jeudi 26 avril 2012

ثقافة سينمائية

الأزمنة الفلمية *
  
بقلم الباحث البولندي يجي بواشيفسكي
  
ترجمة: عدنان المبارك
  

منذ زمن غريفيث و فلمه ( التعصب ) لغاية الستينات على أقل تقدير لم يزدد عدد السينمائيين الذين هم مسحورون بإشكالية الزمن في الفلم. فبفضل المونتاج إستطاع خالق الفلم ، بكل سهولة وبغمضة عين أن ينتقل في قصته من ( اليوم ) الى ( الغد ) الذي أصبح ( يوما ) جديدا، وكذلك من ( اليوم ) الى ( الأمس ). والأكثر من ذلك تبين بسرعة أن القفزات المفاجئة منذ سقوط بابل ، منذ مذبحة البروتستانت الفرنسية ، منذ عذاب المسيح ، الى كرونيكيل البوليس في أميركا المعاصرة ، وبالعكس ، تملك عدا المجازفة في القيام بمثل هذا التجربة ، آفاقا أستيتيكية وأخرى إنفعالية.
ان الإنسان الخاضع لطغيان الزمن وبدون إنقطاع في الحياة ، والمتورط في تراجيديا إنقضاء الزمن ، قد وجد إمكانية للأنتصارعليه. وكانت هي الفلم. إن التأرجح والتقافزعلى مستويات الزمن وتقهقره ورؤيته عن قرب ( كما في " فاوست " غيته : لتوقف اللحظة في مكانها ) ، و تقطيعه الى عوامل أولى والتغيرات في تعاقب الأحداث ( إذن في منطقة السببية ) كانت كلها بالتأكيد موضع إهتمام بقية الفنون التي تتصرف بمرتبة الزمن وخاصة الأدب . إلا أن أيّ من هذه الفنون لا يمكنه أن يضاهي الفلم فيما يتعلق بالسهولة والإيحاء في تقويض القواعد الزمنية القديمة وخلق أخرى جديدة.
و ليكن البرهان هنا الحرية التي يتصرف بها الفلم ( بالطبع ليس الفلم وحده ) عند تحويله العمل الفني المكاني الى زمني . و أقصد هنا الفلم التسجيلي الشهير للوتشانو أيمير L. Emmer ( حكاية عن جدارية ) والمكرس لجدارية جيوتو Giotto في degli Scrovegni Capella في مدينة بادوفا Padova . ( حين يعيد أيمير في الزمن وبمساعدة الصور والمونتاج ، خلقَ جدارية جيوتو المتفتحة في المكان أوليا ً، إنما يكشف عن جيوتو بسند آخر هو التصوير الموسيقي والحركة الدرامية ل"الأفلام " ... وعندالوقوف أمام "خيانة بهوذا " أو " مذبحة الأبرياء " نكون كما لو أننا برفقة فلم حقيقي متحرك ) " 1 " . فإيمير لم يفعل شيئا غير منح التعاقب الزمني للرسوم الموضوعة في الجدران وفق التعاقب المكاني وكما في القصة المصوَّرة.
أن قوة الخلق الجبارة الكامنة في خامة الفلم محررَّة على يد الفنانين المسهمين ، سواء عن قصد أو بدونه ، في النقاشات الفلسفية لعصرهم. و بالفعل فعصر السينما هو في الوقت نفسه عصر الخلافات الفلسفية حول جوهر الزمن. و في عام 1895 نفسه الذي أقام الأخوان لومييه Lumiere عرضهم السينمائي الأول للجمهور ظهرت دراسة أميل بوترو E.Boutroux ( مفهوم القانون الطبيعي ). وفيها شكك بكلتي النظريتين الكلاسيتين عن الزمن : المادية التي يكون الزمن وفقها شكلا للمادة قائما بصورة موضوعية ، والمثالية الكانتية التي يكون الزمن فيها مجرد شكل مسبق لعقلنا. وقد طوّر بوترو فرضية تحتمل النقاش مفادها أن اشكال العقل هي قيمة غير ثابتة أيضا ، وهي نوع من التوفيق بين عاداتنا المزمنة والظواهر التي هي موضع البحث والفحص. وقبل أن تتقدم السينما ، ولو كتسلية أسواق ، جاء آينشتاين بفرضيات مثيرة عن نسبية الزمن حيث قال إنه وفق مكان المراقِب يمكن لحدثين أن يتزامنا أو لا يتزامنا و إنه لايوجد زمن واحد بل هناك ازمنة كثيرة بل وحتى أن تعاقب الأحداث هو شيء نسبي.
في مثل هذا المناخ قام الأدب للمرة الأولى بتجارب عديدة معتمدة على الإبتعاد عن الزمن الروائي الكلاسي الإنضباطي . فجويس دمر الكرونولوجيا مسجّلا ً أفكاره في هامش للتقهقرغير منظم زمنيا ، و يحتل الجزء الأكبر من الرواية. وبروست يقرر مصارعة إنقضاء الزمن و النسيان كي ( يستخلص جوهر إنفعالاتنا من خلال ربطها وإنقاذها أمام صدفية الزمن ). وتوماس مان يفحص وعي أبطاله وتشكل شعورهم بالزمن فيه ( في الوعي ) - الزمن المعتمد على التجارب الذاتية.
ومن الواضح أن على الكثير من هذه الإختمارات أن يتمثلها فن ٌ كالفلم ، لايخشى ديكتاتورية الزمن . و تزداد الأعمال التي يكون شاغلها الرئيسي
فحص الهياكل الزمنية وتأثيرها على النفس. مثلا في فلم ( ضيوف المساء ) لكارنيه Carne يوقف إثنان من رسل الشيطان في زمن حفلة رقص بلاطية ، ماكنة َ الوقت العادية : إثنان من ضحاياهما ، آن Anne ورينو Renaud يعيشان ، وفي خارج الزمن الفعلي ، كاملَ مشهد المنتزه والذي يغيّر مجرى حياتهما. ( إن تجميد زمن حفلة الرقص يسمح للمتفرج بأسلوب محسوس به الإنتقال من " الزمن الكرونولوغي " الذي يجري في ال( أكشن ) الخارجي ، الى " الزمن البسيكولوجي " الذي يتحقق فيه مصير الشخصيتين ) " 2 " ، بعبارة أخرى ينبذ المتفرج الزمن الموضوعي كي يدخل في إستمرارية صرفة توقظ في الحياة المشاعر والأفكار حيث تولد أفكار وطموحات وقرارات " خارج زمنية ". ويمكن التشكيك بالبرهان الفلسفي لمثل هذه التجارب لكن غير ممكن حرمانها من الجرأة الأستيتيكية.
إن تسليط الضوء على إمكانيات مغرية ناتجة عن التنظيم الفلمي للزمن يدفعنا الى العودة الى وظيفة الفلم الأكثر حَرْفية وفق مرتبة الزمن :
الفلم هو صورة ديمومة العالم . إنه الوظيفة الأساسية التي ينبغي أن يستند إليها الوصف التالي للإعتماد المتبادل الظاهر بوضوح خاصة ً ، في شريط الخيار اليينمائي ، و بوضوح أكبر في فلم بسيط قائم على أداء الممثلين و يذكر بفلم الأخوين لومييه ( فطور الطفل ).
وللمرة الأولى حققت الفوتوغرافيا في عملية عكس العالم الخارجي ، مثل هذه الدرجة من المصداقية والتي جعلتنا نعامل ، من خلال إعادة خلق الشيء ، وجود الشيء نفسه بالوثوق نفسه الذي نواجه به وجود الأشياء الطبيعية. و يكتب اندريه بازان : ( الفوتوغرافيا لا تخلق ، شأن الفن ، الأبدية لكنها تقوم بتحنيط الزمن وتصونه من التدمير الذاتي ) . إذن أهو الفلم ؟ ( لا يكتفي الفلم بالحفاظ على الشيء وحده والمصهور في لحظته كما هي مصهورة حشرة ما قبل التاريخ في كتلة من العنبر. إنه يحرر الفن الباروكي من تشنجه. وللمرة الأولى تكون صورة الأشياء صورة إستمراريتها كما لو أنها مومياء التغيّر ) " 3 " .


الزمن الحاضر


ليس الفلم صورة للأشياء فقط بل هو صورة لإستمراريتها أيضا " 4" .
بأي اسلوب يمكن القيام بإستعراض للصفات الخاصة بصورة الإستمرارية على القماشة البيضاء للشاشة ؟
لننبذ تقسيم الزمن الى موضوعي و مشوَّه آليا ( أُسرِع فيه ، أُبطيء فيه ). فهو تقسيم غير مفيد كثيرا.
كذلك لا تمضي بعيدا أقوال جان ليرين كما لو أن العمل الفلم الجاهز تصرف بالزمن الماضي فقط ، فمنذ أمد بعيد أصبح مغلقا في شكله النهائي : " وحتى الزمن المستقبلي في السينما هو في الجوهر ماض ٍ ، صورة ٌ تحلّ بعد لحظة ، وسبق له أن خضع للتكوين والإستمرارية ". ووفق مفهوم المؤلف يكون الزمن التلفزيوني هو الزمن الحاضر وحده ولأنه يسمح بالإسهام في نشوء الأحداث ، ويملك تدخلا محتملا لما هو غير متوقع .
ويمكن أن ُيحرم أيضا الفلم الجاهز من حقه في الزمن الماضي نظرا ً لمسألة تكراره : فهو ينقض مؤكدَ هيراكليت بأنه لا يمكن النزول الى النهر نفسه مرتين ، إذن لكان أكثر صوابا ً الكلام عن زمن ما " ثابت " أو " متعدد" ، لو لم يملك مثل هذا الزمن ، الزمن الأنثولوجي للشريط الفلمي ، الكثيرَ من الصلات مع تجربة الزمن التي يمر بها المتفرج السينمائي أثناء العرض.
كما أنه لا تبدو كثيرة النجاعة التفرقة ، لكن الصحيحة ظاهريا حسب ، بين الزمن الماضي الذي يلصق بالأفلام التأريخية والآخرالمستقبلي كزمن خاص بأفلام الفنتازيا العلمية بأسلوب ( النجم الصامت ) ، و من ناحية أخرى بين أفلام المعاصرة الممثلة للزمن الحاضر.
إن النتائج المهمة حقا ً هنا نلقاها فقط في القول إن الصفة الداخلية للصورة الفلمية هي الحاضر. وكما في الفوتوغرافيا رغم أن التنفيذ يعود الى أكثر من مائة عام ، يقدّم الزمن الحاضر بالعلاقة مع زمن القائم بالتنفيذ ، و الحال نفسها مع أحداث الشاشة ولو أن سقوط بابل على يد الفرس قد يتلقاه المتفرجون كزمن ٍحاضر.
أكيد أن ذلك لم يكن بكاف ٍ للسينمائيين الذين خلقوا لأنفسهم تقاليدا تسمح بالرواية في الزمن الماضي ، ويسعون الى السيطرة أيضا على الزمن المستقبلي. إلا أن هذه المساعي هي على الغالب خارج – صورية ، وفي كل الأحوال تحصر الصورة بين هلالين. والمضمون المحصور بين الهلالين يبقى رغم كل شيء زمنا حاضرا مما يسهل التأكد منه إذا جئنا الى العرض متأخرين وأبصرنا مشهدا يكون بمثابة إسترجاعا في الزمن. والمؤكد أننا نتقبل المشهد كزمن حاضر يسبب لنا صعوبات كبيرة في فهم ال( اكشن ) ، وذلك حين يعود خالق الفلم الى الزمن الحاضر " 5 ". ببساطة لم نكن بعد في الصالة عندما كان الجمهور قد أُعلِم بواسطة إشارات متفق عليها ومعروفة أي أن الأحداث التي تظهر بعدها ينبغي تنسيقها في الزمن كي تسبق تلك التي ظهرت قبلها" 6" . أما الأحداث فهي لاتوحي بأيّ شيء.
وبهذه الصورة يكون الزمن الحاضر مبدآ طبيعيا للسينما، إلا أن تشويهه وفق بنية معينة متفق عليها يعطي تأثيرات الزمن الماضي والمستقبلي والى آخره.
إلا أنه في حدود هذا الزمن الحاضر من المناسب القيام بتفرقة أساسية . فالزمن الحاضر الفلمي يندر أن يساوي الزمن الفعلي الفيزيائي. و الإنحرافات عن الزمن الفعلي قد تظهر في كلى الإتجاهين ( التكثيف و التمديد )، إلا أنه على الغالب تحصل في إتجاه التكثيف. وبفضل المونتاج يمكن القيام بصورة أكثر مرونة بالمقارنة مع الزمن الطبيعي الذي يفرض على جمهور المسرح داخلَ الفصول المقدَّمة أو حالات الكشف عن تقاليد conventions غير واقعية.
ويجدر أن نضيف هنا بأنه في حقل فلم الرسوم المتحركة والذي يكون أساسه أسلبة الواقع ، أي أسلبة الزمن الفعلي أيضا ، لاتوجد أسس لفحص إنحرافات الزمن الفلمي عن الآخر الفعلي. فهناك من المفروض على الزمن الفلمي أن يملك كامل إستقلاله ويخلق مجرى للأحداث يملك إيقاعه الخاص به كما لا يملك أنظمة مباشرة للإحالة ( و للأسف يحصل هذا الشيء بصورة مغايرة في أفلام الرسوم المتحركة ، المضجرة حين تعتمدعلى النسخ الآلي لحركات الممثل الحيّ ، و التي تتعارض واقعيتها المضحكة مع القوانين التي تمليها خامة فلم الرسوم المتحركة ).


الإنحرافات عن الزمن الفعلي : التكثيف


يحوي الإتفاق غير المكتوب ، لكل سارد مع جمهوره شرطا وهو شغله بتلك الأحداث التي تعني شيئا في كامل الرواية فقط. وهذا الإتفاق يصوغه ألفريد هتشكوك بإختصار حين يقول :( الفلم هو حياة أزيلت عنها لطخات الضجر ). بالطبع من الصحيح القيام بالمسح ، فلكل خالق مفهومه عن ( لطخات الضجر ) وحتى أنه من الممكن تعريف أسلوبه الشخصي بالإعتماد على مسألة أيّ أجزاء من المادة الروائية ُترمى خارج السرد وأيّ أجزاء هي المرغوبة.
بمعزل عن الفوارق الفردية فإن مبدأ الدراماتورغيا الفلمية هو الإستثناء الصارم لأيّ نوع من ( الأزمان الضعيفة ) للسرد. ولذلك فمن ذنوب الخالق الفلمي الرئيسية التي يكرهها المتفرج هي ( الإطالات ) التي تولد الملل. إن السهولة التقنية في وضع السرد في كثير من المقاطع الزمنية ، والقيام بقفزات زمنية متباينة الطول ، تحرر الدراماتورغي الفلمي من ضرورات المسرح المثيرة للأعصاب . فالمسرح يأمر بإختراع المواقف الأقل إحتمالا من أجل أن يأخذ من الدراما شخوصا في زمكان واحد.
يمكن القول إن السرد الفلمي يتألف من أعداد ضخمة من الإضمارات elipsises التي يسهل على المتفرج ملاحظتها. فإذا كنا نرى في نهاية الشارع البطلَ المقترب من الكاميرا في كادرعام وفيما بعد ُتظهره اللقطة في كادر متوسط عندما يبتعد عن الكاميرا وهو يمسك بمقبض باب بيت صغير نكون قد حزرنا بصورة صحيحة وآلية أن البطل قد قطع الشارع كله في طريقه الى البيت ولم يحدث أي شيء له شخصيا أثناءها. بالطبع هناك إضمارات أقل سهولة تتطلب من المتفرج جهدا أكبر في التفكيرالمستقل ، مثلا ربط لقطتين لاعلاقة قوية بينهما من ناحيتين : التعاقب الزمني والسبببية.
إن كل فعل فلمي لابد من إظهاره ،لإعتبارات ما ، ولايملك أهمية دراماتورغية مستقلة ، يمكن تقصيره الى ثلث التقديم الفعلي. ويتم ، عادة ، توليف بداية ذلك الفعل وخاتمته ، ونادرا ما يحصل إضافة لقطات في المنتصف. وفي الكثير من الاحوال يفلح السينمائي في أن يخلق لدى المتفرج الإنطباع بأنه كان شاهدا لإستمرار ذلك الفعل من بدون تجاوز أجزاء منه.
يقوم الديالوغ و حركات الكاميرا بخفض إمكانية تكثيف الزمن الفلمي. وكل جملة ينطق بها الممثل تتطلب بالضبط ، زمنا على الشاشة هو نفسه في الواقع أيضا. كذلك لا يمكن للسينمائي،وكيفما يشاء ، تقصير الفترة بين جملتين من الحوار، فلطولهما أهمية بسيكولوجية عموما. إن حركة الكاميرا مشروطة بصورة صارمة بنقطة الإنطلاق ( مثلا : المشهد العام للغرفة ) ونقطة الوصول ( َتوّجه الكاميرا الى وجه البطل إلى حد اللقطة المقرّبة ) وكذلك سرعة هذا التوجه التي تمليها حاجات الدراماتورغيا والبسيكولوجيا. إذن في أثناء حركة الكاميرا تكون الإمكانية الوحيدة للتكثيف الزمني هي، وبالضبط ، إستثناء جزء من الحركة. إلا أن هذه مهمة صعبة تقنياً ، فالقفز في الزمن يتم التأكيد عليه حين يكون هناك قفز آخر ، في المكان ، مما يؤثر سلبا على إستمرارية السرد.
وعلى العكس من ذلك يفتح كل وصل مونتاجي الطريق أمام شتى أنواع القفزات في الزمن. وعامة كل ما يكون القطع أقل في الفلم تكون اللقطات المتفرقة أطول وحينها يكون الفلم قريبا من الزمن الفعلي.
إن الخصائص التكثيفية للسرد الفلمي تسمح ببناء ( أكشن ) الفلم بالإعتماد على عشر سنوات ونيف من حياة عائلة عمالية ( فلم دميتريك Dmyrtyk "ثمن الحياة " ) و كل حياة المرأة ( فلم دونسكي" المعلمة الريفية " ) ومصائرجيل عائلة ألمانية واحدة ( فلم ميتسيغ Maetzig " أربعة أجيال ") أو في الأخير تأريخ الأفكار عبر 2500 سنة من تأريخ العالم ( فلم غريفيث " التعصب " ).


الإنحراف عن الزمن الفعلي : التمديد


توفر عمليات المونتاج إمكانية تمديد الزمن الفلمي كي يزيد عن زمن إستمرار مشهد معين. وكان على مجزرة السلالم في ( المدرعة بوتيومكين ) أن تستمر دقيقتين إذا راعينا عدد السلالم ووتيرة مسيرة القوزاق ، لكن زمنها الفلمي بلغ ست دقائق. إن الأحداث المكثفة التي تسهم فيها شخوص كثيرة كان ممكنا إعادة خلقها بطريقة واحدة وهي تفريق العقد : أحذية الجنود الدائسة على ضحايا المجزرة ، الفزع الذي أصاب الحشد ، الأم التي قتل إبنها ، عربة الرضيع المتدحرجة على السلالم، معوّق بدون ساقين، المعلمة التي أصيبت في عينها ، المدافع الرشاشة التي تطلق نيرانها. إن عرض مجرى هذه اللحظات المؤثرة في قطاعات معينة من الملاحظة قد قادت المخرج الى خلق بضعة أزمنة مستقلة مرتبطة فيما بينها من خلال إبقائها في إطار زمان واحد هو الأعلى الذي يحدد بداية ونهاية هذا المشهد. أما تلك الأزمنة فهي مستقلة ذاتيا وجزئيا تتراكم فوق بعضها بعضا لكنها مستمرة في الوقت نفسه.
لا يشعر المتفرج بتأثير التمديد كعمل غير واقعي يخالف تجربته أي على العكس من الأخرى حين يحصل إبطاء الحركة أو حتى عند الإستخدام الأكثر مرونة لفرضية بودوفكين عن ( الوقت ُمقرَّبا ً ).
إن العملية موضع الوصف أعلاه تستخدم و ليس في المشاهد العامة فقط بل كذلك في مشاهد الحركة السريعة التي قد تصعّب وقتيتها momentariness على المتفرج تلقيَّ المضمون الجوهري. مثلا في مشاهد سباق الخيل أو السيارات يُختصَر وقت الشاشة ( أي العرض ) المخصص لبدء السباق و يطال وقت تصوير السباق في نهايته وبهذه الصورة يتم مضاعفة الزمن الفعلي .
و يجدر أن نضيف هنا عن بعض اللقطات الرمزية للمشاهد الطبيعية ( غروب الشمس ، مدّ البحر ) : رغم أن أن مرور الوقت هو ظاهر فيها ( حركة أوراق الشجر أو الأمواج ) فهي تخلق الإنطباع بأن الزمن قد توقف "7 " .


الزمن الموقوف


قد يؤدي إبطاء الزمن الفعلي من خلال تمديده ، في حالات قصوى ، الى وقفه وحشر قصة أخرى في الفجوة الحاصلة. وهذه القصة تكون إسترجاعية عادة . ومن المفهوم أن وقف الزمن ينتج عنه عموما وقف الحركة.
إن هذا التقليد معروف جيدا في الأدب. فكامل الأجزاء الروائية الضخمة لبروست هي من الناحية الشكلية نتيجة غمس الكعكة في الشاي مما يكون الأمر شبيها بالإنهيار الثلجي بسبب تحرّك حجر صغير . و في حالة بروست كان الإنهيار يخص ، بالطبع ، الذكريات. ويبدو البحث عن مثل هذه اللحظات ، لحظات العُقد في السرد narration والتأكيد عليها عن طريق وقف الزمن الموضوعي الذي ينظم الخالق بعده ، ومن جديد ، قصته زمنيا ، مهمة ً مغرية ً أمام الدراماتورغيا الفلمية.
وكانت خطوة في هذا الإتجاه مقدمة فلم مانكيفتش ( كل شيء عن حواء All about Eve) أي مشهد تسليم البطلة الجائزة والذي إستخدمت فيه حيلة وقف الحركة ( وبذلك وقف الزمن ) مما يدفع السارد الى رواية قصة البطلة.
إلا إن مخيلة السينمائيين تخلق الأوضاع التي يتوقف فيها الزمن الفعلي لكن ليس للكل ، فليست تلك المرويّة التي حصلت أثناء تعليق القصة، هي عملية إسترجاع. و في المثال الذي إستشهدتُ به من فلم ( ضيوف المساء ) لم تتوقف آن ورينو في زمنهما ، وبهذه الصورة قد يعرض الفلم و ليس فقط أفكارهما ( وهي محرومة من البعد الزمني ) بل نشاطهما الفيزيقي أيضا.


الزمن الفعلي


لمرات كثيرة راقبنا كيف تظهر في السينما المعاصرة تقاليد أزاحتها الفترة البطولية للفلم الصامت بسبب إستعارتها من الأستيتيكا المسرحية التي تناقض جوهر فن الفلم .
على أساس الزمن الفعلي يبدو الوضع لهذه الصورة ، وفي حالة القيام بتبسيط كبير : بعد إنتصار فنان الفلم على مرتبة الزمن ، وبعد التفكيك الى بضع عشرات من مختلف المستويات الزمنية ، صاريعلن عن حضوره ، أكثر فأكثر ، رد الفعل. فالسينمائيون يتخلون عن إستخدام عدد غير محدود من القفزات في الزمن ، بيد أن الزمن الفلمي للأحداث يقوم بتسويتها مع زمنها الفعلي.
في هذا المكان يصعب الكلام عن ( هجمة ) للتقليد المسرحي . بالأحرى قد تكون ، هنا ، ضغوط ما من جانب الدراماتورغيا التلفزيونية. إلا أن القضية هي أعمق .فكما يبدو يسمح التطورالحالي لوسائط التعبير الفلمي بالتنفيذ ، فلمياً بالطبع، لمهام كان يصعب تحقيقها على الشاشة بأسلوب فني مرض ٍ . مثلا كان فلم سيدني ليوميه Lumet S. ( إثنا عشر رجلا غاضبا 12 Angry Men) عملا يصعب تنفيذه في حقبة الفلم الصامت ، ولو كان هذا الفلم في الثلاثينات لجاء ، وفق نظرية مارسيل بانيول Pagnol عن ( المسرح في معلبات ) بديلا ً لفن حقيقي.
إذن فصوغ وسائط ٍ للتعبير الفلمي ، وكانت تعتبر سابقا ً ذات أهمية أقل ، يسمح ، في حالات يبررها المضمون ، بإعادة النظر بالقناعات المقرَّرة منذ سنين حول ( لا فلمية ) بعض الحلول.
إن التصرف بالزمن الفعلي في الفلم هو خروج على البنى الدراماتورغية للملحميات مثلا ، ويكون قبولا ً لإحدى وحدات المسرح الكلاسي. غير أن الزمن الفعلي يحوي صفات ثمينة قادرة على تلافي نواقصه. ففي ال( أكشن ) المتين والمشبع بالروح الدرامية والمحروم من ( الأزمنة الضعيفة ) يستثني إستخدام ُ الزمن الفعلي التدخلَ الآمري للمخرج كما يقرّب المتفرج ، ولأقصى حدٍّ ، من الواقع الموضوعي ، ويزيل الحدود بين العَرْض ِ والحياة ِ ، و يرّكر إنتباه المتفرج على النزاع الرئيسي كما يشدد من توتره .
إن تسجيل المجاري الزمنية في شكلها الأولي أي من دون تصنيف و تكثيف ، قد يكون عملا صحيحا أيضا إذا كان ال( أكشن ) بطيئا ومحروما من نقاط إنعطاف فورية. فحينها سيكون الأمر إعادة خلق تيار الحياة نفسه في أثناء نشوئه أي وقتيته المداوِمة persistent . من وجهة نظر البطل سيكون ذلك إنعكاسا آخر لتقنية المعاناة نفسها ، للإستعداد والتوقع الدائميين لشيء ما. وفي فلم ( المولودون من جديد ) لأليجريه Allegret و الذي نشا في محيط فلسفة سارتر هناك مشهد طويل ُصوّر وفق تقليد الزمن الفعلي : إمرأة شابة في وسط غريب فوجئت بمرض زوجها. تجلس قربه وهو مغمى عليه ولا يحدث أي شيء حينها عدا أحداث عادية يومية لاصلة لها بال( أكشن ) الرئيسي . وحين يطيل المخرج تلك الدقائق غير المملوءة بأيّ شيء إنما يأمر المتفرج ومعه البطلة أن يعيشا حالة اللاتوقع التي قد تأتي في كل لحظة بحسم خطِر ٍ ٍ وغير معلوم. وهذا المشهد يذكر بعض الشيء بمفهوم بودوفكين عما أسماه ب( الزمن مقرَّبا ً ).
والنموذج الكلاسي للزمن الفعلي في الفلم المحروم من وحدة زمكان ال( أكشن ) هو فلم زينيمان Zinneman ( في منتصف النهار High - Noon ) الذي يبدأ الأكشن فيه في العاشرة صباحا و ينتهي وفق عنوان الفلم في منتصف النهار. ووقت عرض الفلم يستغرق بالضبط نفس ذلك الوقت : ساعتين. إلا أن التحليل الدقيق للزمن يكشف عن نبذ فترات من الوقت تمَّ التعويض عنها بتركيم فترات أخرى تنقضي في وسطين مختلفين للأكشن.
ولامناص في أن يحصل تقيّد أكبر في إستخدام الزمن الفعلي في الأفلام التي تحترم وحدة المكان وال( أكشن ) ، مثل فلم هتشكوك ( الحبل ) ، وخاصة فلم ( إثنا عشررجلا غاضبا ) . فهنا يشعر المتفرج بأنه سجين في داخل الزمن الفعلي للأبطال . وسوية معهم ينتظر التطور الحتمي للأحداث والذي لا مهرب منه في أيّ إسترجاع ٍ ولا أيّ نكوص ٍ ولا أيّ حذف ٍ elipsis - تماما كما في الحياة.



مرور الزمن


لو إستخدم الزمن الفعلي في جميع الأفلام لما كانت هناك قضية تحديد مرور الزمن. ولكان مرور الزمن الفعلي ذات مرور الزمن الفلمي ولتلقاه المتفرج فيزيائيا.
إن أكثرية الأفلام بل جميعها تقريبا تملك أطرا ً زمنية أوسع ، وأحيانا أوسع بكثير ، من زمن العرض الذي يستغرق عموما ساعتين. وليست بمهمة سهلة من الناحية الفنية تحديد قدر الوقت بين المشاهد المتعاقبة. و الشيء نفسه يخص المهمة التالية : تحديد قدر الوقت الذي مرّ.
ثمة إتفاق عام يخص مسألة أن كتابة جملة ( إنقضت خمس دقائق ) مثلا هو عمل ليس بالجيد . ومنذ إختراع الصوت كانت الإشارة الأكثر شيوعا الى مرور الوقت هي الإنتقالات الحوارية .
في سيناريو ( المواطن العظيم ) هناك إنتقالة كلاسية. عميل مخابرات أجنبية يطلب من كارتاشوف كي يخرب بناء القنال. „ بالطبع ، بالطبع ، بناء القنال أيضا – يوافق كارتاشوف ، ( قطع ). العمل في القنال يستمر أربع وعشرين ساعة. المصابيح مضاءة في الحفر المظلمة و السقالات ... و في إيقاع عاد لضجيج العمل يحدث فجأة ، دوي رهيب " „ 8 „ .
وهو امر أكيد بأن هذا الشيء غير ضروري إذ يمكن تحديد مرور الوقت بمساعدة الحوار ، وبصورة دقيقة تماما ، مثلا : " القافلة ستقدم في الساعة السابعة ( صباح الغد ، بعد أسبوع إلخ ) ثم قطع يعقبه مشهد قدوم القافلة.
تعد الوسائط البصرية الصرفة ذات قيمة أكبر لكن يصعب أيضا هنا إبتكار شيء أصيل عدا حركة عقارب الساعة والنزع المتوالي لأوراق التقويم.
في ( قبعة القش ) لرينيه كلير أصبح زمن تواجد العاشقين في مسكن غريب محدَّدا بلقطات مقرّبة لمنفضة الرماد الفارغة ثم المليئة بأعقاب السكائر. وفي أحد افلام لوبيتش Lubitsch المبكرة ، بعنوان ( الفردوس المحظور ) وهو من زمن الفلم الصامت ، أشير الى مرور الزمن بلقطات لسدادة قنينة شامبان واحدة تعقبها أخرى لعشر ونيف من السدادات " 9 „ . وفي فلم ( جوني بيلندا ) لنيغوليسكو Negulesco تستخدم لقطات لسلة فارغة ثم مملوءة بالأسماك. و في فلم كلوزو ( ثمن الخوف ) يقاس الوقت الذي إنقضى منذ إنفجار العربة المحملة بالديناميت ، بكمية النفط السائل من الأنبوب الذي أعطبه الإنفجار ، والتي تملأ الحفرة التي أحدثها .
و المنهج الناجح الآخر الذي يخدم مسألة تحديد القفزات في الزمن والتي أمدها سنوات كثيرة هو إظهار التبدل في عمر البطل الذي صار الآن رجلا قوم ممثل آخر بدوره. في فلمي ( المواطن كين ) و ( معجزة في ميلانو ) كانت مثل هذه التبدلات تخص عمر البطل بين الطفولة و الفتوة أي في حين يسهل ملاحظة تغيّر الطلعة.
ومن الأنجع تحديد القفزات الزمنية الكبيرة التي تغيّر مصير البطل ،بمساعدة أحد أنواع التعاقبات المكثفة أي ما يخص تركيبات لفترة حياة شخصية الفلم. إن تلك اللقطات القصيرة التي تربطها الموسيقى وحالات التخلل من رحلة تسامبانو Zampano و جيلسومينا Gelsomina في فلم ( الطريق La Strada ) ومعها صور لأجزاء الطرق و المشاهد الطبيعية من مختلف فصول السنة هي التي تحدد الزمن الذي كان يفصل بين مقتل لاعب السيرك ونبذ تسامبانو لجيلسومينا.
ومثل هذه القفزات يمكن القيام بها بأسلوب واضح أيضا من خلال التحديد الدقيق للأوقات التي تحصل فيها اللقطات الجديدة ومع الإفتراض بأننا لا نعرف تأريخ اللقطات السابقة. و قد يحصل هذا من خلال لقطة لعنوان صحيفة أو ورقة في التقويم. وهذه المسكة المعروفة عرف فون ستيرنبيرغ von Sternberg كيف يجدّدها في فلمه ( الفراشة الزرقاء ). إذ ينزع ياننغ Janing ينزع هناك ورقة من تقويم عام 1924 مستخدما ملقط عشيقته ، وبعدها تقوم الكاميرا بالإقتراب من التقويم نفسه لكنه هذه المرة لعام 1929. كما من الممكن الإستناد هنا الى حدث تأريخي معروف عامة. في فلم ميتسيغ ( أربعة أجيال ) كان مثل هذا الأمر أعلان النفير العام في عام 1914 الذي سبقه سؤال الطفل : ( بابا ، ماهو النفير ؟ ).
في الأفلام التي تجري أحداثها ككل أو في اللحظات المهمة ، أثناء يوم واحد ، يمكن لإنقضاء الزمن أن يكون واضحا و محددا بدقة، بواسطة فترات اليوم. ولأسباب تعود الى متطلبات عملية الإنتاج التي تقلب التسلسل الزمني لمَشاهِد معينة يؤمر بتصوير مشهد ما في شروط هي في أضعف الأحوال ليست بالنموذجية بالنسبة لذلك المشهد ، إلا أنه عموما ثمة هناك على الدوام تحديد مَنطقي لتلك الفترة المقصودة من اليوم.
في فلم اندجي فايدا ( القنال ) هناك َمشاهد تترك فيها جماعة المقاتلين موقعها في بيت مهدم أثناء الليل بينما في المشاهد التي أعقبتها والتي تمثل النزول الى المجاري فقد جرت وحتى ليس في المساء بل بعد الظهر و حين كانت الشمس تضيء المشاهد.
و في أحد الأفلام الأميركية يكون المشهد الختامي وداعا بين العاشقين في الميناء حين كانت الشمس الغاربة خلفية له. وهذا المشهد جرى تجزئته الى بضع لقطات من دون الإيحاء بحصول قفزات زمنية بينها وحتى أن الصعود المفاجيء لقرص الشمس الغاربة كان يعني قلب التعاقب الزمني عند التنفيذ. أما في فلم ( موسورغسكي )لروشال Roshal فقد كانت هناك عناية أكبر فيما يخص تحديد فترات اليوم . بالطبع يملك المخرج حرية أكبر إذا كان يصور المشاهد في الأتيلييه. ففي الفلم المذكور كان الضيوف الجالسون في الصالون قد أضاءتهم أشعة الشمس من النوافذ، ومع مرور الوقت تبدل لون الضوء من أصفر الى برتقالي و بعدها الى قرمزي . إذن كانت الوقت مساء أي حين أخذت الشمس تغرب.
وعامة يفضل المتفرج وضوح تقنية مرور الزمن ، مثل تقنية اللجوء الى الساعة والتي إستخدمت في فلم ( الخارج من اللعبة) . ففي مكان الأكشن تتواجد في كثير من المشاهد ساعة البرج التي يلجأ المخرج إليها عند الإشارة الى إنقضاء الزمن.


الزمن الماضي


يسمى أيضا بالأكشن الإسترجاعي. وتفترض هذه الظاهرة بالطبع وجود الزمن الحاضر الذي عند الإحالة إليه يمكن الكلام عن الإسترجاع. وهذا الزمن الحاضر ( المُحال ) قد يكون فعلا ( أكشن ) دراميا ، بصريا – سمعيا ، وحينها تكون الحال نكوصا طبيعيا للأكشن في الزمن ، أو أن يكون هناك تعليقا ناطقا للسارد المتواجد في الزمن الحاضر ، و آنذاك يصبح الأكشن البصري – السمعي كله منقولا الى الزمن الماضي بالعلاقة مع زمن السارد.
و الأسلوب الثاني يخلق زمناً للماضي الأبعد : تأثير ( الماضي ) في ذهن المتفرج هو أقوى بفضل التجديد الدائم للفاصل ، وفي كل لحظة ، بين الأكشن الماضي و التعليق من الزمن الحاضر. ويكتب جان – بيير جارتييه : ( الفلم الطبيعي يتطور في الحاضر . و إذا حصل تذكر أحداث سابقة فنحن نعيشها في زمن حاضر آخر ، ونحن نعرف فقط عن لاوحدة هذه الأزمنة. لكن في فلم الشخص الأول ( المتكلم ) يخلق تعليق البطل الشعور بالماضي و يمنح كل صورة طابع الذكرى) „10”. والمؤلف يضيّق هنا الإشكالية من دون ضرورة . فالتأثير موضع الكلام يمكن تحقيقه في الأفلام التي يجري التعليق فيها بإسم الشخص الثالث أيضا.
إن الفكرة نفسها عن الزمن الماضي في الفلم كانت ،كما معلوم ،موضع التساؤل نظرا لخصوصية الفلم وحتى أن إجيكوفسكي يكتب عن ( أقبح عيب عند إعداد السيناريو ، أي المبالغة في إستخدام الإستراجاع. ولأن السينما هي زمن حاضر ) „11”. وبالرغم من التحكم بأشكال التعبير التي إعتبرت في الفترة الأولى من فن الفلم غير مرغوبة ، فهي بمثابة قاعدة منطقية لتطور اللغة الفلمية ( منذ زمن بعيد كفَّ „ حاضر السينما " عن أن يكون تقييدا لها ) واليوم ليس هناك من شك ٍ بأن إستخدام الإسترجاع و المبالغة فيه يعتبر نوعا من اللجوء الى السهولة في البناء .
والآن أرغب في طرح برهان بالإعتماد على أعمال مثل ( إثنا عشر رجلا غاضبا ) أو فلم خوزيه فيرير J.Ferrer ( الرجل العظيم The Great Man ) من عام 1956 ،حيث لم يبن الأكشن إلا حول أحداث تسبق بداية الفلم. إن التخلي في مثل هذه الأفلام البارزة عن تقويتها بالزمن الماضي ُيقدّر عامة كعمل يدل على جرأة إبداعية صحيحة تضمن مكانة عالية لمثل هذه الأفلام.
وعند الكلام عن البعد السلبي لإستخدام الزمن الماضي الفلمي يجدر بالذكر أنه في الكثير من الأحوال يكون إستخدامه من الضرورات و حتى أنه يمنح أحيانا المادة الروائية قيماً خاصة إضافية.
إذن ُيبرز التأكيد ، أولا ، على الفوارق بين زمن السرد و زمن الأحداث ( أي نقل الأجزاء الجوهرية من السرد الى الماضي ) التوترَ المرتبط بعدم معرفة الحل . وفي فلم جورج ستيفنز G. Stevens ( يوميات آن فرانك The Diary of Anne Frank) تشمل المشاهد التمهيدية عودة فرانك الأب بعد الحرب وبذلك تكشف عن الخاتمة المفجعة لقصة آن ، أي أنها توحي بالتركيز على شيء آخر غير الأكشن نفسه. و في أفلام الإجرام العادية يندر إستخدام تقنية الإسترجاع : إذ لو عرفت النهاية مسبقا لزال السبب الوحيد لمشاهدة مثل هذه الأفلام.
عدا ذلك فإستخدام الزمن الماضي يقوّي غالبما المفهوم القدَري للمصير الإنساني . فنحن نعرف منذ البداية عن موت كيرستن Kerstin في فلم السويدي آرنه ماتسون ِ A. Mattson ( رقصت هي صيفا واحدا ) ، وهذه الحقيقة المعارضة للطبيعة تفرض حتميتها المرّة على قصة الحب هذه. فأيّ تطوّر للقصة غير قادر على تغيير مصير كيرتسن.
وفي الأخير فإن إستخدام تقنية الإسترجاع المُعيدة للأكشن الى الحاضر يسمح ،خاصةً ، بالتأكيد على تلك اللحظة من الحاضر التي يبدأ الإسترجاع بها والتي تحصل العودة اليها عادةً . وعندما قام أُرينش Aurenche و بوست Bost بتكييف ( الأحمر و الأسود ) لم يضطرا الى إدخال الزمن الماضي. فنص ستاندال لم يوح بذلك. وكانت البنية الدراماتورغية لعملهما قد قوّت الدور الدفاعي – الإتهامي لخطبة جول سوريل J.Sorel والتي تنتج عنها ، إسترجاعيا ، كامل قصة سوريل التي عادت به الى البداية. وليس هناك من شك بأن مثل هذه الأحوال للتأكيد على الخطبة المذكورة قد نتجت لدوافع فكرية : الفكرة نفسها أوحت بوسيطة التعبير المناسبة.


تقنية الإنتقال الى الإسترجاع introspection


مع مرور السنين حصل تبسيط كبير على هذه التقنية. قبل الحرب العالمية الأولى كان على الحدث action الإسترجاعي ( الإستبطاني ) ، ولكي يكون تلقيه صحيحا ، أن يرافق الحدث الحاضر ، لكن في زاوية الكادر على شكل غمامة لقصة مصوّرة يكون مضمونها أفكار البطل. و الأسلوب اللحوح الآخر إعتمد على إستخدام ستار يضيّق مدى رؤية حدث الزمن الحاضر كي يصل الى نقطة غير كبيرة معلقة في الظلام و فيما بعد تكشف بطريقة ممائلة ميدان الإسترجاع. و لإيضاح أكبر ركّزت الصورة الآخذة بالصغر ، صورة الحدث الحاضر ، على رأس البطل المذكور كمكان ٍ معلوم لتلك الذكريات. بعدهابفترة ليست بالكبيرة حصل إستخدام الصور المتراكمة على بعضها بعض، إلا أن مضمون تلك التصورات كان عليه أن يحمل طابعا ذاتيا واضحا و أن يظهر في الوقت نفسه مع صورة البطل المتذكِر المقرَّبة وبدون حراك إذا إمكن.
عندما يقتصر مضمون الأحداث الإسترجاعية على ذكريات البطل و التي تخص ، بالدرجة الرئيسية ، المشاهد التي سبق أن عرضت في الفلم كمشاهد تعود الى الزمن الحاضر ، من الواجب تغيير أشكال الإنتقال الى الإسترجاع. و تستخدم اليوم ، عامة ، تقنية الإظلام (و يندر إستخدام تقنية التغلغل بوتائر مختلفة ) المرتبطة ، في أحيان ليست بالقليلة ، بمسائل الحوار التي توحي بالإنتقال الى الزمن الماضي .
في السينما اليابانية المعتمدة على تقاليد القفزات الزمنية المتفننة في الأدب الشعبي ، غالبما يحصل الإسترجاع بقطع مونتاجي عاد ٍ ( " راشامون " كوروساوا ). وهذه الطريقة التي لاتقلل ، عامة ، من وضوح الأكشن قد إستخدمها ، في أوربا ، آسترو Astrue ( فلم " لقاءات سيئة ") .
وكشكل متميز يمكن أن نذكر ، هنا ، توّجه الكاميرا الى بورتريه الأم في فلم سييبيرغ Sjoberg ( الآنسة جولي ) من عام 1950 . و إبتعاد الكاميرا الذي أعقب ذلك ثم العرض البارانومي يميناً ثم الى الأسفل ( وبدون أيّ قطع مونتاجي ) قد كشف ، في زاوية أخرى للصالون نفسه ، عن أكشن حصل قبل عشر سنوات ونيّف. و ( المسكة ) الأصيلة الأخرى إستخدمها ألان رينيه A. Resnais في فلمه عن معسكرات الإعتقال ( ليل وضباب ). و اليوم تبدو تلك الأماكن ، أي المعسكرات ، بريئة وزاهية حين صوّرت بالشريط الملون ، أما زمنها الماضي فقد ُكشِف بمعونة المواد الإرشيفية بالدرجة الرئيسية ، و على شريط أسود – أبيض.
إن ظاهرة الإسترجاع في الإسترجاع هي عاقبة بسيطة للتقليد المذكور الذي لايمكن بالطبع المبالغة في إستغلاله حرصا على وضوح الفلم ككل. وهذه العملية تستخدم منذ زمن بعيد . وكان قد إستخدم هذا الشكل الكلاسي المعتمد على البساطة و الشفافية ( من دون معونة الحوار ! ) سييستريم في فلم ( العربة الشبح ) من عام 1920. وهذه هي بنية الفلم : أديث المحتضرة ، وهي من ممرضات ( جيش الخلاص ) تريد رؤية دافيد هولم الذي ترعاه. و يروي هولم ، بالضبط ، في المقبرة عن الإنسان ( وهنا يحصل الإسترجاع الأول ) الذي خشى أن يموت فيآخر يوم من السنة ، كما يروي ( وهنا يحصل الإسترجاع الثاني ) عن ناقل ٍ غامض للموت . ونلقى البنية نفسها في الأفلام المعاصرة ، مثل فلم جوليين دوفيفييه J. Duvivier ( قضية موريزيوس ) و فلم لاسلو بينيديك L. Benedek ( موت بائع متجول ) و غيرهما.
وفي الأعوام الأخيرة ظهر شكل صعب وغير إعتيادي للزمن الماضي الفلمي و المشارك في الحضور في لقطة واحدة مع الزمن الحاضر. و قصب السبق يعود أيضا للسويدي سييبيرغ في فلمه المذكور حيث أظهر في اللقطة نفسها البطلة وهي جالسة على مقعد وتروي عن طفولتها ، وكذلك في المشهد الخلفي نراها حين كانت طفلة صغيرة ، وهي تعبر الصالة مع أمها. وكلا الحدثين قائم بصورة مستقلة و لا يؤثر أحدهما على الآخر ،كما أن هناك إنعدام للصلة بينهما عدا ذكريات البطلة . إلا أنهما ، رغم ذلك ، يتعايشان على الشاشة و في وعي المتفرج. و في فلم ( الفراولة البرية ) يرهف برغمان هذه العملية : البروفسور الذي وجد نفسه في مكان كان قد قضى فيه عطلته قبل نصف قرن ، يتحدث اليوم ، وهو في سنّه المتقدم ، مع خطيبته البالغة من العمر 18 عاما ، وبعدها يراقب ، كعجوز ، عائلته عند تناولها الفطور ، وهناك شقيقاه ، وهما في عمر العشرين . وفي ذلك المشهد لا يتعايش الزمن الماضي مع الحاضر حسب بل حتى أنه يحاوره.
إن هذا الميل الذي قديكون مستعارا من تقديم مسرحي ، يجد مثيلا له في التكوينات الفضائية من العصر الوسيط المتأخر و التي نجدها ، مثلا ، في أشجار غبرتي Ghiberti ( في فلورنسه ). فكامل حياة القديس تتعايش في أجزاء معينة من تلك الحياة. وطريقة الزمن المشارك في الحضور تزيد من التوتر القائم بين كلى زمني الحدث ، إلا أنه ُمشخَّص figure يتطلب إستعداد جيدا لدى المتفرج.
وتبقى شتى أشكال الإسترجاع الظاهري موضع البحث . وهي تثير لدى المتفرج الشعور بالإنتقال الى الزمن الماضي الذاتي للبطل و بدون الرجوع الى الزمن الماضي الموضوعي.
وعند الحدود يقف هنا الزمن الماضي الصوتي الذي يحوي ، ومن دون تغيير في الطبقة الصورية ، التذكير بكلمات سبق للمتفرج معرفتها ، وكانت قد قيلت سابقا على لسان إحدى الشخصيات ( مثلا : حين يبدأ الإفتراض المسبق بالتحقق ) . في فلم زينير Czinner ( نيو Niu ) يبدأ أميل ياننغز E. Janings المخدوع الذي يشك بالخيانة حين تعود إليه الكلمات التي سبق أن قالها كونراد فايدت K. Veidt : ( الزوجات اللواتي يدخن السيجار هن غير مخلصات ). إن طبقة الصورة لا ترجع الى الماضي ، فنحن نبقى نشاهد فقط ياننغز الغارق بالتفكير . إن هذا الفلم صامت ، و الجملة المذكورة ليست صوتية لكنها تتميز عن بقية الكتابات بأن نصها لقي إستمراريته في الصورة و ليس على خلفية سوداء محايدة كما بقية الكتابات.
في فترة السينما الناطقة يكون المثال الجيد هو المشهد من فلم ريد Reed ( الخارجون من اللعب ) : جوني نصف اليقظ و المُطارَد الذي يلجأ الى ذلك المطعم يتذكر أصوات الناس الذين تكلم معهم في ذلك اليوم. كذلك في فلم فايدا Vajda ( العم ياتشينتو ) يفقد الصغير بيبوتو Pepote الأمل في أن يستعير للعم لباس مصارع الثيران ، حين يتذكر كلمات عازف الأرغن العجوز التي سبق أن قيلت : ( إبتسمْ دائما حين تطلب شيئا ! ).
الإسترجاع الظاهري - ليس هو ، رغم هذه التسمية ، بديل فنّي ما بل مجرد شكل مستقل للسرد يأتي بفوائد أكثر أصالة وطراوة. وهنا لايستخدم كافالكانتي Cavalcanti في فلمه ( في المرفأ ) الزمن الماضي الفعلي. ففي فترة الصعود غير المكبوح لموضة الإسترجاع يكفي كل عذر كي يروي البحار القديم كارثة السفينة. وهذا الفلم صامت ، إذن لا يستخدم المخرج أي كلمة. و الكارثة كلها يتم التعبير عنها بحركات البحار ووجوه السامعين.
و الشكل الاخر للإسترجاع الظاهري يستخدمه تشابلن في فلمه ( جارلي شرطياً ) ، و بالدرجة الرئيسية ، كما يبدو ، مراعاة للإقتصاد في السرد. جارلي متأثر بخطبة القس ، و بعد إنتهاء القداس يسلمه علبة النقود الكنسية. ولحظة السرقة لم يصورها تشابلن لكن هذا الفعل الذي قام به المذنب التائب يشير الى جزء الحدث و الذي لم تصوره الكاميرا.
و فلم ( حفلتها الراقصة الأولى ) لدوفيفييه مكرس كله للماضي. فالسيدة تقرر ، وهي في عمر معين، السفر للبحث عن الذين رقصت معهم قبل عشرين سنة . وعدا المشهد الإسترجاعي الوحيد للرقص تجري أحداث الفلم كلها في الزمن الحاضر ، أما الماضي فهو مجرد مجرد إيماءات دائمة الى جميع المواقف. ومن يعرف هذا الفلم يبدو له أمر غير ممكن على وجه التقريب أن لا يحوي إسترجاعا ، حتى أنه يمكن التشكيك بالطابع الإسترجاعي لذلك المشهد الوحيد ، إذ كما يتبين في أثناء الأكشن ، فهذا المشهد ليس أعادة خلق للمشهد من قبل عشرين سنة بل كان نقلا ذاتيا sujective transposition ، أي أنه ، بالأحرى ، صيغة للفعل الشرطي و ليس زمنا ماض.
و في حالة فلم دوفيفييه يمكن القول عن تجسيد فكرة الماضي في الوضع بينما يكون فلم وايلدر ( بولفار الشمس الغاربة ) مثالا لتجسيد هذه الفكرة في الشخصيات. و يكتب جاك ليرين J. Leirens عن هذا الموضوع : بدلا عن تصوير فلم عن عصر السينما الصامتة قرر وايلدر و براكيت Brackett تجسيد الماضي في شخصية نورما Norma . و لكي يجعلا الفلم أكثر إيحاءا أعطوا دورها لغلوريا سوانسن G. Swanson . إذن أصبح الماضي مواجَهاً ، بصورة دائمية ، بالواقع الذي يمثله السيناريست الشاب 12 .



الزمن الماضي

في طبقة الصورة للفلم لا وجود هناك للزمن الماضي. و قد يبدو الأمر غريبا لسببين. الأول هو الشبه الأساسي بين اللغتين : الفلمية و المنطوقة. ففي اللغة الثانية يكون الزمن المستقبل شكلا عاما و ضروريا لدرجة أنه يصعب تصور أن اللغة محرومة من هذا الزمن futurum. و الثاني هو أن القضية تبدو بسيطة حتى من الناحية التقنية. فإذا أظهر المخرج السينمائي ،بصورة متفقة مع الزمن الرئيسي للسرد، الأحداث السابقة فهو يستخدم الزمن الماضي. و إذا أظهر الأحداث التالية نكون قد حصلنا على الزمن المستقبل .
وكما يبدو ليست المسألة بهذه البساطة. ففقدان إمكانيات الزمن المستقبل الفلمي تقرر ه ، وعلى الأقل ليس المحدوديات التقنية بل الموانع المعرفية gnoselogical وحدها، وخاصة فيما يتعلق بطابع الصورة الفلمية الحاسم.
وقد يكون من الأحسن الرجوع الى مثال ملموس. فمخرج مجرّب مثل رينيه كليمين ٌR. Clement أراد إستخدام الزمن المستقبل في فلمه ( القصر الزجاجي ):عاشقان في فندق فاتهما موعد القطار الذي كان على المراة أن تستقله. في هذا الموقع وبعد مزج إختفاء صورة ساعة الرجل و ساعة المحطة قام المخرج بمزج لقطة جسم المرأة المستلقية وكأنها شبح ثم لقطة للزوج الذي علم بموت زوجته. وكانت هذه الرؤيا الوحيدة للزمن المستقبل والتي عاد الحدث بعدها الى غرفة الفندق حيث حاول العاشقان ، عبثا ، اللحاق بالقطار الآخذ بالإبتعاد ، وبعدها تقرر المرأة السفر بالطائرة وينتهي الفلم بالوداع بين العاشقين اللذين كانا موقنين بأنهما سيلتقيان في القريب. إن مثل هذا الحل ، وكما يكتب مارسيل مارتان M.Martin 13، لم يفهمه المتفرجون في دار السينما الباريسية أثناء العرض الأول ، وبعدها ببضعة أيام قام المخرج بوضع اللقطات المذكورة وفق تسلسلها الزمني.
و هي مفهومة مثل هذه الصعوبات في التلقي والتي جاءت بها التجربة . فالحل المُقترَح مناقض لطبيعة التعرف لدى الإنسان، إذ لا أحد بقادر على أن يحزر تماما المستقبل وحتى الأقرب. وكل قول يخص هذا الموضوع يملك طبيعة إفتراضية. لكنه يملك أيضا ملموسية منظورة حين يصبح حقيقة في حالة نشوء ٍ in statu nascendi أي حاضرا في الزمن الماضي . مثلا في فلم أندجي فايدا ( القنال ) لا يستخدم المعلق حين يقول ( هؤلاء الناس جميعا سيموتون ) الزمن المستقبل، فهو يتكلم ،من موقع من مرّ بتلك التجربة ، عن أحداث ماضية. و إذا تجاوزنا الإعتبارات البلاغية لكان أكثر دقة لو قال : هؤلاء الناس جميعا موتى .
وفي فلم ٍ مثل ( رقصت هي في صيف واحد ) تكون المقدمة التي ُتظهر النهاية ، أي دفن كيرستن ، زمنا مستقبليا في ضوء العلاقة مع الحدث الرئيسي إلا أنه بالنسبة للمتفرج يكون زمنا حاضرا يتقهقر منه الحدث الرئيسي في الزمن الماضي. غير أنه يمكن القول، مجازاً ، عن الزمن الماضي من حيث الظاهر apparently . وهذا الزمن مرتبط بكل حالة توقع على وجه التقريب وخاصة في تلك التي يمكن فيها توقع طبيعة الحدث المنتظر بكل دقة .
في فلم كابرا Capra ( مستر سميث يذهب الى واشنطن ) يكتشف البطل أفعال مضاربين ويصمم على كشفها في البرلمان. و تقول إحدى الشخصيات : أنا أتصور ما سيحصل إذا قال : ( فيليت كريك Villet Creek ). ومنذها سننتظر العاصفة التي لابد أن تأتي، و بالفعل ها هي آتية.
و الشيء نفسه يحدث في فلم كايات Cayatte ( نحن جميعا قتلة ) حيث يسمع البطل المحكوم عليه بالموت وهو في زنزانته وقع خطوات أقدام أعضاء فرقة الإعدام . وهذا الشيء يعرفه المتفرجون أيضا من الأحداث السابقة التي أعدم فيها نزلاء سابقون في زنزانة البطل.
و بأنقى شكل أي الذي يتوجه الى توقع المتفرج وليس توقع احد الأبطال إستخدم ألفريد هتشكوك هذا التأثير مثلا في مقدمة فلمه ( الرجل الذي عرف الكثير ) حيث صوّر ضارب الصنوج في فرقة أوكسترالية موحياً بأنه حين تظهر الأوكسترا في لحمة قصة الفلم و يقوم هذا الضارب بحركة معينة يأتي الحدث الأهم بالنسبة للفلم. وهذاالشيء يحدث بالفعل.
كما تجدر بالذكر هنا القضية المرتبطة بالتوقعات الذاتية لدى البطل ( المستقبل الحواري ). وهذا مثال خر : حين تقول هيلين البطلة الرئيسية لفلم بريسون Bresson ( سيدات من غابة بولونيا ) لخادمتها عن جان Jean : ( لن تعطيه هذه القفازات غدا ، فهو لن يأتي مرة أخرى !) ، نتوقع أن تفترض الدراماتورغيا التقليدية أنه سيحصل شيء غير متوقع ، وسيأتي جان في كل الأحوال . ونلقى العكس في فلم آخر لبريسون ، وهو ( مذكرات قس قروي ) : يسجل البطل بعد أن تعرض الى نكسة صحية ( لا أجد احدا ) ، وبالفعل لا يجد أي أحد.
إلا أن الإسراف في إستخدام مثل هذه التوقعات ( سواء التي تتحقق منها أو غير المتحققة ) من أجل توتير الموقف و التهيئة لأفعال مسرحية مؤثرة coups du theatre ليس بالعادة الجيدة لدى الكتاب الدراماتورغيين.


الزمن الدوري


هذا الزمن هو الشكل الأخير من الأشكال الزمنية المستقلة والذي كان المنظرون يشككون بوجوده لغاية وقت غير بعيد. و الجدير بالذكر هنا الخطأ الي وقع فيه بودوفكين حين كتب عن السيناريو في عام 1928 : من الناحية التشكيلية تكون أمراً غير ضروري تماما كلمة ( غالبما ) التي لايمكن مسكها. فهي مثال تقليدي للصياغة التي ينبغي تجنبها. ومن الممكن إظهار الزمن الدوري و تردد frequency ظواهر معينة و تجددها اليومي ، على الشاشة. فهذان يقومان بدور مهم عند تنميط الظواهر وغالبما يساعدان في إبعاد الفلم عن قصة فردية واحدة لاغير أي لبطل واحد.
ولنذكر هنا قبل كل شيء بالمشاهد المكثَّفة التي تكون بمثابة تركيب لفترة حياة الشخصيات وخاصة تلك التي لا تدفع الأحداث الى الأمام. مثلا : فلم أسكويث Asquith ( بيغماليون ) أو فلم فريند Frend ( البحر القاسي ).
وعامة فكل تكرار ، وخاصة الخارجي إزاء النزعة الرئيسية للحدث يرتبط ،ذهنيا ً ،بالطبيعة التذبذبية للظاهرة موضع التصوير. مثلا سيقان راكبي الدراجات في فلم دودوف ( Kuhle Wampe ) والذين يبحثون عن العمل المعلن عنه في الصحيفة ، فهذا الأمر لا يخص فقط حياة ساكن معين عاطل عن العمل في برلين بل له قيمة التعميم من زمن الأزمة الكبرى. و نلقى الظاهرة نفسها في فلم ( عطلة مسيو إيلو Hulot ). وكان جان ليرين في نصه المذكور قد كف عن تناول مفهوم الزمن الدوري لكنه ذكر بأن نيقولاي برديائيف قد فرّق بين ثلاثة أنواع من الأزمان: الوجودي و التأريخي و الدوري.
و الإستخدام الأكثر إثارة للإهتمام للزمن الدوري ، أي عند الكف عن التكرار الآلي ، قد جاء في الأربعينات، في دراماتورغيا أفلام الواقعية الجديدة. و أقصد هنا التشييد الدائري أو بالأحرى الدرامي اللولبي حيث يكون المشهد الأخير من الفلم هو نسخ للمشهد الأول . ففلم بلاستيتي Blasetti ( رحلة في المجهول ) يبدأ و ينتهي بشكايات الزوجة. وفلم ( روما الساعة الحادية عشرة ) لدي سانتيز يبدأ و ينتهي بصورة الفتاة التي تنتظر الحصول على عمل. وبين كلتى الصورتين تحدث قصة غير عادية ولايمكن أن تتكرر ، وكان الفلم قد تكرس لها. عدا ذلك تمضي الحياة في مجراها رتيبة وذات ذبذبات وتعاقب دوري rotation .


• هذه ترجمة لفصل من كتاب هذا الباحث البولندي ، بعنوان ( لغة الفلم ) الصادر في وارشو في عام 1961 . و يعد الكتاب من المراجع المهمة، وقد نقل الى العديد من اللغات أيضا.


إحالات المؤلف :

1 - Jean George Auriol: Faire des films. Les origins de la mise en scene. " La Revue du Cinema " , Paris , nr. 1 / 1946.
2- J.R.Debrix : Fishe filmographique sur " Les visiteurs du soir " : H. Agel : Le cinema. Syntheeses contemporaines , Casterman , Tournai ,Paris, 1955.
3 - " الفلم لايعرف الطبيعة الميتة " راجع :
Gilbert Cohen – Seat : Essai sur les pricipes d une philosophie du cinema ( Introduction generale , Notions fondamentales et vocabulaire de filmologie . Presses Universitaires de France , Paris , 1946.
4 – Jean Lereins : Le cinema et le temps. Les Editions du Cerf " 7-e "Art, Paris 1954.
5 - Marcel Martin : Le language cinematogrphique. Collection Septieme Art. Editions du Cerf , Paris , 1955.
6 – وقبلها في عام 1924 لفت كارول إشيكوفسكي (أديب بولندي محدّث كان مهتما بالفلم - ملاحظة المترجم ) في كتابه ( الفن العاشر ) الى هذا الشرط الذي لاينفصل عن الصورة الفلمية : " السينما هي وفق القاعدة زمنٌ حاضر. و إذا أوقف الخالقُ ال(اكشن )... كي يروي عن شيء سابق فهو يخلق على الفور لزمن حاضر واحد آخر منافسا ً ".
.
7 – Ernst Iros : Wesen und Dramaturgie des Film , Zurich , 1957.
8- كتاب م. بليمان ، م. بولشينتسوف ، ف . أيرملير : المواطن العظيم ، وارشو ، 1951 .
9- Ernst Iros: Wesen und Dramaturgie des Films , Zurich , 1957
10- Jean – Piere Chartier : Les „ films a la premiere person” et Lillusion de realite au cinema. „ Bulletin dIDHEC” , Paris , 1946
11- المصدر السابق : كتاب كارول إجيكوفسكي ( الفن العاشر ).
12- Jean Leirens : Le Cinema et le temps. Les Edition du Cerf, Paris , 1954.
13- M. Martin : La language cinematographique ,Collection Septieme Art. Editions du Cerf , Paris,1955
 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire