خمسة أشخاص الى السويد وحددوا العمل. أجبتهم بخلاصة conspect عن آخر أربعين ساعة من حياة المخلص. وكل حدث يخص أحد الأشخاص الرئيسيين للدراما : بيلاطس و زوجته ، بطرس الذي أنكر المسيح ، مريم أم المسيح ، مريم المجدلية ، الجندي الذي وضع تاج الشوك على رأس المسيح ، سمعان الذي حمل الصليب ، يهوذا الخائن. لكل هؤلاء الأشخاص حدثهم الذي حين إصطدم بدراما الجلجلة دمّر نهائيا ً واقعهم وغيّر حياتهم. أخبرتُ الوفد بأني أرغب في أن أصور الفلم في جزيرة فوري . و السور الذي يحيط فيسبي Visby سيكون سور أورشليم. والبحر سيكون بحر الجليل. وعلى تل لانغهامار Langhammar الصخري أردت أن أرفع الصليب.
الإيطاليون قرأوا الخلاصة وأخذوا يفكرون ثم إنسحبوا بهدوء. دفعوا مبلغا ليس بالقليل وكلفوا فرانكو تسيفيريللي F. Zefirelli بالمهمة. ونتج عنها ( حياة وموت المسيح ) تماما كما في كتاب جميل مصوّر ، إنجيل حقيقي للفقراء
Biblia pauperum .
إظلمت الدنيا و أنا لم أر الظلام.
كانت حياتي بهيجة وفي الأخير حرة من النزاعات الممزقة. تعلمتُ العيش مع شياطيني . كما عرفت ُ كيف أحقق حلما من أحلام طفولتي. في بيت مرمم على نهر ديمب Damb في فوري يوجد إسطبل عمره مائة سنة و شبه مهدم. قمنا بترميمه وإستخدمناه كأتلييه بدائي حين صورنا ( مشاهد من الحياة الزوجية ) . بعد الإنتهاء من التصوير تحول البناء الى صالة عرض مع معمل مبتكر للمونتاج في غرفة السقف.
( ... )

عندما يتقدم الإنسان في العمر تقل حاجته الى التسلية. أنا ممتن للأيام البهيجة التي لا تأتي بالأحداث والليالي التي لا يطول الأرق فيها. داري للسينما في فوري تجلب متعة لايمكن تبديدها. بفضل لطف ( مكتبة الأفلام التابعة لمؤسسة الفلم ) إستطعت أن استعير الأفلام من إحتياطي للنسخ لا ينفد. المقعد مريح والصالة الصغيرة دافئة ولطيفة ، ويحل الظلام وترتسم الصورة الأولى على حائط أبيض. هدوء. آلة العرض تحدث ضجيجا يسمع بالكاد ، وتلتفت صوبي الوجوه وتريدني أن أشاهد مصيرها.
مرت ستون سنة لكن الإثارة لاتزال نفسها.


جاء شارلي شابلن بزيارة الى ستوكهولم للدعاية لسيرته المنشورة حديثا. وسألني ناشره لاسه بيرغستريم L. Bergstrom فيما إذا رغبت في لقاء الرجل الكبيير في ( غراند هوتيل ) ، وأنا رغبت . في العاشرة صباحا طرقنا الباب. فتحه على الفور شابلن بنفسه. كان لباسه نموذجيا – بذلة غامقة اللون تناسبه تماما ، وفي عروة سترته كانت تشع شارة ( فرقة الشرف ). رحب بنا بصوت مبحوح ، متكسر وبأناقة عالمية. من غرفة بعيدة جاءت زوجته أونا Oona و بنتاه الشابتان الجميلتان مثل غزالتين .
بدأنا فوراً الحديث عن كتابه. سألته متى إكتشف للمرة الأولى بأنه يثير الضحك وأن الناس يضحكون ، في الحقيقة ، منه. هز رأسه بحيوية وروى بأنه كان يعمل لدى كيستون Keystone مع مجموعة فنانين تحمل إسم : Keystone cops . كنا نقدم مشهدا خطرا أمام كاميرا غير متحركة . كان ذلك مشهدا شبيها بمشاهد تلك الإستعراضات
Variete . في أحد الأيام طلبوا مني أن أطارد شريرا ضخم الجثة ملتحيا و مصبوغا بالأبيض. يمكن القول إنها كانت مهمة روتينية. بعد ركض طويل وسقطات تم القبض في الأخيرعلى الشرير ، بعد الظهر. جلس على الأرض محاطا برجال البوليس الذي كانوا يضربونه بهراواتهم. شابلن توصل الى فكرة مبتكرة وهي أن لا يضرب بدون توقف كما أمروه . بدل ذلك سعى للحصول على مكان في تلك المجموعة كي تراه الكاميرا. وهناك أخذ يتهيأ للضرب لكنه توقف عدة مرات في اللحظة الأخيرة. وفي النهاية حين إستعد جيدا لتوجيه الضربة أخطا هدفه وسقط على الأرض. الفلم عرض على الفور في دار
Nickel – Odeon . وذهب شابلن لرؤية النتيجة. عندما فشل في تسديد الضربة ضحك الجمهور للمرة الأولى من شارلي شابلن.
جاءت غريتا غاربو الى السويد بزيارة قصيرة كي تستشير طبيبا سويديا. صديقتها تلفنت إلي وأعلمتني بأن النجمة ترغب في زيارة ( مدينة السينما ) عند العصر. وهي لا ترغب بوجود لجنة للإستقبال. وسألت فيما إذا كنت راغبا في إستقبالها ومرافقتها في مكان العمل القديم.
بعد الساعة السادسة في يوم بارد من أيام ما قبل الربيع توقفت سيارة سوداء لامعة في صحن ( مدينة السينما ) . رحبتُ مع مساعدي بالضيف. بعد حالة إرتباك ومحادثة مغتصبة بقيتُ مع غريتا غاربو لوحدي في غرفتي البسيطة هناك. مساعدي تفرغ للترحيب بصديقة غريتا و قدم لها الكونياك وآخر الشائعات.
كانت الغرفة صغيرة - مكتب ، ومقعد وأريكة مستهلكة . جلستُ وراء المكتب و غريتا غاربو على الأريكة ، وكان المصباح على المكتب مضاءا. قالت على الفور وهي تجيل بصرها في الغرفة : هذه غرفة ستيللر Stiller . لم أعرف بالضبط قصدها. أجبتُ أن غوستاف مولاندير جلس هنا قبلي لكن بالطبع هذه غرفة ستيللر ، أنا أعرف بالتأكيد. تحدثنا قليلا بصورة لاتخلو من الفوضى عن ستيللير و سييستريم ، وروت لي أن ستيللير أخرج أحد افلامها في هوليوود. قالت : في الأساس كان حينها منبوذا ومريضا. لم أعرف بذلك . فهو لم يشكو أبدا ً ، و أنا كانت لي حاجاتي الخاصة بي.
وساد الهدوء.
فجأة نزعت نظارتها الشمسية التي تحجب وجهها كله وقالت : " هكذا أبدو إذن أيها السيد برغمان" . كانت الإبتسامة سريعة ومضيئة ومازحة.
يصعب القول إن الأساطير الكبرى هي مغناطيسية بدون توقف ولأنها أساطير أم أن هذا السحر هو وهم خلقناه نحن المتلقين. في تلك اللحظة لم يكن هناك أيّ شك. في الظلام الخفيف في تلك الغرفة الصغيرة كان جمال غريتا غير زائل. ولوكانت ملاكا من أحد الأناجيل لقلتُ بأن جمالها تصاعد حولها. كانت هناك طاقة حيوية حول قسمات الوجه الواضحة والجبين وشكل العينين ، والحنك ذي الهيئة النبيلة ، ورهافة الأنف. شعرت هي فوراً برد فعلي. إنتابتها الحيوية وبدأت تتحدث عن العمل في فيلم ( غيستا بيرلنغ ( Gosta Berling . صعدنا في ( المدينة ) الى ما يسمى بالأتيلييه الصغيروذهبنا الى الطرف الغربي . ما زالت هناك تلك الحفرة بعد الحريق في أكيبي Ekeby . ذكرتُ أسماء دافعي العربات والكهربائيين ، وكلهم ، عدا واحد ، فارقوا الحياة. وهذا الوحيد طرده ستيللير من الستوديو لأسباب غير معلومة. وقف هو مثل الجندي وأدى التحية ثم إنصرف. ومنذها لم يدخل الستوديو بل صار بستانيا وخادما في ( مدينة السينما ). و عندما أحبَّ مخرجا ما وقف مستعدا ورفع أداة جمع العشب كأنها بندقية ، الى كتفه. و أحيانا كان يردد بضعة مقاطع من النشيد الملكي. ومن لم يحبه كان يجد على الدوام أمام سيارته كومة ثلج أو أوراق يابسة.
أطلقت غريتا غاربو ضحكة صافية ومكتنزة. تذكرتْ بأنه كان يطعمها كعكا بيتيا. لم تجرؤ أبدا على رفض هداياه.
تجولنا في المكان سريعا. كانت ترتدي تنورة أنيقة وتسير بنشاط ، وكان جسدها ينبض حيوية وجاذبية. وفي طريق منحدر كان المكان زلقا ولذلك تأبطتني. عندما عدنا الى غرفتي كان الجو مرحا ومنفرجا. مساعدي وضيفته أحدثا ضجة.
- آلف سييبيرغ أراد أن نعمل سوية فلما ، جلسنا في السيارة في ديورغاردن Djurgarden طوال ليلة صيف وثرثرنا. كان ُمقنِعا لدرجة أنه لم يكن ممكنا مقاومته. وافقت ُ ولكن في الصباح غيّرت رأيي ورفضتُّ. كان ذلك في منتهى الحمق. ألا تعتبر يا سيّد برغمان بأنه كان غباءاً ؟
إنحنت بإتجاه المكتب كثيرا وأضاء المصباح الجزء الأسفل من وجهها.
رأيت ُ حينها شيئا لم أنتبه إليه في البدء ! كان فمها قبيحا : شق شاحب محاط بتجاعيد متقاطعة. كان ذلك شيئا غريبا ومثيرا للحنق. هذا الجمال كله ووسطه نغمة زائفة. هذا الفم وما رواه لم يقدر أيّ جرّاح في التجميل أو خبير في الماكياج أن يغيّره بأيّ نوع من السحر. قرأت هي على الفور أفكاري ، وصمتت مثبطة العزيمة.
قمت بدراستها في آخر أفلامها ، وكان عمرها 36 سنة. وجه جميل لكنه متوتر ، فم محروم من الليونة ، النظرات غير مرَّكزة على الغالب وحزينة رغم المواقف الكوميدية. و كان جمهورها قد شعر بشيء عكسته مرآتها.

قبل سنين شاهدتُ أحد افلام والت ديزني للرسوم المتحركة. يروي الفلم حكاية بطريق ٍ شعر بالحنين الى بحر الجنوب. بعد فترة من الوقت توجه الى هناك لكنه حط ّ بين أشجار نخيل في إحدى الجزرالحارة التي تحيطها مياه زرقاء. على نخلة حفر صورا ً من منطقة المنجمد الجنوبي وبدأ يبني قاربا كي يعود الى هناك.
أنا مثل هذا البطريق. عندما عملت في ( Residenztheater ) غالبما كنت أفكر بمسرحي الدرامي القديم . إشتقتُ الى البلد واللغة والزملاء والجماعة كلها. اليوم أنا في البيت وأشتاق الى التحديات والصعاب والمعارك الدامية والفنانين الذين يحتقرون الموت.
في عمري الان أصبح المنبّه ما هو غير ممكن . أنا أفهم بأني سولنيس Solnessالذي أخذ يتسلق برج الكنيسة رغم أنه يعاني من دوار الرأس . يقول المحللون النفسيون إن الدافع الى القيام بغير الممكن يبقى على علاقة مع القوة الآخذة بالتناقص. وهل كان بمقدور المحلل النفسي أن يقول شيئا آخر؟
أنا عندي دوافع أخرى. الفشل قد يملك طعما طريا ومكتنزا ، وهو يوقظ العدوان و ُُيحيي َخلقا مخدَّرا ً. إن تسلق السفح الشمالي الغربي لمون أفريست
Mount Everest يمنح الشعورَ بفورة الحماس. وقبل أن أصمت لأسباب بيولوجية سألقى الإعتراض وأرغب أن أكون موضع التساؤل. ولست أنا من يرغب في ذلك بل ما يحدث في كل يوم. أريد أن أكون متعِبا وصعبا ًعند وضعي في مكان ما.
اللاإمكان أمر مغر جدا ، فأنا لا أملك شيئا لفقدانه ولا أملك أيضا للكسب أكثر من تصفيق حار في بضع صحف. تصفيق ينساه القراء بعد بضع دقائق وأنا نفسي سأنساه بعد عشرة ايام.
وفي الأخير فالحقيقة مرتبطة ، وفق تفسيرنا ، بالزمن. وفي الحقيقة إختفت عروضنا المسرحية في ظلمة شفوقة لكنه ما زالت بضع لحظات من العظمة أو البؤس تلقي ضوءا وادعا. أما الأفلام فستبقى وستشهد على التبدل الفني القاسي للحقيقة. (...).

- قبل بضع سنوات كتبتُ سيناريو سينمائيا غير ناجح كثيرا بعنوان ( عشق بلا عشاق ) . ونشأت منه بانوراما للحياة في ألمانيا الغربية ، وأعتقد بأنه كانت تشوبه عاطفة متوقدة للسجين، وهي بالتأكيد خاطئة.
ومن هذا العملاق الفاطس فصّلتُ شيئا أصبح فلما للتلفزيون بإسم ( من حياة الدمى ). لم يكسب الود لكنه يعود الى أفضل أفلامي ورغم أن هذا هو رأي القلائل.
في هذا السيناريو الفاشل الذي يبلغ طوله ست ساعات ُوجد هناك ُمعادِلٌ للقلق في البنية الأساسية ، صياغة ٌجديدة ٌ paraphrase لحكاية أوفيد Ovidius عن فيلومين Philomen و باوتشيس Baucis. لقد وضعتُ هذه الحكاية مثل محراب سليم في عمق كنيسة مهدمة.
( ... )



فوري – 1986.9.25
 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire