jeudi 26 avril 2012

كتب سينمائية





















حوار مع : فدريكو فلليني

أجرى الحوار: جيوفاني جرازيني
ترجمة: أمين صالح

من إصدارات الدروة السادسة 2007 من مسابقة "أفلام من الإمارات"

مقدمة
في هذا الكتاب، الذي هو عبارة عن حوار مطوّل أجراه- في بداية الثمانينات من القرن الماضي- الناقد السينمائي الإيطالي جيوفاني جرازيني مع فدريكو فلليني،و هو واحد من أكثر المخرجين شهرة و تأثيرا في السينما العالمية، و من الذين صاغوا عبر أفلامهم البارزة و الهامة عالما خاصا و متميزا تجسدت فيه رؤيته الفنية و الفكرية.
في هذا الكتاب يعبّر المخرج الكبير عن رؤاه و وجهات نظره و مواقفه تجاه شؤون الحياة و الفن. كما يقدم بسخاء شديد، لكن بمراوغة صريحة، ما تمليه الذاكرة و المخيلة، مستحضرا طفولته و مراحل مراهقته و شبابه.. بكل ما يتصل بها من دعابات و مخاوف و أحداث و ظواهر.
و مثلما تتسم صوره السينمائية التي يخلقها في أفلامه بالتعقيد و التشابك، كذلك تبدو تصريحاته و رواياته.. ذلك لأن الحياة، بالنسبة إليه، هي تفاعل متواصل بين الواقع و الخيال، بين ما هو ظاهر على السطح و الغموض الكامن في الأسفل.
فلليني، التلميذ الصغير، يكون حاضرا بدنيا في غرفة التدريس، بينما ذاته الباطنية تجول و تطوف في أنحاء بلدته ريميني و تفرّ لتنضم إلى عالم السيرك.
فلليني، المخرج المبدع، يسجل صور الحياة اليومية، بينما يعيد تشكيلها بحيث تتفق و تنسجم مع أحلامه.
فلليني، المعلق البارع، ينكر معرفة كل العوالم باستثناء عالم السينما، مع ذلك يمضي في تحليل تلك العوالم الأخرى بادراك شديد و نفاذ بصيرة حادة.
الشباب و الشيخوخة، الدين و السياسة،السيكولوجيا و الرمزية، إيطاليا و هي ترشح و تتقطر، الواقع و هو يتحول إلى حلم..كل هذه الأمور تكون مصفاة من خلال العدسات المزدوجة لرؤيته الخاصة.
الأسئلة ليست تقليدية، ليست "صحفية" لملء حيز معين حول نشاط فنان و آرائه، إنما هي مصممة ببراعة لاستنباط ردود ذات عمق و سعة في أفق التفكير. و من هذه الردود و الاستجابات تتفتح، إلى حد ما، دواخل و بواطن هذا السينمائي الفذ، إضافة إلى غنى و خصوبة عوالمه،تخيلاته، ذكرياته، و انطباعاته.
إجابات فلليني تحمل ثقلها و خفتها معا، في مزيج بارع و سلس.. و الثمرة النهائية كتاب فني و فكري فريد و ملفت..نظرة قريبة جدا من الحياة و الفكر.


_____________________________

هوامش:
* هذا الكتاب مترجم عن اللغة الإنجليزية.
* العناوين الفرعية من وضع المترجم


ثمة حسناء تعبر الميدان

* لقد تجاوزت الستين.. هل تقلقك الشيخوخة؟
- آه، أجل. عمري 64 عاما.. أكرر هذا مرارا لأقنع نفسي به، مع ذلك أواظب على الإنصات بأذني الباطنية لأعلم إن تغيّر شيء، أو أصابه الصدأ أو العطب. باختصار، لأسمع ما يشعر به و يفكر فيه شخص بلغ الرابعة و الستين.
عندما جئت إلى روما لأول مرة، سكنت في نزل، و كان جاري عامل في الأربعين تقريبا لكنه يحاول جاهدا أن يبدو أصغر سنا، فقد كان يذهب إلى الحلاق يوميا، و يستخدم كمادات و طلاء لشد بشرة الوجه. و في أيام الآحاد كان يقضي كل وقته في الفراش، و قبل أن ينام، يضع شريحتين من اللحم النيئ على خديه و يثبتهما برباط مطاطي. و في الصباح، غالبا ما كنت أراه يخرج من غرفته مرتديا الروب، يغلق الباب، يقف بلا حراك لعدة ثوان ممسكا بمقبض الباب ، ثم فجأة يعيد فتح الباب و يقحم رأسه داخل الغرفة.
هذه الحركة كانت تثير فضولي، فسألته يوما عن السبب الذي يجعله يفعل ذلك. في البداية بدا أنه غير راغب في إخباري، لكن بعد حين نظر مباشرة في عينيّ و قال أنه بإقحام رأسه على نحو مباغت و سريع، بعد إغلاق الباب للحظة، إنما كان يحاول أن يكتشف من خلال الشم ما إذا كانت هناك رائحة شيخوخة عالقة في الغرفة. بعد ذلك دعاني لأن أتحقق بنفسي. فتح الباب على مهل و قال:" تنشق.. هل تشم نتانة رجل عجوز؟"
في كل مرّة أغادر غرفة نومي أتذكر ذلك الشخص. حتى أنني جربت نظريته أكثر من مرّة، حيث كنت أفتح بابي فجأة، مباشرة بعد مغادرتي للغرفة، أطل بالداخل، أتشمم و قلبي يخفق بشدّة.
سيمون دي بوفوار كانت محقة تماما حين قالت:" الشيخوخة تمسك بك على نحو مباغت". حتى وقت قريب، كنت الأكثر شبابا في أي تجمع، أي ملتقى، أي حفلة عشاء. كيف حدث أن أصبحت في غضون ساعات قليلة – لنقل في يوم أو أسبوع- الأكبر سنا؟ مع ذلك لا أشعر أنني تغيرت حتى و لو قليلا..ربما أعاني بعض الشيء من الأرق، القليل من الهفوات في الذاكرة، إحساس بعدم الرغبة في شيء، حيث أضطر في الخامسة مساء إلى إلغاء مواعيد السهرات و الحفلات التي خططت لها صباحا.
لو تعيّن علي، كمخرج، أن أقدم على نحو واقعي شخصية رجل في الرابعة و الستين، فسوف أنصح الممثل بأن يسير مطأطئ الرأس، محني الكتفين قليلا، و أن يسعل بين الحين و الحين، و أن ينظر بعينين نصف مغمضتين، و أن يضع يدا مرتجفة على أذنه.. مثلما كنت أفعل مع صديقي كاتب السيناريو إنيو فلايانو قبل ثلاثين سنة عندما كنا نستمتع معا في الحديقة العامة و نهرّج متظاهرين بأننا عجوزان، فنغازل الفتيات و نبدي إعجابا صبيانيا بهن. أما بنيللي، الذي سيصبح مخرجا في المستقبل، فيراقب و يضحك، لكن قليلا، لأنه كان يكبرنا سنا.
لكن لماذا نبدأ حوارنا بهذا السؤال؟

* هذه السلسلة من الكتب تعنى خصوصا باللقاءات المطوّلة مع السياسيين و الكتّاب و الفلاسفة والمفكرين و العلماء.. أنت أول فنان سينمائي يقع عليه الاختيار لهذه السلسلة.. بم تشعر و أنت في صحبة هؤلاء؟
- أشعر بأنني خارج حقلي. أشعر بالارتياب و عدم الاقتناع. قد يبدو هذا ضربا من التظاهر بالتواضع الزائف، لكنه ليس كذلك.
لا يبدو لي بأني تغيرت كثيرا عما كنت عليه في السابعة عشرة من العمر وقتما كنت أنغمس في الحياة بفضول و لهفة، إن لم يكن بطيش، مؤجلا إلى اليوم التالي استشراف الحياة بجدية و مسؤولية أكبر.
حتى هذه اللحظة، يبدو لي حاضرا و حقيقيا، على نحو مخجل، ذلك الإحساس الذي ينتابني و أنا أنتظر بتوق شديد صوت الجرس معلنا نهاية اليوم الدراسي. كانت هناك دروس مبهجة أحيانا، لكنني كنت أفكر: ترى ماذا يحدث، لحظة جلوسي في الفصل، هناك في الخارج، في الميدان أو على الجسر أو في سوق السمك أو على ضفة النهر؟ كنت دائما أشعر أن في غيابي تقع أحداث و لقاءات و قصص آسرة و استثنائية.
حتى في هذه اللحظة، و أنا أجلس معك يا سيد جرازيني، لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير بأن ثمة امرأة باهرة الحسن سوف تعبر ميدان سان سلفسترو في هذه الدقيقة.. لم لا نذهب إلى هناك و نرى بدلا من الجلوس هنا و إدارة الحوار معي؟ ما جدوى كل هذه الشعائر المملة من الأسئلة و الأجوبة؟

* لأنهم لم يخترعوا بعد وسيلة أفضل للنظر داخل مستودع الفنان.. و المرء لا يسأم أبدا من التنقيب في مستودعك..
- ربما لاحظت بأنني أثرثر بحرية لمدة نصف الساعة بعد كل سؤال، لذا فإن ما سوف أخبرك به الآن قد يشي بالتناقض.
في الحقيقة أنا لا أعرف أبدا ما هو الشيء المناسب الذي ينبغي قوله، ذلك لأنني لست واثقا من حقيقة و طبيعة هذا الذي أنت تحاوره. ما أعنيه هو أن المظهر الأكثر إرباكا و تعقيدا و ازدواجية لأي مقابلة هو واقع أن الشخص الذي تحاوره لابد و أن ينتحل كينونة شخص آخر، شخص يعرف كل شيء، يمتلك أفكارا كونية و رؤية ثاقبة للعالم.. شخص يستطيع أن يتكلم بثقة عن الوجود و الدين و السياسة و الحب و حمالة البنطلون.
شخصيا، ليست لدي أفكار كونية، و اعتقد أنني أكون في حال أفضل عندما لا امتلكها. و لهذا أشعر بالقلق و الاضطراب في المقابلة التي تقتضي مني التعبير عن كل تلك الأفكار.
مع تقدمي في السن، تقل حاجتي لفهم – بمعنى عقلنة- صلتي بالواقع.. على الأقل هذا ما أشعر به. أنا لا أرجو أن أنظم العالم. و القليل مما أريد قوله، حين يتعيّن علي ذلك، أحاول أن أنقله في أفلامي التي أستمتع كثيرا بتحقيقها. هكذا سترى بأنني لن أجيب على الكثير من الأسئلة، و إذا فعلت فسوف أختبئ وراء قصص قصيرة و عادية أخترعها في اللحظة.
و عندما تنهي هذا الكتاب، سوف أرغب في مراجعته، تصحيحه، أن أشطب أسئلة و أجوبة و أعيد كتابتها، و ربما سأحاول أن أمنع نشر الكتاب.
إننا نواجه زمنا بائسا، مخيبا للآمال، غاضبا، مشاكسا. و ربما نتخاصم – أنا و أنت- و لن يكلم أحدنا الآخر.. حسنا، لنواصل حديثنا.

* على طاولتك أحصيت 129 قلم حبر جاف، 21 قلم رصاص، و 18 قلما من نوع آخر..عدد هائل من الأقلام.
- لدى شروعي في تحقيق أي فيلم، أقضي الجزء الأكبر من وقتي جالسا خلف المقعد، و كل ما أفعله أثناء التفكير في الفيلم هو أن أتسلى برسم الأثداء و المؤخرات. إنها طريقتي في اقتفاء أثر الفيلم، في البدء بفك المغالق و اكتشاف الغامض بواسطة هذه الخربشات. هذا أشبه بالخيط الذي يساعدك على الخروج من المتاهة.. كما في الميثولوجيا الإغريقية.

* بالمناسبة، طـُبع مؤخرا كتاب يضم اسكتشات كنت قد رسمتها في فترات متباعدة. إنه ليس عبارة عن مختارات من التخطيطات الجميلة البارعة فحسب، بل يعطي انطباعا بأننا ننظر إلى " ألبوم عائلي" لأفلامك.. إنه أشبه بدخول مستودع آكل النار، في قصة بينوكيو، و اطلاق سراح كل الدمى..
- لا أعرف من أين جاءت كل تلك الرسوم العابثة. لا أقصد أنني لم أتعرف عليها، فأنا الذي رسمتها. لقد رسمتها على الورق الأبيض ذي الحجم الكبير أثناء التحضير لأفلامي. إنه ضرب من الهوس. دائما أخربش. حتى في صغري، كنت أقضي الساعات لاهيا بأقلام الرصاص و الشمع و الطباشير. أرسم على كل الأسطح البيضاء التي تكون في متناول يدي: الورق، الجدران، المناديل، شراشف الموائد في المطاعم.. حتى رخصة السياقة تجدها مليئة بتخطيطات صغيرة. لكن في ما يتصل بالتخطيطات التي كنت أرسمها أثناء شروعي بالعمل في كل فيلم، فإنها طريقة لتدوين الملاحظات، لتثبيت الأفكار.
البعض يستحوذ على الأشياء إما باستخدام الكلمات أو عن طريق الأحاسيس، أما أنا فأخطط، أرسم سمات وجه، تفاصيل لباس، سلوكيات شخص، تعبيرات، تشريح. تلك هي طريقتي في الاقتراب من الفيلم الذي أحققه، في فهم معناه، و الشروع في النظر إليه على نحو مباشر.
في ما بعد، انتقلت هذه الرسوم، هذه الملاحظات المختزلة، إلى أيدي رفاقي العاملين معي. لقد اعتاد مصمم المناظر و مصمم الملابس و الماكيير على الاستفادة منها كنماذج تساعدهم في عملهم. بتلك الطريقة، هم أيضا بدأوا بتعويد أنفسهم على التآلف مع حالة القصة، مع طبيعتها و دلالاتها. هكذا يتخذ الفيلم إحساسا بالتوقع، و كل اسكتش يوفر شيئا مثيرا للتأمل.
ناشر ألماني، و هو صديق لي، أبدى إعجابه بالإسكتشات و أراد أن يجمعها في كتاب. و عندما قدم لي الكتاب، بعد انجازه، شعرت بالمكيدة. فضلا عن السلطة الممنوحة لها بواسطة الطباعة و الوقار المتأصل لأي كتاب، و بصرف النظر عن أناقة التصنيف والصف و الورق الصقيل، فقد كنت مشدوها لدى رؤيتي لرسوماتي كلها. إن لم تكن جميلة، فهي على الأقل ملفتة.
لقد أراد الناشر أن يصدر كتابا آخر يحتوي على مجموعات أخرى، أن يصقل تلك المقتطفات المختارة المرتجلة، التصادفية، و يجعل منها مشروعا أكثر تنظيما، أكثر وثائقية، و متلائمة أكثر مع دار النشر التي يمتلكها. و قد نجح في اقتفاء تخطيطاتي عبر الاتصال ببعض الأصدقاء و المعارف  و العاملين معي، في كل مكان. مقدار وافر من الخربشات و الإسكتشات و الرسوم الكاريكاتورية و الملاحظات و الدعابات التي لم أعد أذكر إن كنت أنا من حققها أم غيري، ذلك لأنني لا احتفظ بشيء منها.




المجهول ينتظرني عند المنعطف

* دعنا نحاول رسم اسكتش سريع لسيرتك الذاتية.. هل تعتقد أنك أحرزت النجاح و الشهرة كفنان عن طريق انتقالك من مجال الكرتون إلى كتابة الأفلام؟ هل هناك خيط يربط قصتك معا؟ لنحاول كشف ذلك..لنبدأ من يوم ميلادك في العشرين من يناير 1920 ، في مدينة ريميني، تحت برج الجدي.. هل تؤمن كثيرا بعلم التنجيم؟
- أميل إلى الإيمان بكل ما يثير المخيلة و يقترح رؤية آسرة أكثر للعالم و الحياة، أو بالأحرى، رؤية أكثر تجانسا مع أسلوبي الخاص في العيش.
التنجيم نظام محرّض جدا، و طريقة ممتعة لتفسير معنى الأشياء، كيفيتها و أسبابها. و إذا كان هناك من يشعر بالحماية التي يوفرها هذا النظام الذي يملك أساسه المنطقي الخاص، فما الغاية من تضليله بالقول أن هذا شيء خيالي سخيف، و أنه لم يعد ممكنا اليوم الإيمان بمثل هذا الهراء؟
لا يبدو لي أن الأمور تتغير كثيرا في دواخلنا. نحن نستمر في حيازة أحلام مماثلة لتلك التي حلم بها البشر منذ ثلاثة أو أربعة آلاف عام. و في مجابهة الحياة، لدينا جميعا المخاوف ذاتها دائما. أنا يروق لي أن أخاف. الخوف شعور حسّي يمنح متعة لطيفة. كنت دائما مفتونا بكل ما يخيفني. أظن أن الخوف إحساس صحي، ضروري للاستمتاع بالحياة. من السخف و الخطورة أن يخلـّص المرء نفسه من الخوف. المجانين لا يشعرون بالخوف، كذلك المخلوقات السوبرمانية في الرسوم الهزلية، و الأبطال الخارقين أيضا. في المدرسة كنت، على نحو غريزي، أكره أخيل..بطل الأوديسة الأسطوري. كيف يمكن لشخص أن يكون غير بشري إلى هذا الحد، و لا يخاف أبدا من أي شيء؟
هذا لا يعني بأنني أستشير الأبراج في الصحف الأسبوعية لكي أعرف من سوف ألتقيه في الظهيرة، أو أرمي القطع النقدية في الهواء لأحسم أية ربطة عنق سوف ارتدي صباحا. في الحقيقة أشعر بالأمان أكثر في حضور ما لا أعرفه، و أكون مطمئنا أكثر في الحالات الغامضة، الملتبسة، الخفية إلى حدٍٍ ما. و بحكم طبيعتي هذه، فإن ما هو غير عادي و مجهول و مدهش، أو لنقل بتواضع، ما هو غريب، غالبا ما ينتظرني عند منعطف ما في الطريق. لذلك أقر بالمظهرالتنجيمي، و القوى الخفية، و جلسات استحضار الأرواح.
عندما كنت أستعد لتصوير فيلمي " جولييت و الأرواح"، شهدت جلسات الاستحضار مع أشخاص شديدي الحساسية تجاه الوسائط الخارقة و موهوبين بقوى استثنائية تؤهلهم لتخريب اليقين الذي لا يتزعزع عند بعض الأصدقاء الذين غالبا ما كانوا يتهكمون على نزوعي إلى الاستثارة من قبل كل ما يمكن أن يكشف الشكل الأنقى للواقع.
إلى جانب ذلك، أشهد أنني كنت طرفاً في أحداث غير قابلة للتفسير. في طفولتي كنت أرى فجأة علاقات بين الألوان و الأصوات. عندما أسمع ثورا يخور في مخزن جدتي، كنت أرى بساطا كبيرا، بنيا ضاربا إلى الحمرة، يطفو فوقي في الهواء. كان يقترب، يتراجع، يصغر، ثم يصبح شريطا رقيقا يندس في أذني اليمنى. عندما يقرع الجرس ثلاث مرات، كنت أرى ثلاثة أقراص فضية تفصل نفسها عن الجرس و تدنو مني، فيما أهدابي ترتعش، لتختفي داخل رأسي. أستطيع أن أستمر في تذكر تلك الوقائع لنصف ساعة أخرى. عديدة هي التجارب " المتزامنة" التي تحدث لي.

* إنه يونج، إن لم أكن مخطئا، الذي في حديثه عن " التزامن"، لا يشير فقط إلى الأفعال التي تحدث في وقت واحد، و إنما أيضا إلى الظواهر الأكثر غموضا، و التي يتعذر تعليلها.
- أعتقد أن يونج، في تحديده للتزامن، كان يعني الروابط بين أحداث خارجية و حالات باطنية و التي، على ضوء المنطق، لا ينبغي أن تملك علاقة مباشرة في ما بينها. لكن بسبب اختلافها الظاهري تتخذ تلك العلاقة أهمية عميقة.
ربما أنا هنا لا أوضح نفسي جيدا، ما أعنيه هو أن يونج، في الكشف عن فكرته، حاول أن يبيّن لنا أن بإمكاننا بلوغ فهم أعمق للروابط بين العالم الخارق و المادي. لكن الغالبية منا تشعر بالتشوش و العجز إزاء كل ما لا يمكن التحكم فيه بواسطة الحواس و العقل، إلى حد أن تلك الاستبصارات التي تنبع من الأعماق، تلك الرسائل، التحذيرات، النصائح التي لا يقدمها لنا حتى أكثر أصدقائنا ذكاءً و عنايةً، تصبح عرضة للتجاهل و الإهمال على نحو تام. نحن لا ننتبه لها، لا نبالي بها، لا نرغب في الإصغاء إليها، و يتبلـّد ذهننا و حسّـنا إلى حد أننا لا نعود نستقبلها.
على أساس التجربة التزامنية اخترت الممثل الإنجليزي فريدي جونز لدور رئيسي في فيلمي " و السفينة تبحر". كنت مشحونا بالارتياب تجاهه. تأملته من جميع الجوانب و الزوايا، و لم أستطع أن أقنع نفسي بأن هذا الممثل ذو الشعر الأحمر و البشرة الحمراء قادر أن يتحوّل إلى شخصية أورلاندو.. الصحفي الإيطالي المهرج و المحبوب. تفحصت مئات الصور الفوتوغرافية له، و أجريت له اختبارين، لكن دون جدوى. و بينما كنت أرافقه في السيارة المتجهة إلى المطار، و كان نائما إلى جواري راسما بشفتيه ابتسامة صغيرة مبتهجة، نظرت إليه في ضغينة و فكرت:" لا، لا تستطيع أن تكون أورلاندو كما تخيلته".. عندها لم أر في حياتي وجها غريبا و مجهولا بالنسبة لي كما هذا الوجه. في تلك اللحظة، فوق نافذة باص عابر بمحاذاتنا، وراء الوجه الجانبي  لفريدي جونز الذي كان يغط في النوم، رأيت ملصقا إعلانيا طوله عشرين مترا مطبوعا عليه بخط كبير كلمة " أورلاندو". عندئذ تلاشت كل شكوكي و قررت فورا و دونما تردد أن يلعب جونز الدور. هل شاهدت الفيلم؟ كان اختيارا مثاليا. قد يمتعض فريدي جونز قليلا عندما يعلم بأنني لم أختره لموهبته و إنما بسبب إعلان عن آيس كريم يدعى أورلاندو.. لكن هكذا جرى الأمر.
الحال نفسه ينطبق على هذه المقابلة: لقد بلغني تحذير أتمنى ألا يكون متصلا بالتزامن. هل تحب أن تسمع؟ حسنا. ها هنا كنت أجلس، في مكتبي، أنتظر أن نبدأ حديثنا، و كنت أتساءل: ما الغاية من القيام بمقابلة أخرى في حين أن كتابا صغيرا قد صدر للتو و يحتوي على الكثير من هذا الهراء؟ لقد شعرت بالحيرة و التعاسة. أ ليس من الأفضل أن ننصرف عن هذا الأمر؟
و بينما كنت مستغرقا في التفكير، وقعت عيناي على جريدة متروكة على الكرسي، و لفت نظري عنوان مقالة بالخط العريض و من كلمتين:" غلطة مميتة".. لم يكن هناك مجال لسوء الفهم. أو ربما كان هناك مجال لسوء الفهم، للالتباس، كما الحال مع كل إجابات الوحي أو الرائي (في الأساطير).. هل إجراء المقابلة يعد " غلطة مميتة"، أم عدم إجرائه؟  







كتاب المرايا

* هل تشعر بأنك تنتسب إلى روما، هل أنت حقا روماني؟
-  في الحقيقة، أنا نصف روماني. أمي من روما. أجيال عديدة من أهلها نشأوا في روما. أحد أقاربي، و كان مهتما كثيرا بعلم الأنساب، اكتشف أن المعلومات المبكرة عن عائلة باربيني ( اسم أسرة أمي قبل الزواج) ظهرت في سنة 1400، هناك باربيني الذي عمل في القصر البابوي في عهد البابا مارتن الخامس. كان صيدليا و تورط في قضية تسميم، و بعد إدانته حُكم عليه بالسجن ثلاثين سنة أمضاها مدربا للجرذان و العناكب. من يدري، ربما شيء من رغبتي في أن أكون مخرجا سينمائيا يمكن تتبع أثره رجوعا إلى ذلك الجد البعيد.
إذن أنا نصف روماني، و عندما جئت إلى روما في العام 1938 لأستقر فيها، سرعان ما شعرت بالطمأنينة و راحة البال أكثر مما كنت أشعرها في بلدتي ريميني. لكن ما هو الجانب الروماني فيّ؟
المعروف عن الروماني أنه شخص حسي، سخي، اجتماعي، يوجّه انتباهه نحو ما هو خارج عن الذات.. شخص محب للرفقة و المحادثة و موائد العشاء، سريع الاستجابة تجاه السعار السياسي.. و هو التجديفي الذي يعلن إلحاده لكنه يرسل زوجته و بناته إلى الكنيسة لأن شخصا ما في العائلة يتوجب عليه أن يبقى على اتصال مباشر مع ذلك الشيطان الذي خلقه الرب. وفق هذه المعطيات أو المعايير، لا أحسب نفسي نموذجا لأيٍ من تلك المزايا و الشوائب، خصوصا في ما يتعلق بالسياسة.. في هذه الحالة أشعر بأنني أنتمي إلى الإسكيمو و ليس روما.

* لكن كيف بمقدورك أن تنأى عن السياسة و لا تبدي أي اهتمام بها؟
-  لست فردا سياسيا، و لم أكن كذلك. السياسة و الرياضة تسببان لي حالة من الفتور و اللا مبالاة، و تنعدم مشاركتي في أي حديث يتناول مثل هذه الموضوعات، سواء أتناء سفري بالقطار أو عندما أحل ضيفا في بيت صديق.
في الواقع، أنا لا أتباهى بهذه اللامبالاة المزمنة تجاه السياسة، بل أن ذلك يسبب لي الضيق و الانزعاج باستمرار. الأصدقاء، المجتمع الراهن، الفقر الأخلاقي.. من المفترض أن يحرضني ذلك على تبني مواقف أيديولوجية حاسمة، و أن أكون راغبا أكثر في إحداث التغيير و قهر القصور الذاتي.
الآلة التي توازن بين الخير و الشر، و التي ضمنها أعيش و أعمل، يجب أن تدور بسلاسة أكثر و بفعالية أكثر، و أن توفر العدل و الكرامة للجميع. لكن عندما يعني ذلك الدعوة إلى الفعل، النشاط العملي، الانضمام إلى التجمعات و المشاركة في المناقشات و المسيرات و المجابهات و إصدار البيانات، فإن فكرة الانخراط في ذلك العالم المنظم و المنضبط، بما يحتويه من مجادلات و مناظرات و اجتماعات، تعيدني ثانية إلى المنطقة المحايدة.
إني أرفض نشاط الكشافة ذاك، الذي نصفه يؤدى من باب الإحساس بالواجب، و نصفه كشيء يمكن انجازه بعد الدوام الوظيفي (الذي هو دائما أساس الاهتمام في "الشؤون العامة").
ربما هو فعل طفولي لامسؤول، لكنني مع ذلك أحتفي بهروبي من الخطر عن طريق الاستغراق الكلي في الشيء الوحيد الذي يثير اهتمامي: تحقيق الأفلام. أدرك أن موقفي هذا قد يكون عصابيا، و قد يعني رفضا للنمو و النضوج، إلا أنني اعتقد أن ذلك مشروط إلى حدٍ ما بتربيتي و نشأتي في فترة الحكم الفاشي، و التي أدت إلى إقصائي عن المشاركة الفردية في السياسة باستثناء المظاهرات و المسيرات. منذ تلك الفترة فصاعدا، تكوّنت لدي قناعة بأن السياسة مهنة "العظماء"، يؤديها سادة مفكرون – كما تخبرنا كتب التاريخ- من أجل قدر ظاهر، من أجل مصير البشرية. هؤلاء "العظام" يتوجب أن يكون لديهم ذلك الأسلوب الهزلي، على نحو طفيف، القريب من أسلوب موسوليني، أو المظهر الجاد كما عند جيوليتي، أو يتوجب الرجوع إلى نماذج من القرن السابع عشر: كريسبي، راتازي، منجيتي، ريكاسولي البارونيت الحديدي، و أولئك السياسيين الذين نراهم واقفين دائما في البرلمان يخطبون وسط زملاء وقورين، و هم ملتحون و يرتدون سترات سوداء تبلغ الركبتين.
ربما التخوم الكابحة، المحيطة بي اليوم، ناشئة من واقع أنني لم أتنفس أبدا، في سنوات التكوّن الأولى، المعنى الحقيقي للديمقراطية خارج نماذج هي بعيدة كبعد الخيال العلمي. من دروسي الإغريقية، من الفلسفة، تعلمت الكثير عن الدولة المدينية، حكم الشعب، أثينا، الحقوق و الواجبات، أفلاطون، بيريكليس، سقراط، المنهج السقراطي.. لكن الديمقراطية كممارسة و سلوك، أو كما كنا نلمحها في الأفلام الأمريكية، فإنها لم تكن جزءا متمما من ثقافتنا.
في الأفلام الأمريكية، نجد أن من يحمي القانون هو عمدة البلدة و كل المساعدين الذين يمتطون جيادهم و يطاردون الأشرار. أو كما هو معمول في المدن الكبيرة حيث ناطحات السحاب، و الأفراد المشغولين في مكاتبهم، حيث المهن و الكرامة و الرفاهة و الحرية التي فيها يمكن التخطيط بجسارة لوجود من الطراز الأول.
أو تلك الأسطورة الأنجلو- سكسونية عن الديمقراطية التي يتنفسها أطفالهم منذ بلوغهم الستة أشهر من أعمارهم، متعلمين احترام، إن لم يكن تقاسم، قرار الأغلبية، ذلك لأن لديهم الوسيلة لأن يصبحوا أغلبية و لأن يغيروا مجرى التاريخ.
نحن ربما نفتقر إلى كل دروس الحضارة و الوعي تلك، و هذا الافتقار تركنا، بطريقة أو أخرى، مع قناعة راسخة بأن السياسة ينبغي أن يمارسها الآخرون، الذين يعرفون كيف يتعاطونها.
حتى عندما تسير الأمور على نحو مختلف مثل: اندلاع حرب، انهيار نظام، مرحلة إعادة بناء، نشوء دولة جديدة ترفعنا إلى مصاف بلدان أكثر تحضرا و تقدما و أهمية، فإن الديمقراطية تصل إلينا كشيء مسْـكر.. تحرر فجائي من حالة الإخضاع التي عشناها زمنا طويلا، قرونا عديدة. ذلك الوضع قد أصبح نوعا من الحالة البيولوجية، الوظيفة الجسمانية، العاهة الجسدية التي يصعب إزالتها أو تجاهلها. ربما لأنني عشت كل هذا الخليط.
أنظر كم أنا مشوّش عندما يتعلق الحديث بشؤون السياسة. يجب أن اعترف، مسلما بقصوري الذاتي، بأنني حتى هذه اللحظة أشعر أن أفرادا آخرين يتعين عليهم القيام بإدارة الشؤون العامة، باتخاذ القرارات، بتدبّر أمر العالم اليومي، الطارئ و العارض و سريع الزوال، حيث أجد نفسي غرّا، قليل التجربة، و غير مؤهل عضويا.
إذا كان علينا أن نسلـّم بمصائر معينة و نزعات معينة، فإنني أفهم أن الفنان، و كل شخص يكرّس نفسه للتعبير، يتحرك في مجالات مختلفة تماما و التي هي غير قابلة للتغيير، أو هي – على الأقل- أقل عرضة للتغيير أو للثورة العنيفة. ربما هي أقرب إلى حالات الروح، الحكمة، الحالات الداخلية أكثر من الخارجية. في تلك الحكاية الشرقية "صبي الساحر"، يصل الإنسان إلى كتاب المعرفة بعد عناء و مشقة ليكتشف أنه مؤلف من صفحات هي عبارة عن مرايا، و هذا يعني أن السبيل الوحيد لإحراز المعرفة هو أن تعرف ذاتك.
أنا لا أعرف ما قيمة ذلك بالنسبة لشخص يتوجب عليه يوميا أن يجابه كل المعضلات العملية: تسويات، توازنات، كوابح الوقت، كآبة، قلق، اقتراع، استطلاعات الرأي، إدارة المجتمع.

* لكن لماذا تكره الرياضة بنفس درجة كراهيتك للسياسة؟
-  أعرف أن في بلد مثل إيطاليا، أجازف بتعريض نفسي للإعدام من غير محاكمة بمجرد الاعتراف بأنني لم أتفرج قط على أية مباراة في كرة القدم، لكنها الحقيقة. طوال حياتي لم أكن مهتما بالرياضة. أشعر بالضجر حين أحضر، مصادفة، مباراة في كرة السلة أو التزحلق أو سباق الجري. في صباي كنت أحيانا أتولى مهمة استرجاع الكرات التي تخرج من ملعب التنس في جراند هوتيل بريميني. كيف يمكن لرجلين يرتديان سراويل قصيرة أن يستمتعا بضرب كرة صغيرة من جانب إلى آخر، ساعة بعد ساعة؟.. كان ذلك لغزا بالنسبة لي. ذات مرة تابعت سباق سيارات كمراسل صحفي لجريدة فيرارا، و لا أتذكر منه الآن سوى الضجر المفرط و العراك الوحشي و الحوادث المروّعة. توقفت بعد تقريرين، أو بالأحرى طردني رئيس التحرير لأنني كنت أخطئ في كتابة الأسماء، و لم أكن أستخدم في الكتابة الأسلوب الرنّان، المتعاطف، و المثير للاهتمام.
ربما تفرجت على مباريات المصارعة بشيء من الاهتمام، لأنني على الأرجح كنت أعاني من مركـّب نقص، إذ نظرا لكوني نحيلا أشبه بهيكل عظمي فقد كنت أحسد أولئك الشبان بعضلاتهم المفتولة و الذين يستعرضون أجسامهم أمام الجميع و هم شبه عراة. لكن التنافس، الصراع، التحدي.. هذه الأشياء كانت تسبب لي الضجر و تجعلني عدائيا. كنت بالتأكيد أشعر بتعاطف سري مع الخاسر، فالوضع الذي يحرّض شخصا ضد آخر لتحديد أيهما الأقوى و الأشجع و الأكثر رشاقة و جمالا، هذا الوضع كان يثير لدي إحساسا بالعزلة، بالرفض، بالتمرد.
سباق الألف ميل.. هذا شيء أذكره بمتعة. فقد كان حدثا رئيسيا، مثل الكريسماس و ولادة روما و الألعاب النارية.. تواريخ تتوّج السنة بمآثر استثنائية، تواريخ كنا ننتظرها بلهفة.. مثل قدر.
أيضا مباركة الحيوانات في الكنيسة و المخصصة للقديس أنطونيوس. كان عيدا مبهجا بالنسبة لي آنذاك. النهيق، النباح، صياح الديوك، صوت الخنزير.. في منتصف ذلك ينتصب راهب مفتول العضلات سوف يتظاهر بأن الدجاج و الديوك الرومية و البط و الخنازير، هي هادئة أثناء المناسبة، لأن بخلاف ذلك هو لا يستطيع أن يباركها. كان يضع قبضته تحت خَطـْم الحمار و يزمجر:" سوف أعطيك لكمة على الرأس عوضا عن الماء المقدس".
أعلم أني استطرد و انحرف عن الموضوع الرئيسي، ذلك لأني لا أعرف ماذا أقول عن الرياضة..

* كنت تتحدث عن الألف ميل...
-  آه، نعم.. الاستعدادات لتهيئة الطريق لسباق الألف ميل يبدأ عادة قبل يومين. في الخارج توضع كل المقاعد، الدكاكين تغلق أبوابها، المنازل ذوات النوافذ و الشرفات تكون مستأجرة سلفا نظرا لموقعها الاستراتيجي، أما الأفراد الأكثر فقرا فيجثمون على الأسطح. كانوا يبعثون بالرُسـُل على دراجاتهم النارية و الهوائية إلى الريف، على بعد عشرة كيلومترات خارج حدود المدينة. قبل أن يبدأ السباق بخمس أو ست ساعات كانت الشوارع تبدو خالية تماما. الأفراد يحتشدون عند المداخل أو عند النوافذ، كما لو في مقصورات دار الأوبرا. المحافظ، الكونت، زوجة السكرتير الفاشي يتفرجون عبر المناظير، و الأنظار موجهة نحو قوس أوغستوس حيث سوف تظهر السيارة الأولى. الكثيرون يلوّحون بالأعلام ، آخرون بالبطانيات. آنذاك لم تكن هناك تغطية إذاعية للحدث. لا أحد كان يعرف من الذي يفوز في السباق. الطريقة الوحيدة المتوفرة لدينا لمعرفة ما يحدث هو عندما تأتي مكالمة هاتفية تخبرنا بأن المتسابقين عبروا بارما منذ ساعة. و من هذا الخبر نستنتج حسابيا أن السيارة الأولى سوف تصل إلينا في أقل من 50 أو 70 ساعة. في غضون ذلك، الكل يبدو ساكنا و الطرقات خالية باستثناء ذاك المعتوه الذي يظهر متواثبا مثل الكنغر و يصدر ضجيجا بفمه. في وقت الشفق، سوف يأتي راكب دراجة نارية و يعلن ببوقه أن السيارة الأولى على وشك أن تصل. بعدئذ تتعالى الأصوات من كل النوافذ:" إنه بوردينو. لا، إنه كامباري. لا،لا.. بريليبيري..لقد عرفني و أومأ إلي برأسه." بعد ذلك سوف يأتي معتوه آخر، و عندما تظهر السيارة، سوف ينطلق بسرعة فائقة على دراجته محاولا في يأس أن يلحق بالسيارة التي تهدر و هو يرفع طبقا، راغبا في تقديمه للسائق بأي ثمن، صائحا:" خذ هذا الطعام، طبخته لك أمي.. إنه مفيد لك".. لكن ينتهي به الأمر إلى الوقوع في قبضة الشرطة الذين يقودونه إلى المخفر، و في الزنزانة يشاركونه الطعام الذي طبخته أمه. بعدئذ سوف يحل الظلام. عشاء بارد عند النوافذ، عناق عشاق، غناء. هكذا كانت  الأحوال تمضي طوال الليل مع الهدير المخيف و وميض السيارات التي سرعان ما تبتلعها الظلام. في الفجر، حتى الأكثر لهفة و حماسة، يكون نائما. رؤوسهم مسندة إلى النوافذ، يفتحون عيونهم المرهقة عند مرور السيارات الأخيرة، فيتساءل أحدهم:" سيارة من هذه التي مرّت؟".. و الردود تصير أكثر فحشا.. و عند السابعة صباحا، ينتهي كل شيء.




الإصغاء إلى صمت الزمن العابر

* حدثنا عن أيام الدراسة.. هل كنت مجتهدا؟
-  من روضة الأطفال إلى المرحلة الابتدائية لا أتذكر شيئا. آه، نعم.. في الروضة كانت هناك راهبة من أخوات سان فنسنزو، اللواتي يرتدين عباءات من أجنحة النوارس: كانت حليقة الرأس، مثل المحكومة بالسجن في الرسوم الهزلية، و وجهها كان دائما أحمر. لا أستطيع أن أحدد كم كان عمرها، ربما 15 أو 20 سنة. ما أذكره أنها كانت دائما تحضنني و تعتصرني. كانت تحتك بي و تجذبني إلى جسمها الذي له رائحة قشور البطاطس، و المشبّع بنكهة حساء فاسد، و تلك الرائحة التي تميّز أردية الراهبات. ذات يوم و أنا ملتصق مثل دمية صغيرة بذلك الجسم الكبير، الصلب و الدافئ، شعرت بالدوار، بإثارة، بوخز خفيف على طرف أنفي من فرط الاهتياج. لم أكن أعرف سببا لذلك، لكن كاد يصيبني الإغماء من المتعة. ذلك كان، كما اعتقد، انفعالي الجنسي العنيف و الأول، لأن - حتى يومنا هذا- رائحة قشور البطاطس تسبب لي بعض الوهن.
في المدرسة الابتدائية، كان مدرسنا جيوفانيني يختفي كل كريسماس و أعياد الفصح خلف أكداس من الهدايا التي كنا نجلبها نحن الأشبه بأفراد عبيد، مهزومين، الراكعين في خشوع أمام مذبح الطعام، متكلفين الابتسام . كان بوسعنا أن نسمع صوته وراء أكوام من الجبن، السلال المليئة بالدجاج، صناديق النبيذ، البط و الديوك الرومية. ذات مرة،رأينا ستاشيوتي، الطالب الكسول الذي لا يزال في المرحلة الثالثة رغم أنه في السادسة عشرة من عمره، يدخل الفصل حاملا خنزيرا صغيرا حيا، و في تلك السنة، و بفضل الخنزير، ارتفع إلى صف أعلى. أنا أيضا انتقلت إلى صف أعلى بفضل جبن بارما الممتاز(و هو جبن جاف حرّيف) و الذي جلبه أبي هدية إلى الأستاذ.
لقد حكيت الكثير عن أيامي في المدرسة الثانوية في فيلمي " أماركورد"، و من هذا الفيلم تستطيع أن تكتشف بأنني لم أتعلم إلا القليل من المدرسة. لكن لكي أكون منصفا أقول بأني استمتعت كثيرا.
لم أستفد من دراسة اللغة الإغريقية، اللاتينية، الرياضيات، الكيمياء. لم أعد أتذكر شيئا من هذه الدروس، لكنني تعلمت أن أنمّي روح الملاحظة، أن أصغي إلى صمت الزمن العابر، أن أتعرّف على الأصوات و الروائح البعيدة القادمة عبر النوافذ مثل سجين يعرف المدة التي يستغرقها ذلك المثلث الصغير من شعاع الشمس حتى يصل إلى سريره، أن أميّز جرس كنيسة دومو عن جرس كنيسة سانت أغوستينو.
لدي ذكريات سارة عن كل الصباحات و فترات ما بعد الظهيرة التي كنت أبددها في كسل، دون فعل أي شيء، ممددا ساقيّ تحت المقعد، منظفا أظافري بطرف القلم، و مستغرقا في أحلام اليقظة عن فولبينا التي تمارس الحب مع البحارة خلف سلسلة من صخور الشاطئ.

* إذن المدرسة بالنسبة لك كانت مكانا للرصد و الملاحظة..
-  ربما في المدرسة اكتسبت تدريجيا ذلك النزوع الكاريكاتوري، الهزلي. تلك الطريقة الخاصة في النظر إلى الناس بتهكم.. هذه النزعة التي غرسها فيّ أولئك المدرسين طوال مراحل الدراسة. كانوا حقا مضحكين و مثيرين للشفقة رغم صراخهم المتواصل، عيونهم البرّاقة خلف نظاراتهم، إهاناتهم و تحقيرهم لنا، تمزيقهم لواجباتنا المنزلية كما لو أنها تتضمن هرطقات شائنة، تهديداتهم الزاعقة بلهجة مجهولة:" يتوجب أن تكونوا في السجن، في مصح عقلي، لا في مدرسة".
على الرغم من تلك المواقف و السلوكيات العصابية، الفصامية، أو ربما بسبب ذلك، كنت أشعر بميل كبير تجاههم. كانوا يتكلمون بنبرات و لهجات لم نسمع عنها من قبل، إلا ربما في بعض السجون من شرطي "جنوبي". و الجنوبيون، بالنسبة لسكان ريميني، هم القادمون من ماتيرا، ريجيو كالابريا، سيراكوسه، نابولي.أحد زملائنا في المدرسة جاء من أنكونا، و كنا نسميه الجنوبي، و في كل مرّة يسمع منا هذه الكلمة ينخرط في البكاء. في الحقيقة، عندما نتحدث نحن بلهجة ريميني كنا أيضا نتعرض لسوء الفهم، و نثير سخرية الآخرين الذين يشبّهوننا بالصيني الذي يتكلم بلغته و رأسه تحت الماء.
لكننا كنا ننفجر في ضحك وقح عندما يقرأ لنا الأستاذ دي نيتيس شيئا من جحيم دانتي، جاعلا الفصل يدوّي بإيقاع لهجته المنتسبة إلى بارليتا. ربما في المدرسة أيضا تعلمت بأن هناك أنواعا من الإيطاليين، و أجزاء صغيرة عديدة من إيطاليا، كل جزء يختلف عن الآخر.

* بما أنك ذكرت جحيم دانتي، أود أن انحرف قليلا عن المسار و أسألك إذا كان صحيحا أنك تلقيت العديد من العروض، من قِبل المنتجين الأمريكان تحديدا، لتحويل "الكوميديا الإلهية" إلى فيلم؟.. السينما كانت دائما ترى في قصيدة دانتي إغواءً لا يقاوَم..
-  نعم، هذا صحيح. لقد تلقيت هذا العرض في ثلاث أو أربع مناسبات، و دائما كانت وجوه الأطراف المشاركة في الاجتماع تتمدد في خيبة أمل، عاجزين عن فهم موقفي الرافض. إنه أمر خطير، خطير جدا و لا يمكن اغتفاره، أن أقول لا لمشروع شامخ كهذا. آخر مرّة، حاول منتج أمريكي ضخم، و جدير بأن يُحب، أن يقنعني بأنني الوحيد القادر على جعل الأمريكان يفهمون ما كان دانتي يفعله في الجحيم.
المشروع مغرٍ. و أود أن أحقق نصف ساعة من الصور المجنونة و الفصامية، الجحيم بوصفه بُعدا ذهانيا يتسم بالاضطراب العقلي، الاشتغال على أعمال سابقة مستمدة من دانتي: سينوريلي، جيوتو، هيرونيموس بوش. أيضا اسكتشات المجانين، جحيم صغير، مقفر، غير مريح، محكم، غامض تماما.
لكن، عادة، المنتج الذي يقترح "الكوميديا الإلهية" يريد: مشاهد مفعمة بالدخان، مؤخرات عارية، وحوشا كالتي نراها في الخيال العلمي.
العمل الفني يملك تعبيره الاستثنائي الخاص به. التحويل من شكل فني إلى آخر أجده شديد البشاعة، سخيفا، لا شأن له. إني أعطي الأفضلية للموضوعات الأصلية المكتوبة مباشرة للسينما. أعتقد أن السينما لا تحتاج إلى الأدب، تحتاج فقط إلى كتّاب سينما، أعني الأفراد الذين يعبّرون عن أنفسهم وفقا للإيقاعات الجوهرية للفيلم.
الفيلم شكل فني مستقل بذاته، لا يحتاج إلى ترجمات أو تحويلات إلى مستوى و الذي، في أفضل الأحوال، سوف يكون دائما و إلى الأبد مجرد توضيح. كل عمل فني يزدهر في البُعد الذي يتصوره و الذي من خلاله يجد تعبيره. ما الذي بوسع المرء أن يحصل عليه من رواية ما؟ الحبكة. لكن الحبكة نفسها لا أهمية لها. ما يهم هو الإحساس الذي يتم التعبير عنه، الخيال، الجو، الإضاءة. التأويل. التأويل الأدبي للأحداث لا علاقة له بالتأويل السينمائي للأحداث ذاتها. إنهما منهجان للتعبير مختلفان كليا.

*  مع أنك تتحدث بتعاطف و تفهّم عن أيام الدراسة، إلا أنك على ما يبدو تشعر أن النظام التعليمي كان مقصّرا في التزامه بتعليم الأطفال.. لو عُينت وزيرا للتعليم، ماذا كنت ستفعل لإصلاح النظام التعليمي؟
-  لا أبناء لدي. و نظرا لانشغالي الدائم في تحقيق الأفلام فإنني أجهل طبيعة الدراسة اليوم و كيف تبدو المدارس. أستطيع أن أخمّن بأن الدراسة، بصرف النظر عن المظهر الخادع للواجهة وارتخاء الانضباط الصارم، لا تختلف كثيرا عن الدراسة في مراحل سابقة من جهة واقعها كمجال ضيق و ناقص و غير مؤهل لتحمّل مسؤولية تنمية و تطوير الطالب.
الطفل يبدأ في تلقي التعليم حين يبلغ السن الذي فيه تكون التخوم بين الخيال و الواقع، بين عالم المعرفة المفتوح و العالم اللاعقلاني الأكثر اتساعا، عالم الحلم، عالم المعنى الباطني، هي من أكثر التخوم رقة و هشاشة. مع ذلك، هي أشبه بغشاء ذي مسامات من خلالها قد تتدفق روح التغيير. هذه المرحلة، الحالة السامية، سرعان ما تختفي مع مرور الوقت. و بدلا من التعرّف عليها و التسليم بها و حمايتها كشيء ثمين، كعصر ذهبي للمعرفة و القدرة على العيش، فإن المدارس تهملها و تتجاهلها كليا. تنظر إليها في ريبة، في كراهية، لكونها تتعارض مع النظام التقليدي الذي فيه ينبغي أن يوضع الطفل.
لا ذنب لأحد في خلق هذا الوضع، إنه جزء من الكسل الذهني، القصور الفكري، الذي به نحن، بوجه عام، نخاطب مشكلات التعليم، مقتنعين بأن الطفل عبارة عن خطأ تام يجب إخضاعه للعلاج.
من جهة أخرى، نحن نتعامل مع كائن غريب و فريد، لديه الوسيلة الخاصة (التي هي بدائية لكنها محتفظة ببكارتها) و التي من خلالها يحقق اتصاله بالواقع. هو، مثل العناصر الطبيعية، يحتفظ بالمعرفة التي فقدناها. إنه يعرف الكثير من الأمور المنسية أو المجمّدة على نحو فعال من قِبلنا.
لو كان لدي ابن لحاولت قبل كل شيء أن أتعلم منه. الآباء و الأمهات عادة يفعلون النقيض، إنهم يفرضون على أبنائهم ما يعرفونه من التوافه و لا يسألونهم عن أي شيء على الإطلاق. لم أر قط أباً ينحني على ولده و يسأله عما يفعله، عما يريده، كيف تبدو له القطة، كيف ينظر إلى المطر، بم يحلم في الليل، أو لم هو خائف. نحن ممتلئون كليا بمشاكلنا الخاصة، برؤيتنا القاصرة للواقع.
كنت دائما مفتونا بهذا الكائن الصغير الغريب، بوجوهه الهزلية الساخرة، باستبداديته، بضراوته، بمظهره المتسم بالبراءة الحيوانية.
الفيلم الذي أندم كثيرا على عدم تحقيقه – و الذي هو مستحيل عمليا- يحكي قصة ثلاثين طفلا تقريبا، تتراوح أعمارهم بين عامين أو ثلاثة أعوام، يعيشون في منزل كبير يقع على حافة المدينة. ما يأسرني و يثير اهتمامي  ذلك الاتصال التخاطري، الغامض، بين الأطفال. النظرات التي يتبادلونها عندما يلتقون على السلالم أو خلف باب أو في المهد أو حين يُمسك بهم مثل حزم من النباتات. إنه فيلم عن الحياة داخل منزل ضخم، و جميعهم يعكسون وجهة نظر الأطفال و تخيلاتهم. إن قصصهم عن الحب المطلق، الضغائن، التعاسة، مروية كلها على السلالم و في الممرات و في الحدائق الصغيرة.. في النهاية يأتي من يصطاد هؤلاء الأطفال، كما لو كانوا مجرمين مطاردين، يضعونهم في روضة أطفال و هناك، في اليوم الأول، يقومون بإخصائهم.
من بين كل المشاريع التي لم تنفذ بعد، تتكرر هذه القصة في البروز مع حالة من التأنيب. سيكون فيلما محركا للمشاعر و هزليا على نحو لا متناه. هؤلاء الأطفال لديهم مستودعات غنية جدا. لديهم الكثير من الأسرار التي سوف تختفي شيئا فشيئا.

* لنعد إلى ذكريات طفولتك.. أي صنف من الأطفال كنت؟
-  يحدث أحيانا أن أتأمل بعض الصور الفوتوغرافية القديمة لي. ثمة صورة لي و أنا في زي بحار، واقف إلى جانب أخي، خلف أبي و أمي الجالسين على كرسي من المخمل. أذكر أنه كان علينا أن ننقل الكرسيين من بيتنا إلى ستوديو المصور الذي كان اشتراكيا و تحت مراقبة الشرطة. أمي أصرت على التقاط الصورة و هي جالسة على ذلك الكرسي و في حجرها كلبها الصغير تيتينا.. و قد اختارت له هذا الاسم تيمناً باسم الجنرال الذي كان وقتذاك يواجه مشاكل و هو على طوف جليدي في القطب الشمالي.
في صورة فوتوغرافية أخرى، أكون محشورا وسط حشد من زملاء الدراسة، فيما أؤدي دور المهرج بقامة متقوسة و ظهر محدودب  مثل الممثل لون شاني في "أحدب نوتردام".
في صورة أخرى، أنا وحدي، نحيل جدا، لابساً ثوب سباحة باللون الأحمر و الأزرق و الذي يصل إلى ركبتيّ. كنت أبتسم و العينان متجهتان إلى السماء مثل فتى غرّ بريء، و شعر الرأس ملتصق ببعضه بمستحضر زيتي لتلميع الشعر.. و لا أعرف من الذي أقنعني أو بم وعدوني لكي أقبل الظهور في هذه الصورة بهذا الشكل.
عند تأمل هذه الصور: هل بإمكان أي شخص أن يفهم أي صنف من الأطفال يوجد في هذه الصور؟ هل كان طيبا؟ هل كان مخلصا؟ هل كان سعيدا؟ و ما الذي بقي من ذلك الطفل الرقيق، الأنثوي تقريبا؟
قلت في مناسبات أخرى أنني، على الرغم من وصفي غالبا بـ "مخرج الذكريات"، إلا أنني لا أتذكر إلا القليل جدا من طفولتي. لكن لكي أسعدك، سوف أسرد لك حادثة عرضية و التي، على يد محلل نفساني، يمكن أن توحي بطبيعة الشخصية، بالتوجه المهني، و حتى التلميح إلى المصير.
آنذاك كنت أحب أن أثير الشفقة، أن أبدو غامضا و محفوفا بالأسرار. كنت أحب أن يساء فهمي و لا يجد الآخرون سبيلا إلى معرفتي بوضوح، و أن أنظر إلى نفسي كضحية. ذات مرة، استحوذت عليّ فكرة انتقام لا أحد يعرف دوافعها. هيأت نفسي لمشهد انتحار: لطخت جبيني و يديّ بحبر أحمر سرقته من مكتب أبي، ثم تمددت على الأرضية الباردة جدا عند أسفل السلـّم. هناك مكثت في صمت، حابسا أنفاسي، منتظرا أن يأتي شخص ما و يطلق صرخة الرعب الأولى. قلبي كان يخفق بشدّة، و الأرضية باردة إلى حد أنني أصبت بتشنج في ربلة ساقي و صارت الساق كلها ترتجف.. و كنت أفكر:"هكذا أفضل. أن أهتز في ألم". لكنني أيضا كنت أخشى أن تراني أمي في هذا الوضع فترمي نفسها من أعلى السلـّم حزنا علي.. رجوت ألا يحدث ذلك، و بقيت مكاني بلا حراك، منتظرا، مغمورا بالمصير البائس. بعد وقت، سمعت صوت انفتاح الباب و وقع أقدام تدنو مني، ثم شعرت بضربات خفيفة على الركبة بطرف عكاز. كان عمي بوجهه الذي يخلو من أي تعبير. و من ارتفاع ستة أقدام، هي طوله،قال لي:"إنهض أيها المهرج الصغير، إذهب و اغسل وجهك".. ظننت أنني سوف أموت حقيقةً من الغيظ و من الحرج، و لسنوات طويلة كرهت ذلك العم الذكي، الذي بلا قلب.  







ظل يشطر الميدان إلى نصفين

* عندما اندلعت الحرب الأثيوبية، كنت في السنة الأولى من المرحلة الثانوية.. ما الذي تتذكره من تلك الأيام؟
-  رحيل المتطوعين للخدمة العسكرية من ريميني، وسط أعلام و دوارق النبيذ، و الناس ينظرون إليهم في ذهول. كنا نشاهد وجوه شبان ببزات عسكرية وعلى رؤوسهم الخوذ. لم نستطع أبدا أن نتخيلهم و الحقائب مشدودة إلى ظهورهم و في أيديهم بنادق ذات حراب. كان معهم جيجن مصارف المياه، و قد سُمي كذلك لأنه كان على الدوام يقضي حاجته في مصرف للمياه يقع خلف السجن مثيرا غضب غاسلات الملابس اللواتي كن يرشقنه بالنعال و كتل الصابون التي بحجم القرميد.
و كان معهم شيابالوس، الذي لا يمكن ترجمة لقبه لأنه فاحش جدا. و هناك أيضا ابن مدير الشرطة، و شارلي شابلن الذي كان مؤهلا لأن يصير قسيسا لولا أنه وقع في غرام فتاة كانت تبيع الآيسكريم. و هناك رودريغوس بطل الملاكمة للوزن المتوسط، و الشاب الذي فقد أسنانه نتيجة اللطمات العديدة التي تلقاها بعد أن غنى "الفتاة الصغيرة ذات الوجه الأسود".
كانوا يمضون إلى الحرب و هم يرموننا بنظرات حادة و ضارية كما لو يتهمون من بقي بالتخاذل و الجبن. مضوا وسط خليط من الأغاني الجماعية و الصرخات الهائجة الوحشية و الأعلام السوداء التي ترفرف. كان الموكب يتحرك وسط سحابة كبيرة من الغبار. و من نافذة ما، برز شخص استبد به الانفعال، إما فرحا أو غضبا، و رمى برتقالة مباشرة في وجه عامل التلغراف الذي دفعته الروح الوطنية إلى التلويح بعلم أحمر و أبيض و أخضر.
أذكر تلك الملصقات على جدران ريميني و التي تُظهر عضوا في رابطة المحاربين القدامى يحمل فأسا يحطم بها سلاسل تقيّد عائلة من السود بأكملها. و أتذكر تلك البطاقات السياحية الأولى لنسوة سوداوات بأثداء عارية.
أيضا أتذكر كيف كنا نتصرف كمهرجين أثناء الدوام المدرسي، حين نذهب في مجموعة مؤلفة من ثلاثة أو أربعة تلاميذ لرؤية مدير المدرسة، و بأصوات ترتجف من فرط الحماس و الانفعال، نطلب من الرجل الطيب أن يعطينا العلم لكي نحتفل بانتصار جنودنا البواسل الذين نجحوا ليلة الأمس في الدخول منتصرين.."أين دخلوا؟".. تساءل المدير الخنوع، الليبرالي سابقا، ذو الأنف الشاحب الكبير الذي يجعله يبدو أشبه بأرنب. و نحن، بنبرة تحذير، أجبناه:"في وافانكول، أيها السيد المدير، بالقرب من تولينتيساك."
و لابد أن المسكين كان يرتاب في أسماء تلك الأماكن التي نختلقها لكنه لم يجرؤ على الاعتراض. ذات مرّة، قال سكرتير الحزب، في خطاب له في بداية السنة الدراسية: نعم، ليوباردي شاعر جيد، لكن اقر أوه بتحفظ و ارتياب، لأن هناك شعر أفضل، أعني الشعر الوطني.
و المدير، الذي كان يعتبر ليوباردي إلها، شعر كما لو أنه خاضع لمراقبة جدية. هذا هو السبب الذي منعه من الاعتراض، و الذي جعله يعطينا العلم دون نقاش. و نحن، المفعمين ببهجة شيطانية، انطلقنا للتظاهر تحت نوافذ المدرسة العلمية، المدرسة التقنية، مدرسة القانون، محررين الطلبة، و معا ننحدر صوب البحر للاحتفال بانتصار جنودنا و دخولهم وافانكول.

* ما مدى صحة قصة هروبك من البيت و انضمامك إلى السيرك؟
-  كم أتمنى لو كان ذلك حقيقيا. على العموم، أشعر بشيء من الارتباك في التحدث عن السيرك بعد أن صورته في كل أفلامي.
في السيرك يتمثـّل ذلك التعايش بين الواقع و الخيال.. بطريقة غامضة يتعذر تفسيرها. عندما خطوت للمرّة الأولى في تلك الخيمة الكبرى الرطبة، الصامتة، التي تسترد أنفاسها، شعرت بنوع من الصدى المكثـّف، شعرت في الحال بأنني في بيتي، في ذلك المكان الفاتن المليء بنشارة الخشب الرطبة، الضاج بفعل ضربات المطرقة، و الجلبة التي تصم الأذن الصادرة من كل مكان، و صهيل حصان.. كان ذلك سيرك بيرينو الذي حكيت عنه في فيلمي "المهرجون". ربما كان سيركا صغيرا لكنه بدا لي، وقتذاك، هائلا.. أشبه بمركبة فضاء، منطاد، شيء أستطيع أن أسافر به.
حين بدأ العرض و تفجرت من حولي الأبواق، الأضواء، قرع الطبول، صخب المهرجين بملابسهم الرثة و حركاتهم المتثاقلة و حيلهم و هرجهم و مرحهم الضاج.. و كنت حينذاك جالسا على ركبتيّ والدي، بدا لي –على نحو غائم- أن حضوري في السيرك كان متوقعا و إنهم كانوا ينتظرونني.. بدا أنهم تعرفوا علي، مثل دمى آكل النار عندما يأتون إلى المسرح و يرون بينوكيو على الوتر فيحيونه و يرحبون به كواحد منهم، ينادونه بالاسم و يعانقونه و يرقصون معه طوال الليل.
في الواقع كنت أعود إلى السيرك كل يوم ما دام هو باق مخيّما قرب بيتنا. كنت أمكث هناك متفرجا على البروفات و على كل العروض. ذات مرّة بحث عني أهلي حتى منتصف الليل، و لم يخطر ببال أحد منهم أنني قد أكون على بعد خطوات منهم. بعد أسبوع  وجّه لي الأستاذ ريفو جيوفانيني تأنيبا قاسيا و علنيا، و عندما قال، مشيرا نحوي بعصاه:"لدينا مهرّج في الفصل"..كاد أن يغمى علي من فرط السرور.

* في فترة المراهقة، ماذا كنت تفعل، بم كنت تفكر؟
-  بم ينبغي أن يفكر صبي عاش في الأقاليم مع عائلته، مع الفاشية، الكنيسة، المدرسة، الأفلام الأمريكية، و في الصيف كان يتفرج على النساء الألمانيات على الشاطئ بثياب السباحة.
ليس لدي ذكريات دراماتيكية مثيرة، و فوق ذلك، فقد قمت بتفريغها كلها في أفلامي. بتحويلها و تسليمها إلى الجمهور أكون قد ألغيتها. الآن لا أستطيع أن أميّز ما حدث فعلا عن تلك الأحداث التي اخترعتها. الذكريات المتخيلة تنطبع فوق الذكريات الحقيقية، و الشخصيات التي تنتمي إلى فترة مراهقتي في ريميني تتنحى جانبا فاسحة الطريق لممثلين يفسرون تلك الشخصيات في أفلامي. لقد فرّغت مخزوني من الذكريات المنتسبة إلى تلك المرحلة. امنحني بعض الوقت و سوف أخترع لك ذكريات جديدة.

* و ماذا عن بلدتك ريميني؟
-  وهج الشمس صيفا، و في الشتاء كان الضباب الذي يجعل كل شيء يختفي.
الضباب تجربة وجودية عظيمة. ريميني في الشتاء تفقد وجودها. الميدان يختفي، كذلك دار البلدية، و هيكل مالاتيستا. الضباب يحجبك عن الآخرين، يمنحك مخبأ مثيرا، يحوَلك إلى شخص غير مرئي. لا أحد يراك، بالتالي فأنت غير موجود. هذه الحقيقة كانت تسبب لي الرعشة إلى حد أن جسمي يستشعر وخزا خفيفا بفعل الاهتياج.
أكثر الذكريات قوة و حضورا في فترة مراهقتي هي تلك المرتبطة، في الجزء الأكبر، بأحداث طبيعية، مشهدية على نحو حي دائما، و التي أحببت أن أشهدها وأن أثيرها أحيانا.
كنت على الدوام أشعر بنزوع معين لتأويل الأشياء من خلال الفنتازيا. خاصية رؤيوية معينة. اختفاء دومو، الذي ابتلعه الضباب،أثار مشاعري بقوة. في الصيف، الظل المديد لمسرح فيتوريو إيمانويل  و هو يقطع ميدان كافور. كان مشهدا فاتنا أو ربما أردت أن أشعر بالفتنة لكي أبدو مختلفا عن زملاء الدراسة الذين لم يجدوا سحرا أو فتنة في ذلك و لم يفهموا سبب اهتمامي الشديد بالظل الذي يشطر الميدان نصفين. المشهد غير الاعتيادي يلفت انتباهي و يأسرني. كنت منذ طفولتي استخدم الألوان لتمويه نفسي. يوما ما جاءت من بولونيا قريبة لي أكبر سنا مني، و لم أنتظر طويلا كي أسرق منها أحمر الشفاه ثم أحبس نفسي في الحمّام و ألطخ وجهي به.

* متى بدأت تطرح على نفسك الأسئلة؟
-  أبدا لم أطرح على نفسي أية أسئلة.. حتى في يومنا لا أفعل ذلك، و لا أفهم لم أنت تطرح عليّ هذه الأسئلة. بما أني لا أعرف الإجابة فإنني لا أرى سببا يدفعني لأن أربك نفسي بالأسئلة.
من دراستي الفلسفة في المرحلة الثانوية أتذكر فقط الأستاذ ديلامور من أفيلينو.  يكتب الشعر مثل دانونزيو، شعر حسي جدا، و مرّة في الشهر  يقرأ لنا شيئا من شعره. وجهه كان وسيما و بشرته سمراء بسبب الشمس الجنوبية، له شعر طويل، و نظارته تومض، و يمكن ملاحظة ثقوب في جواربه. كنت معجبا به كثيرا. كان معنا في الفصل تمبراشي دويليو ، ابن رجل متعصّب للحزب و الذي، في المواكب الدينية، يرتدي زي شبح، يحمل الصليب و ينشد بوجه عابس و نظرات متوعّدة ( أثناء مشاركته في إحدى هذه المواكب أصيب بنوبة قلبية بسيطة فانهار المسكين و وقع الصليب الكبير الذي يحمله على أحد المتاجر ليحطم النافذة الأمامية) أما ابنه الذي في فصلنا فقد كان يتجسس لصالح مدير المدرسة و نقل له أن الأستاذ ديلامور يقرأ شعرا بذيئا في الفصل أثناء حصة الفلسفة. منذ ذلك الحين، كلما طلبنا من الأستاذ أن يقرأ شعرا، يرفض ذلك في أسف، دون أن يخفي زهوه إزاء الطلب، و كان يتوسل إلينا بعدم الإلحاح ثم يشرع في إلقاء محاضرة عن سبينوزا.
حتى تلك السنة الدراسية لم أكن أعرف أبدا أن هناك فرعاً من المعرفة (الفلسفة) يعلمنا من نكون و إلى أين نحن ذاهبون. لذلك كنت أصغي مفتونا بالمحاضرات الفلسفية. أخيرا جاء إلى مدرستنا شخص سوف يخبرنا بأمور مشوقة و مثيرة للاهتمام، إلى جانب الأستاذ دي نيتيس الذي كان يقرأ هوميروس على نحو تراجيدي بحيث يحرّك مشاعرنا إلى حد البكاء.
لكن يجب أن أضيف بأنني لا أتذكر إلا القليل من كل تلك التأويلات التفاؤلية للفكر الإنساني، و كل تلك المفاهيم الكونية. المدرسة و الحياة كانتا شيئين منفصلين و متباعدين بعمق. قلما استطاع عالم المدرسة التجريدي، المغامر ورقياً، أن يلقي ضوءا ساطعا على البشرية سواء على نحو ملموس أو بواسطة خيال حقيقي.
من كل دروس الأستاذ ديلامور الجدير بالإعجاب، أذكر ابتسامته الجريئة و القنوعة عندما، بعد إسكاتنا، يسأل بصوت أقرب إلى الهمس: "يا أولاد، إذا تسابق أخيل، ذو القدم السريعة و الرشيقة، مع سلحفاة، فأيهما سيصل أولا؟".. مخربا رضاه عن نفسه، نهضت و أجبت: "السلحفاة"..في الواقع لم استطع شرح السبب، لكن لحسن حظنا كان زينون (الفيلسوف اليوناني و مؤسس الفلسفة الرواقية) قد سبق أن حل هذه المعضلة المحيّرة قبل عدة قرون.

* ثم انتقلت إلى فلورنسه.. لم فلورنسه بالتحديد؟
-  لأن مجلة نربيني الهزلية الأسبوعية 420 كانت تصدر هناك، حيث أرسلت لهم رسومات و اسكتشات، و لأنها أقرب إلى ريميني من روما أو ميلان. كنت لا أزال في الثانوية عندما ركبت القطار ذات صباح و قدمت نفسي في مكاتب تحرير420 ، حيث كنت أعرف المصمم الفني جيوفي توبي، الذي كان الدعامة الأساسية لكل مطبوعات نربيني، فهو مصمم الأغلفة و البطاقات البريدية، إضافة إلى أغلب رسومات 420 و قصص الأطفال و الملصقات.
مع أنفه الكبير و شعيرات لحيته البيضاء، كان جيوفي توبي يمكث النهار و الليل خلف طاولة الرسم الكبيرة في حجرة ضخمة تبدو لي، أنا القادم من ريميني، جميلة جدا.
توبي رحّب بي كما لو كان أمرا طبيعيا أن أكون هناك. لم ينظر إليّ بل واصل الرسم و هو، في غضون ذلك، يسألني إذا كنت أعرف في ريميني فتاة ذات بشرة سمراء و عينين خضراوين  و التي هزمته في مصارعة لوي الذراع.
تصورته شخصا يحب أن يلعب دور الذي يساعد الشباب على القيام بالخطوة الأولى. في يده المتكورة، و التي يمسك بها القلم، رأيت رأس طائر صغير، و جيفي توبي الذي لم ينظر إليّ بعد، شرح قائلا: "هذا الطائر يريد أن يكون هنا، ليس في يدي اليمنى، بل في اليد التي أرسم بها. لو تركته ليذهب، حتى للحظة واجدة، فسوف يبكي في يأس. هل تسمعه؟ إنه يمس شغاف قلبي". ثم يعيد الطائر إلى موضعه في يده اليمنى الدافئة، يتنهد و يشرع في الرسم ثانية.

* إذن هكذا توظفت في مجلة 420 ..
-  نعم، لكن بعد سنة تقريبا، فقد كان علي أن أنهي المدرسة. عندما حان تقديم الطلب إلى الجامعة، انتابتني الحيرة و لم أستطع أن أحسم خياري. كنت وحيدا و غير واثق من قراراتي. كل الرفاق كانوا يعرفون ما يريدون إلا أنا الغائص في التشوّش و الاضطراب.
لاو تسي، الفيلسوف الصيني و مؤسس التاوية ( و اغفر لي لجوئي إلى الاقتباس، و أؤكد لك بأن هذا سوف لن يتكرر خلال هذه المقابلة) قال:" أعرف فقط ما سوف لن أكونه".
و أنا لن أكون محاميا حسب رغبة أبي، و لا طبيبا حسب رغبة أمي، و لا مهندسا و لا أميرالا. كاتب؟ رسام؟ كنت مولعا جدا بمهنة مراسل الجريدة، و مفتونا بقوة بالممثلين الهزليين، الذين اعتبرهم هبة الله إلى الجنس البشري. إثارة ضحك الناس كانت تبدو لي دائما امتيازا يضاهي إلى حد ما امتياز القديس.









سحر الحياة اليومية

* لكن بالتأكيد في تلك السنوات كنت تشاهد أفلاما أخرى و ليس فقط النوع الهزلي..
-  جريتا جاربو، جاري كوبر، توم ميكس لم يحركوا مشاعري مثلما فعل بستر كيتون أو لوريل و هاردي. لم أكن أحتمل همفري بوجارت و لم أفهم كيف يمكن لشخص أن يكون غاضبا طوال الوقت إلى حد أنه يظل مرتديا معطفه الواقي من المطر حتى في الفراش. جاربو أثارت الرهبة: شامخة، متغطرسة، تجريدية.
لكن الأخوة ماركس عصفوا برأسي و فجروا عقلي، كانوا أسلافي الروحيين. و أحببت بستر كيتون أكثر من شارلي شابلن الذي ملأني بارتياب معين مع حدّة و صفاء عينيه (الأشبه بعينيّ قط) و أسنانه البارزة كأسنان حيوان قارض. لعل شابلن هو الأعظم، لكن
كيتون لا يحتال عليك بالإفراط في الحالة الوجدانية. صراعاته، نكباته، كوارثه لا تحدث من أجل تقويم الباطل أو تصحيح الأخطاء أو رفع الظلم، إنها لا تسعى إلى تحريك المشاعر أو إثارة السخط. قوته الرئيسية تكمن في اقتراح وجهة نظر، استشرافٍ مختلفٍ كليا، فلسفةٍ تسخر من كل الوصفات و الأفكار الصارمة و الثابتة و تطيح بها. كيتون شخصية هزلية طالعة مباشرة من بوذية الزنZen.. وجه متحجّر و رباطة جأش مشرقية. كل دعاباته هي دعابات أحلام حيث يوجد المجاز و الفطنة و المظهر الهزلي في الأعماق الأكثر غورا. الضحك الصامت على التباين الهائل الذي لا يقبل المصالحة بين وجهات نظرنا و لغز الأشياء.

* لنعد إلى فلورنسه قليلا. إلى جانب الممثلين الهزليين، هل هناك أيضا كتـّاب اعتبرتهم أسلافا روحيين؟
-  كم بودي أن أجد، نهائيا و على نحو حاسم، الشجاعة للاعتراف بعدم قراءتي لعدد من الكتب.. و يا لها من حرية يتمتع بها المرء عندما لا يضطر أن يجازف بعد الآن بطرح تلك العبارات المقتبسة و التي تتفق مع رأي و حكم شخص آخر.
ربما بدأت الآن تدرك مدى عقم الاستمرار في إكمال الحوار مع شخص مثلي..
لا بأس، سأحاول تذكّر أسلافي الروحيين: بينوكيو، بيبي و بوبو، ديكنز، جزيرة الكنز، إدغار ألان بو، آرشي و مهيتابل، جول فيرن، جورج سيمنون الذي تعرّفت عليه و نشأت بيننا صداقة قوية ( أخبرني ذات مرّة أنه مارس الحب مع عشرة آلاف امرأة.. هل أقدر أن أصبح كاتبا مثله؟)
ثم، و رغما عن المدرسة، أود أن أضيف هوميروس، كاتولوس (شاعر غنائي روماني)، هوراس. أيضا أحب حملة زينوفون العسكرية (مؤرخ و قائد عسكري يوناني) مع أولئك الجنود الذين بعد "كل أربعين فرسخ يأكلون الزيتون و يشربون النبيذ بينما يتكئون على رماحهم الطويلة".
لكن كيف يمكننا أن نتذكر كل الكتب التي ساعدتنا على النمو، على كشف ذواتنا أمام أنفسنا؟ هل تتذكر يامبو؟ هو الذي كتب قصص أطفال مزيّنة برسوم في غاية الجمال، كما ابتكر شخصية ميستولينو الذي كان صورة عن نفسي: صبي هزيل جدا، مكسو بالشعر، عاجز فطريا عن قول الحقيقة.

* كنت تتحدث عن تجاربك المبكـّرة مع محرر "نيربيني" الذي كان ينشر الكتب الهزلية.. ماذا كنت تفعل في فلورنسه مابين 1937 و 1938؟
-  كنت أشتغل هناك في مختلف المهن، من مراسل إلى سكرتير هيئة التحرير. كنت ألصق الطوابع على الأغلفة و الظروف، و أحيانا أنقل ما يشتريه ألدو بالازيشي من السوق إلى عربته. حينئذ لم أكن أعلم أنه كاتب كبير. كل ما علمته أنه رجل مهذب، هادئ، عطوف. كان يحب أن يتسكع حول الأكشاك التي تعرض السلع للبيع، و يشرع في المساومة مقابل خس و طماطم و جبن. النسوة في ساحة السوق كن يسمينه بروفيسور. و ذات مرّة نادته إحداهن بـ صاحب السعادة، فضحك كثيرا. و عندما قمت أنا بتحيته عند عربته، انحنى أمامي نصف انحناءة متمتما: سعادتكم.. وذلك أمام دهشة الحوذي، و هو شاب قوي، مبلل بالعرق.
في مناسبة أخرى، قال لي بالازيشي أنني في سنّي ينبغي ألا أكتب تلك القصص القصيرة الساذجة للجرائد، بل أن أكتب الشعر. بعد سنوات طويلة، عند قراءتي " شقيقات ماتراسي" و خصوصا "روما"، تكوّن لدي إحساس بالحرج و الخجل لأنني لم أميّز في حينها الحضور المضيء لمعلم عظيم.
أصدقائي آنذاك كانوا من كتـّاب و فناني نيربيني، الذين أصدروا عددا من المطبوعات مثل: بوفالو بيل، الكشافة الثلاثة، المغامر، و 420. و ذات مرّة نشأت توترات سياسية بين إيطاليا و أمريكا، و نتيجة لذلك تم منع المطبوعات الهزلية الأمريكية ، و عندئذ وافقت بجرأة، مع جينو سكياتي، أن نستمر في كتابة النصوص بينما قام جيوفي توبي برسمها، محاكيا الرسوم الأصلية على نحو تام.

* في ديسمبر1938 ذهبت إلى روما لتعمل في مجلة هزلية أخرى "مارك أوريليو".. كيف حدث ذلك؟
-  أيام الدراسة، كانت هذه المجلة أسطورة.. واحدة من مظاهر الترف المحظورة، الغامضة، التي جاءت من بعيد، من روما المدهشة التي كنا نحلم بها، تماما كما كانت أفلام فرد أستير و جين هارلو تأتي إلينا من أمريكا الغائمة و النائية، تلك الجزيرة الخرافية –أطلنتس- التي لا يمكن الوصول إليها (زعموا أن أطلنتس غارت في أعماق المحيط الأطلسي).
للحصول على عدد من مجلة مارك أوريليو، لقراءتها، لـذة تضاهي اللذة التي تمنحها الأشياء المحظورة مثل: التدخين سرا أو محاولة دخول الكازينو بدون بطاقة عبر الالتصاق بمعطف صديق أكبر سنا.
النسوة الصغيرات في تصميم باربرا، نصوص موسكا و ميتز و دي توريس، هذه أسماء أسطورية. و تلك المجلة نصف الشهرية الأكثر رواجا، لم تكن تصل إلينا بسهولة. للحصول عليها، كان علينا أن نذهب إلى المحطة حال وصولها. أيضا كان علينا أن نقهر المعارضة المتواصلة التي يقودها كبير الكهنة، و الذي صاح ذات مرّة من منبر الكنيسة قائلا: "أنظروا ما يمكن فعله بهذه المجلة القذرة بدلاً من قراءتها".. ثم حلـّت لحظة من التوتـّر. ما الذي سيفعله بالمجلة؟ إزاء خيبة أمل كل الموجودين، قام الكاهن بتمزيق صفحات المجلة إلى قطع رقيقة طويلة ثم راح يكوّرها مشكّلا كرات صغيرة.
ذات يوم في ريكيوني، استطعت أن أميّز دي توريس على الشاطئ، قدماه في المياه، و سرواله الأحمر القصير مشدود إلى بطنه، و الجريدة على رأسه يحتمي بها من الشمس. كان هو.. لم يكن لدي أي شك في ذلك. كنت قد شاهدت رسومه الكاريكاتورية مرارا في مارك أوريليو. لكن لم تكن لدي الجرأة لأن أنبس بكلمة واحدة، ذلك لأنه كان راقدا هناك بعينين مغمضتين مستمتعا بالنسيم. لذا رحت أحوم حوله طوال النهار. و مع حلول المساء، لاحظ وجودي هناك فطلب مني أن أجلب له علبة كبريت. بعد يومين عرضت عليه ما أنجزته من تخطيطات و رسوم كاريكاتورية و قصص، فطلب مني أن أزوره في روما في مكتب مجلة مارك أوريليو.
بعد عام، عندما بحثت عنه هناك، أخبروني بأن دي توريس لا يأتي إلى المكتب إلا نادرا جدا و أن عليّ أن أجده في مكاتب تحرير جريدة بيكولو، و هي الجريدة اليومية التي كان يديرها باروني.
هناك وجدت دي توريس في غرفة صغيرة تحتوي على طاولة، كرسي، و آلة كاتبة. كان وحده، يستمتع بأشعة الشمس القادمة عبر النوافذ، بعينين مغمضتين، و يبتسم لنفسه في اطمئنان. أما أنا، و لكي أنبهه لوجودي، فقد كنت أصدر صوتا قصيرا حادا، أسعل، أمسح الأرض بقدميّ.. و في النهاية، قررت أن أغادر على أن أعود ثانية. و عندما عدت، وجدت الغرفة مكتظة بالناس، و من بين كل الأشخاص المشهورين هناك لم أعرف سوى فيتاليانو برانكاتي، الروائي الصقلي الساخر، و الذي كان علينا في المدرسة أن نحفظ عن ظهر قلب وصفه للزيارة التي قام بها إلى الزعيم موسوليني، و له صورة فوتوغرافية تظهره واقفا إلى جانب الزعيم.

* هل أشرف دي توريس على مقالتك الأولى؟
-  نعم.. بعد عدة أيام نفخ في انزعاج، ثم وضعني أمام امتحان قائلا: "أكتب قطعة أدبية و لنر ما تستطيع فعله".. و لأن السماء وقتذاك كانت تمطر، فقد ارتجل بنبرة ملهبة: "حتى إنني سوف أختار لك العنوان.. أهلا بهطول المطر. صفحة واحدة و أربعة أسطر، لا أكثر و لا أقل".. ثم خرج راضيا و تركني وحدي أمام آلة كاتبة مخيفة. كنت في غاية التوتر. ها أنا في مكتب الجريدة، أكتب قطعة أدبية: في صفحة واحدة و أربعة أسطر، و في أربعين دقيقة.

* هل كانت القطعة جيدة؟ هل نُشرت؟
-  نُشرت بعد عدة شهور بمناسبة هطول ثلج خفيف. و بالطبع، قاموا بتغيير العنوان و تعديل معظم أجزاء المقالة. لم أمكث طويلا مع جريدة بيكولو. جورج سيمنون كان الكاتب الذي احتذيت به، و كنت أنظر إلى صفحات الفضائح باعتبارها فرصتي لكتابة مقالات مثيرة. لذا أجريت مقابلات مع البوابين، و حاولت أن أتعقب سيارات الشرطة أثناء مداهماتهم لأماكن تواجد العاهرات. كل ما كنت أحتاجه مجرد حادثة صغيرة واحدة، و من يدري، محاولة انتحار بحامض المورياتيك أو أن يرمي شخص نفسه من أعلى الجسر. و عندها أكتب أربع أو خمس صفحات ملفتة أتحدث فيها عن حياة و موت الضحية، عائلته، أصدقائه، معارفه. ذات مرّة، سمعت عن محاولة انتحار (بحامض المورياتيك.. كالعادة) فذهبت إلى الموقع حيث عثرت على الصديقة السابقة للذي حاول الانتحار. لم تكن المرأة جميلة كما تمنيت، بل على العكس، كانت قبيحة و عصبية المزاج، و والدها العنيف إلتقط جزءا من جذع شجرة و همّ بضربي على رأسي لو لم أهرب منه.
كتبت عن الحادث، لكن لا أعرف أي محرر ذاك الذي اختزل الموضوع من أربع صفحات إلى ستة أسطر، مضيفا عنواناً رئيسياً يتناقض مع كل شيء: "هو شرب حامض المورياتيك ظناً منه أنه ماء" أو "ترنّح الرجل فوق حاجز الجسر فوقع في المياه".. عندئذ شعرت بالخيانة، بالاهانة، و بشيء من الاضطهاد.
لهذا تركت الجريدة و ذهبت إلى مارك أوريليو. و في الحال صرت سكرتيراً للتحرير. مدير التحرير، فيتو دي بيليس، كان معجبا بي و اعتاد أن يدعوني إلى العشاء مرتين في الأسبوع بينما ننتظر الذهاب إلى المطبعة. بعاطفة فظة كان يعلمني آداب المائدة: المرفقان على الجانبين، لا تفتح فمك إلا حين يبعد الطعام عن شفتيك مسافة ملـّيمتر واحد، امضغ و فمك مطبق، لا تنظر أبدا إلى طبقك (بصراحة هذا القانون الأخير بدا لي مبهماً بعض الشيء). و في غضون ذلك، كان يتحدث عن الأشخاص الرائعين: المصمم جالانتارا، الممثل الكبير بتروليني. بعد ذلك نذهب معاً بسيارته إلى المطبعة. كنت أرتدي  قفازين من الشّمواة أثناء معالجة البروفات الطباعية، أمام طاولة صغيرة خاصة بي يضيئها مصباح كهربائي. الطباعة كانت تتم في دور تحتاني كبير المساحة، و المكان يضج بضوضاء آلات الطباعة، حيث أمكث حتى الفجر.. و كنت سعيدا.

* هل تغيّرت نظرتك الثقافية خلال تلك الفترة.. في بداية الأربعينيات؟
-  يوماً ما جاء زميل من ميلانو، يدعى مارشيلو مارشيسي، حاملا كتابا.. "المسخ" لفرانز كافكا: "ذات صباح استيقظ جريجور سامسا بعد حلم مزعج ليجد نفسه و قد تحوّل في سريره إلى حشرة ضخمة".
اللاوعي، الذي استخدمه دوستويفسكي لسبر و تحليل المشاعر، أصبح – في هذه الرواية- مادة للحبكة ذاتها، بالطريقة التي استخدمتها الحكايات الخرافية و الأساطير، مع فارق أن الخرافة أو الأسطورة تعاملت مع اللاوعي الجماعي، غير المميّز، و الميتافيزيقي. هنا نجد اللاوعي الفردي، نطاق الظل، القبو السرّي الذي يتوضّح فجأة بفعل ضوء فاتر، موحش، و تراجيدي.
كافكا، المماثل لأولئك الشعراء-الأنبياء العظام، حرّكني بعمق. كنت مأخوذا بالطريقة التي بها يجابه لغز الأشياء، خاصيتها المجهولة، الإحساس بالتواجد في متاهة، و الحياة اليومية تصبح سحرية.
في الروايات الأمريكية وجدت استشرافاً مختلفاً تماما: شتاينبك، فولكنر، سارويان. أخيرا تجسيد الحياة كما هي: حسّية، نابضة، محفوفة بالمجازفات. لا استعراضات أو بزّات نظامية أو طقوسا جماعية أو بلاغة حربية ظافرة. عوضاً عن ذلك، نجد الإحساس الحقيقي بالناس، بصراعاتهم و نضالهم اليومي، بغرائزهم. إحساس، متعذر تعريفه أو تحديده، بالحرية، بشوارع لا تنتهي تمتد عبر أرض هائلة، بأرياف مورقة بلا آفاق، إنما بلمسة شيء مقدس و بطولي.. كما في أفلام جون فورد.
الأدب الأمريكي و الأفلام الأمريكية كانت تمثـّل وحدة فريدة. حياة حقيقية في تباين بهي مع الحياة الكئيبة لكهنة مكسوّين بالسواد، و يتقافزون عبر دوائر النار. الفردي ينتصر على الجماعي.
أكثر من أي شيء آخر، اختفاء الأفلام الأمريكية و الإلغاء المفاجئ لأي رسالة من تلك الثقافة أعطانا الوعي الحقيقي بالحرب.

* نحن الآن في الفترة من 1941 إلى 1943.. و أنت في العشرين..هل كان لديك بصيص من الوعي السياسي؟
-  طالما أن مجلة مارك أوريليو لم تتعرّض للقمع أو الحظر، و لم تُتهم بالتحريض على الثورة، فإن إجابتي لابد و أن تعكس الجهل الفج لطالب ريفي غرّ تربّى على يد الكنيسة و النظام الفاشي. الأفكار الوحيدة التي كانت لديّ بشأن الحرية و الثورة برزت عندما تم منع مقالة صغيرة لي من النشر، و هي عبارة عن رسائل من فتاة إلى خطيبها الجندي في الخطوط الأمامية. بعد المقالة الثالثة تدخّل الوزير بافوليني و التقى بي و مدير التحرير دي بيليس حيث أخبرنا غاضباً بأن الفتاة عاطفية بشكل مفرط و خطابها سيؤدي إلى إضعاف الروح المعنوية في جبهة القتال، ثم قال آمراً: لا مزيد من هذه الكتابات.
هكذا اصطدمت، للمرّة الأولى، بغباء و سخف الرقابة. لكن بالنسبة لي، ذلك كان أمرا شخصيا غير متصل بوضع عام أو وطني.
أثناء تحرير المجلة، كل مساء، كان عدد من المحررين يمكثون حتى وقت متأخر لمناقشة الأمور السياسية. في هذه اللقاءات تعرّفت على أشخاص مثل بانونزيو، بنديتي، فلايانو، لاندولفي و غيرهم من كتـّاب المستقبل. كانوا يتحدثون طويلا بينما أنا، الماكث هنا أكتب التعليقات، أصغي فحسب. و يجب أن أعترف، دون خجل، بأن ما كانوا يتحدثون عنه لم يثر أي اهتمام لدي و لم يعن لي شيئا. لم أستطع أن أفهم ما الذي ينبغي علينا فعله. حتى لو كنت أرى ضرورة إلى التآمر و الثورة، فكيف بإمكاننا أن ننظم ذلك؟ وجوه المجتمعين كانت ودودة، لطيفة، هزلية، يومية، و لا يمكنها أن تنقل الصورة التقليدية لأفراد متآمرين.. أو ربما هم كذلك، من يدري؟ فلايانو لم يتحدث إليّ قط عن تلك الاجتماعات أثناء اشتراكنا معاً في كتابة عدد من الأفلام.

* أثناء الحرب، هل شعرت بالخوف؟
-  لا. ليس لأنني كنت شجاعا، لكن بالأحرى لأنني لم أكن أعرف الحرب في مظهرها الوحشي، في رعبها، في ما تمارسه من قتل جنوني. لكي أعلل فتور هذه الإجابة على نحو أفضل، دعني أشرح وضع و حالة جيلي.
منذ أن كنا في روضة الأطفال، الحرب بالنسبة لنا كانت ذات بُعد ميثولوجي، كانت تبدو الطريقة الوحيدة للحياة. لسنوات طويلة تعلمنا من الكنيسة و من الفاشية أسطورة الرومان، الصلب، الموضع الذي صُلب فيه المسيح، لا جدوى الحياة، جلال البطولة، التضحية من أجل الوطن، الجنود المجهولين المبتورة أطرافهم، "ليس ضروريا أن تعيش، عليك أن تحارب فحسب" أو شيء من هذا القبيل.
كان الوضع هذيانا محيّرا و مستمرا، إنكارا للحياة و مظاهرها اليومية الرقيقة و البسيطة. "عاشت الحرب" و "ذلك الذي يموت في سبيل الوطن، عاش حياته بشكل جيد".
كيف يمكن للمرء أن يلمح شيئا مختلفا من خلال ذلك الضباب المشؤوم؟ الحرب كانت تبدو أشبه بمهرجان، عيد بُشّر به منذ عهد بعيد و الذي حان أخيرا. من جهة أخرى، فعلت كل ما بوسعي لأن أتجنب الدعوة. و قد نجحت في ذلك عن طريق رشوة الأطباء و التظاهر بإصابتي بأمراض غامضة.
أمضيت ثلاثة أيام في مصحة مرتديا لباساً داخلياً و بمنشفة حول رأسي أشبه بأمير هندي (مهراجا). لكن ذات يوم حلّ طبيب ألماني محل الإيطالي، و على نحو محتوم، ألغى سلسلة الإجازات الممنوحة لي  لمدة ثلاث سنوات كفترة نقاهة. هذا الطبيب الألماني، الذي تفشي عيناه عن مدمن على الكحول، قدّم لي رزمة من الأوراق المخيفة و طلب مني الالتحاق فوراً بالفوج المتواجد في اليونان.
في تلك اللحظة، أثناء صياحه، انفتحت أبواب الجحيم: قصف الأمريكان مدينة بولونيا، و حتى المستشفى الذي كنت متواجدا فيه تعرّض للقصف، فبدأت أجري كالحصان بفردة حذاء واحدة، و غبار الجص يغطيني. كنت أجري عبر أروقة المستشفى المكتظة بأناس يصرخون و يبكون و يتعثرون فيما تعوي صفارات سيارات الإسعاف و الأرض ترتعد و تهتز.
منذ ذلك اليوم فصاعدا لم أعد أسمع عن ملفي العسكري. و ربما من الأفضل ألا تدوّن هذا، فمن يدري، قد يخطر ببال أحد الجنرالات الآن أن يفرض عليّ التجنيد الإجباري و يضمني إلى المشاة.








صيانة التوازن

* في العام 1943 تزوجت الممثلة جولييتا ماسينا، و في العام التالي كتبت سيناريو "روما مدينة مفتوحة".. كيف انتقلت إلى مجال كتابة السيناريو؟
-  السيناريو هو الذي جاء إليّ ليغويني. في تلك الفترة ظننت أن السينما الإيطالية فد انتهت. لقد تحررت إيطاليا و كل شيء صار تحت سيطرة الأمريكان: الصحف، الإذاعة، المسارح. و على الشاشة لم تظهر سوى أفلامهم، و هذا كان مصدر سعادة للجمهور الذي لم ينس أبدا نجوم هذه السينما الحقيقية، السينما التي جلبت لهم التسلية و الأحلام و المغامرات و الهروب. أما نحن، فمن كان لدينا من النجوم؟ بيسوزي، فياريسيو، ماكاريو، جريتا جوندا (التي كنت أحبها كثيرا، كما أحببت ليدا جلوري كثيرا).. كيف كان بإمكان نجوم السينما الإيطالية آنذاك أن ينافسوا جاري كوبر، كلارك جيبل، الإخوة ماركس، شارلي شابلن، و كل النجمات الحسناوات مع مخرجيهم و كتـّاب سيناريو أفلامهم؟ كنت واثقاً من أن السينما الإيطالية قد انتهت و لن نسمع عنها ثانية.
لقد انتهت اللحظات السحرية من الأجر المدفوع مقدما بعد توقيع عقد لكتابة سيناريو فيلم. آنذاك كان من الصعب أن تحافظ على هدوئك و تتظاهر باللامبالاة بينما المنتج يكتب شيكا باسمك. كاتب السيناريو مانيوني، الذي شاركته الكتابة، لم يكن يستطيع التحكم في مشاعره في أوقات كهذه. كانت عيناه تتألقان و هو يضع الشيك أفقيا بين يديه خشية أن يفقد الشيك قيمته إذا تجعّد.
ظننت أن تلك الأوقات سوف لن تعود أبدا. افتتحت محل "الوجه المضحك" مع عدد من الأصدقاء القدامى الذين عملت معهم في مجلة مارك أوريليو. المحل خاص برسم و بيع البورتريهات و الرسوم الكاريكاتورية. كنت المدير الفني للمحل الذي يموله و يشرف على إدارته صديقي فورجيس دافانزاتي، و هو شاب سمين يشبه فاروق ملك مصر. وجهه أبيض مثل لوز مكسو بالسكـّر، بشارب نامٍ صغير و أنيق. كان الجنود الأمريكان الذين يرتادون المحل يحبونه، ربما لأنه في نظرهم يبدو أشبه بالممثل الذي يظهر في شخصية الشرير و هو يسيء معاملة السكان الأصليين و يجعلهم يفركون ظهره بينما هو جالس في حوض استحمام وسط الغابة.
عليّ أن أعترف بأنني لم أكسب من قبل قدر ما ربحته من عملي في المحل. كان للمكان جو أفلام الغرب الأمريكي، شيء بين الصالون و غرفة الانتظار في ماخور. قمنا بتوظيف ثلاث بائعات جميلات يتقن التحدث بثلاث لغات. وغالبا ما كنا نجعل الفتى العامل في المحل يركض عابرا الشارع و يقوم بإيماءات ذعر أمام الشرطة العسكرية المتمركزة مباشرة قبالة محلنا. عندئذ كانوا يأتون إلينا تسبقهم صفارة الإنذار و يقتحمون المحل.. أربعة أو خمسة من العمالقة المتوحشين، يدخلون برشاقة و سلاسة، و بدون محاولة معرفة من هو المخطيء و من هو البريء، بدون الاستفسار عما يجري، يبدأون في ضرب كل من يصادفونه بالهراوة. أنا و أصدقائي كنا نتدبّر أمرنا جيدا، إذ نختبئ تحت الطاولات. لكن دافانزاي، المشهور بثباته و جموده، غالبا ما ينال حصته من الضرب الشديد و الرهيب.. ربما لأنه يشبه شخصية السمين الشرير في أفلامهم و الذي يجلد الحمالين السود.
الجنود الأمريكان كانوا عنيفين، كرماء، و ثملين على الدوام تقريبا، لكن يمتلكون حس دعابة تجعلنا نشعر بالارتياح. عندما يشاهدون أنفسهم في أوضاع كاريكاتورية مرسومة في محلنا، كانوا يستغرقون في ضحك متواصل لا ينقطع. و قبل أن يغادروا المحل، يتركون على الطاولة، إلى جانب المدفوعات بالليرة لقاء أسعارنا المضاعفة، شيئاً من لحم البقر المملّح، الفاصوليا و الخضروات، علب بيرة، و تلك العلب الملوّنة على نحو زاه من السجائر الأمريكية، الطيّعة و ناعمة الملمس مثل ذراع امرأة. لو أُتيح لنا أن نتلمّس و نتحسّس علب السجائر تلك، قبل الحرب، لأدرك الجميع بأننا سوف لن نربح الحرب أبدا.

* كان ذلك في غمرة الاضطراب و الاهتياج، عندما جاء روسيلليني ذات يوم باحثاً عنك..
-  كان واهناً جداً، بذقن بارز و قبعة عريضة ملساء. كان هادئاً، رابط الجأش، مطمئناً و ذا نزوع تأملي. ربما كان يظن بأن من الأفضل له أن يصبح شريكاً لي في المحل بدلاً من العرض الذي جاء يقترحه عليّ: أن أكتب له سيناريو فيلم مع سرجيو أميدي.. عمل تراجيدي-كوميدي عن حياة دون موروسيني، المشروع الجنيني الذي سوف ينمو ليصير "روما مدينة مفتوحة".. لكن سبق لي أن تحدثت عن هذه الأشياء في مناسبات كثيرة.

* هذا يكشف عن مظهر مثير للاهتمام من شخصيتك: الخوف من تكرار نفسك. أنت تفترض أن كل شخص يعرف كل شيء عنك.. أو ربما أنك كسول. على الأقل، أخبرنا كيف عملت مع توليو بنيللي..
-  كان ذلك أشبه بالذهاب إلى المكتب من الصباح إلى الليل. في الصباح كنت أذهب إلى منزله و نكتب سيناريوهات الأفلام الأكثر أهمية. عصراً كان يأتي إلى منزلي. و في المساء كان كل منا يمكث في منزله و نكتب لمخرجين أقل أهمية: ماتارازو، ريجيلي، فرانسيوليني. في الواقع، بعض هؤلاء المخرجين لم يكونوا سيئين: جينارو ريجيلي كان متقد الذهن، ساحرا في رواية القصص. بعين توسّعها نظارة أحادية الزجاجة (مونوكل) و صوت جميل (ينتسب إلى نابولي) كان يتحدث عن ماتيلدي سيراو و عن الشاعر سلفاتوري دي جياكومو، جاعلا نابولي الخرافية تعيش ثانية.. مثل بغداد الأسطورة أو مثل فيينا تحت حكم فرانز جوزيف. كنا، أنا و بنيللي، نصغي إليه مفتونين و على ركبة كل منا تستقر آلة كاتبة خرساء. بعد ذلك كان يكافئنا بأن يعد لنا بنفسه السباجيتي مع صلصة فاخرة في مطبخ غرفته بالفندق. ذات يوم باغتنا المنتج كولامونيشي بدخوله و نحن  نأكل، فبدأ يعوي كالحيوان قائلا بأنه يدفع فاتورة الفندق منذ خمسة شهور دون أن يقرأ سطرا واحدا..بعدها أصيب بمرض ما.
شيء رائع أن تكون كاتب سيناريو. لم أكن أتحمـّل أي مسؤولية فكل ما أكتبه يخضع لإعادة الكتابة من قِبل آخرين تتعرّض كتابتهم بدورها للتغيير. و إذا احتوى الفيلم على شيء جيد، كنت أنسبه إلى نفسي.
كنا ثمانية أشخاص نشتغل على سيناريو Document Z3 ، نلتقي في بيت المنتج ألفريدو جواريني، و نقضي كل الوقت في شرب الويسكي و تناول الآيسكريم و التدخين بشراهة. أحيانا تظهر آيزا ميرندا، سيدة البيت، وسط ضباب من دخان السجائر جالبة معها الكعك. أما جواريني فقد كان يراقبنا بحنان و مودّة، بعينين طافحتين بالعاطفة.. كان يدنو من أريكة ينام عليها أحدنا فيلاطف رأسه برقة و يطلب منا أن نخفف قليلا من الضجيج.

* كيف تحولت من كاتب سيناريو إلى مخرج؟
-  بعد نجاح "روما مدينة مفتوحة" في أمريكا و في مختلف أنحاء العالم، طلب روسيلليني منا –أنا و أميدي- أن نكتب سيناريو فيلمه الجديد Paisan . أثناء مراقبتي له و هو يعمل، اكتشفت لأول مرّة، بوضوح و على نحو مفاجئ،أن بإمكان المرء أن يحقق فيلما بنفس الحميمية الشخصية و المباشرة التي بها يكتب الكاتب أو يرسم الرسام.
تلك الآلة على ظهره، تلك الجلبة من الأصوات و النداءات و الحركات و الرافعات و أجهزة العرض و المؤثرات الخاصة و الإكسسوارات و الأبواق، التي كنت أراها في الأستوديو أثناء استدعائي لكتابة مشهد أو إعادة كتابة حوار، كانت تبدو لي مهددة، مربكة، مؤذية جسمانياً.
روسيلليني قلـّل من أهمية كل هذا، ألغاها، أبعدها إلى ركن ضاج لكن مفيد في المنطقة المحايدة حيث يقوم فنان السينما بتركيب صوره بالطريقة التي يرسم المصمم تخطيطاته على الورق. لقد حوّل تلك العلاقة المتبادلة المعقّدة، الأشبه إلى حدٍ ما بجيش في المناورات، إلى اتصال مباشر مع التعبير الإبداعي.. هذا الشيء الذي كان مخفيا عني سابقا كما لو تحت حجاب.
بما أن تصوير فيلم Paisan تم خارج الأستوديو، فقد جنّبنا التشوّش الذي لا يمكن وصفه و الذي يسببه الأستوديو. لكن الفوضى كانت أكبر في الشوارع الحقيقية، في المدن، و الواقع الذي كنا نتحرك فيه. كان أمراً رائعا أن نراقب روسيلليني و هو يقف ثابتا في الطابق الأول، زاعقاً عبر البوق، موجهاً الممثلين بينما السيارات تزأر من خلفنا و أهالي نابولي يطلون من النوافذ صارخين، مساومين، مولولين بين بعضهم البعض
إذا كان الفيلم يتحقق هكذا، إذا كان بالإمكان تنفيذه في الشارع بتلك الطريقة، و إذا كان بالإمكان ممارسته كحدث مستمر بين الحياة و تصوير الحياة، فإن الإخراج يعبّر عن حقيقتي أكثر من الكتابة أو تصميم المناظر. في صنع الفيلم سوف أواجه نفس الصراعات و التوترات،التجربة و الخطأ، التي أواجهها أثناء نقل الأفكار من ذهني إلى السيناريو.
روسيلليني يعمل على نحو غريزي، بدون أفكار مسبقة، متقيداً قليلا بالقوانين النظرية أو التقاليد الصارمة و الفارغة. لقد كان يتـّبع أسلوبه الخاص، دقة تعبيره الخاص. أنظر فحسب إلى الخاتمة المذهلة لفيلم Paisan حيث الجنود الألمان في مستنقعات نهر البو يتخلصون من رجال المقاومة برميهم في المياه. مارتيللي، عامل الإضاءة، كان يشد شعره بانفعال و هو يصيح: "لا يمكن تنفيذ هذا، لا توجد لدينا إضاءة كافية".
روسيلليني، الذي كان مضطرا للعودة إلى روما لأسباب لا يعلمها أحد –ربما بسبب شهادة إيداع مستحقة الدفع أو كان لديه موعد مع خادمة عجوز- تولـّدت لديه فكرة رائعة. بكاميرتين فقط و بدون تفاصيل تصويرية، صوّر المشهد من مسافة بعيدة، و اللقطات المتتابعة اكتسبت قوة لا تقاوَم. إنك لا ترى رجال المقاومة، فقط تسمع صوت سقوطهم في المياه الواحد بعد الآخر.
هل عثر صدفةً على تلك الخاتمة لأنه كان مضطرا لإنهاء العمل و العودة سريعا إلى روما، أم العكس؟ هل خلق الشرط أو الحالة التي لا مفرّ منها و لا غنى عنها، حالة الاحتكاك التي فيها تشتعل الشرارة و يتبدّد الضباب الذي كان يحتجز الفكرة؟ ألم يكن تعبيره الدقيق عن تلك الفكرة هو التأويل الأكثر وضوحا، الأكثر قوة، و ربما بيانه الحقيقي الوحيد بين الاحتمالات التي لا تحصى؟
قد يقول المرء –و بعض النقاد لم يفوتهم ملاحظة- أن روبرتو روسيلليني كان يميل إلى التطرف، يطلق تلك المؤثرات الغامضة على نحو آلي جدا. مع ذلك أظن أن من روسيلليني تعلمت أخيرا القدرة على صيانة التوازن و تحويل التعارضات و الأوضاع المعاكسة إلى أحداث متحركة، إلى مشاعر، إلى وجهة نظر.

* لكن الفيلم لم يُفهم جيداً حين عُرض للمرّة الأولى..
-  تعرّض الفيلم لنقد سلبي، ساخط، و أحيانا بغيض. في إحدى الجرائد قرأت: "العقل الغائم للمخرج لم يشهد الصفاء و لو للحظةٍ في أيٍ من الأجزاء الستة الطويلة". مع ذلك، كان فيلما مهيبا، جليلا، جميلا، و محركا للمشاعر.
شاهدته مرّة أخرى منذ وقتٍ و استعدت المشاعر نفسها التي اختبرتها قبل سنوات طويلة في نابولي، عندما، في صمت و عتمة غرفة صغيرة، وجدت روسيلليني يعمل أمام جهاز المونتاج. كان شاحبا، متشابك الشعر، يحدّق بثبات في الشاشة الصغيرة حيث كان يقوم بمونتاج تمهيدي لأحد أجزاء الفيلم. الصور صامتة و نحن نسمع فقط خشخشة البكرات. مكثت هناك أراقب، مسحورا، و ما رأيته بدا لي يمتلك ذلك الابتهاج، ذلك اللغز و الجمال و البساطة التي بمقدور السينما أن توحّدها كلها معاً في مناسبات نادرة.

* تتحدث بحماسة مثيرة للمشاعر عن فيلم  Paisan  و عن روسيلليني.. لابد أن هذا كان حاسماً في تطورك..
-  تصوير الفيلم في أماكن مختلفة أتاح لي فرصة اكتشاف إيطاليا. قبل ذلك لم أشاهد سوى مناطق قليلة في بلادي: فلورنسه، روما، و بعض الرحلات الوجيزة في الجنوب عندما كنت أتجول عارضا الأفلام. مدن صغيرة مغلقة في ليل القرون الوسطى، أشبه بتلك التي عرفتها في طفولتي قرب ريميني. فقط اللهجة تغيرت. الآن، مع هذا الاكتشاف، المثير للمشاعر، لبلادي أدركت أن السينما توفـّر هذا المظهر المزدوج و الإعجازي: إنك تروي قصة و في الوقت ذاته تعيش قصة أخرى، مغامرة مع أناس رائعين و غير عاديين كما أولئك الذين يظهرون في فيلمك الذي تحققه.. أحياناً يكونون أكثر فتنة و جاذبية، و جديرين بتصويرهم في فيلم آخر.. إنه التناغم بين الابتكار و الحياة، الملاحظة و الإبداع، المتفرج و الممثل، محرّك الدمى و الدمية. Paisan كان مغامرة أساسية في حياتي.
من الجميل أن تكمل جزءا ما، توضّبه، تنطلق به داخل الشاحنات، باحثاً عن مواقع جديدة. ذات يوم تجولنا من الصباح إلى الليل على طول دلتا نهر البو الموحل بحثاً عن منزل صيفي يتذكر روسيلليني أنه رآه عندما كان صغيرا، قبل ثلاثين أو خمس و ثلاثين سنة. كان دليلنا رجل من المنطقة يضع رقعة سوداء على عين واحدة، و السبب كما أخبرنا أنه أراد ذات ليلة أن يسرق سمك الإنكليس من ممتلكات سيدة نبيلة (كونتيسة) هي التي أطلقت عليه من النافذة.
هذا الدليل الأعور، الذي يعرج قليلا أيضاً، جرجرنا وراءه عبر الوحل و المياه طوال اليوم دون أن نعثر على المنزل الصيفي. عند الشفق، خرّ الدليل على ركبتيه أما روسيلليني متضرعا إليه أن يطلق النار على عينه السليمة، لكن لم نكن نحمل مسدسات. بدأ روسيلليني يضحك، ثم صار دليلا لنا، و بعناد جعلنا نستمر، ساحباً المجموعة كلها خلفه عبر ريف بدا كأنه طالع من أحد أفلام كوروساوا. الشاحنات كانت، بين الحين و الآخر، تغو في الوحل بينما الطيور السوداء الكبيرة تحلـّق في مستوى منخفض أكثر فأكثر. الأمور بدأت تزداد توتراً و الحمالون قرروا العودة، عندئذ قفز روسيلليني على سيارة الجيب و ألقى خطبة واعداً الجميع بكأس من الرّم (شراب مسكر).
هبط الليل و لم نعد نعرف أين نحن و لا ماذا نفعل في هذا المستنقع. فجأة، و من دغل من القصب، خرج مندفعا طفل صغير في الثالثة من عمره تقريبا، و تحدث بلهجة أهالي فينيسيا، ثم قادنا و على عجل إلى المنزل الصيفي الذي لم يكن يبعد إلا خطوات قليلة منا، إذ كان قريبا جدا من المكان الذي تحركنا منه ذلك الصباح.
تناولنا سمك الإنكليس، ارتدينا ملابس زاهية، طبخنا بنار أغصان مقطوعة.. و هبط الليل.






عند اكتمال الفيلم، أهجره ببغض

* أعرف أنك لا ترتاد صالات السينما كثيرا.. لكن من هم المخرجون، في المشهد العالمي، الذين لفتوا نظرك، أو أي الأفلام أثارت اهتمامك؟
-  مع مرور الوقت تخليت عن عادة الذهاب إلى السينما. لا أستطيع أن أقدم تفسيرا مقنعا لهذا التغير ما عدا أنني، حتى في طفولتي، لم أكن أدمن على ارتياد الصالات. كنت أستمتع بالوقوف طويلا أمام ملصقات الأفلام و الصور الهائلة المعلقة على الجدران وقت الإعلان عن العروض القادمة. ربما كنت أحب تخيّل الطقس الآسر الذي يحدث داخل الصالات أكثر من مشاهدة الأفلام.
صالة السينما في ريميني كان اسمها فولجور، و قد سبق أن حكيت عنها في كل أفلامي تقريبا. كانت هناك صورة فوتوغرافية كبيرة لي معلقة في الردهة، فوق شباك التذاكر مباشرة، و لا أستطيع أن أمنع نفسي من تخيل حال المتفرجين و هم يخرجون من الصالة بعد تفرجهم على فيلم لم يثر إعجابهم و قبل مغادرة دار السينما سوف يوجهون إلى صورتي نظرة مترعة باللوم و خيبة الأمل كما لو إنني المسؤول عن سوء الفيلم.
قبل سنوات طويلة، كان مالك صالة سينما فولجور يقف قرب شباك التذاكر مقتنعا بأنه شبيه الممثل الأمريكي رونالد كولمان، و الحقيقة أنه لم يكن يشبهه كثيرا، ربما قليلا، عندما يقف في وضع جانبي فيما قبعته تحجب إحدى عينيه. لكن يشبهه فعلا عندما يقف ساكنا بلا حراك و يمسك السيجارة بين أصابعه، إلى اليمين قليلا من ذقنه بحيث يرتفع الدخان مباشرة في موازاة وجهه. و هو يعرف ذلك، لذا كان يتخذ تلك الوقفة حابساً أنفاسه، ساكنا بلا حراك، بين المدخل و شباك التذاكر.. بينما خلف النافذة، كانت زوجته تقطع التذاكر فيما طفلها السمين يرضع الحليب من ثديها، و هي مغطية صدرها بشال مزين برسوم زهرية، و من خلف الشال بوسع المرء أن يسمع صوت الرضع.. و من حين إلى آخر يمكن سماع صيحات الطوقان (طائر ضخم المنقار).
كان مالك الصالة يذهب إلى بولونيا لمشاهدة الأفلام التي سوف يعرضها في صالته. و عندما يعود، كان يحب أن يبدو غامضا.. فقد اعتاد أن يقول لنا: "أوه لا، لن أتحدث عن الفيلم" لكن بهزّة رأس معبّرة توحي بأنه شهد في بولونيا أحداثا استثنائية و رائعة. كان يرفض أن يجيب على أسئلتنا عن الفيلم و شخصياته، و كنا ننظر إليه بإعجاب شديد و حسد بالغ، و نسأله: متى سوف تأتي جين هارلو لزيارتنا؟.. فيعلن بثقة تامة: ستكون هنا في الكريسماس..
و نسأله ثانية: و ماذا عن والاس بيري؟.. فيرد:ربما في نهاية يناير، لست متأكدا.
ثم هناك زوجة الصيدلي التي تحضر إلى صالة فولجور ليتحسس جسمها كل من يجلس إلى جوارها. كانت تشاهد الفيلم ثلاث أو أربع مرات بينما تجتمع حولها حلقة كبيرة من الشباب، أما نحن فنخوض المغامرة الكبرى بالاقتراب شيئاً فشيئاً من الحلقة مغيّرين مقاعدنا على مهل و في حذر حتى نصل لننال شيئا من اللذة. و هي لم تكن تلتفت إلى أي واحد منا، بل تدخّن بتلذذ عبر خمار قبعتها، جالسة في هدوء بشفتين نديّتين و عينين نصف مغمضتين، مثبتتين على الشاشة بينما نحن نتنفس بصعوبة و بقلوب على وشك التفجّر، جاعلين من ملامسة فخذها أمراً عظيما.
ثم هناك باغينو الذي كان يقف في جزء معتم من الصالة، خلف الستائر، لكي يتجسس على أي تعبير من الضيق و الانزعاج قد تفصح عنه وجوه الجمهور عند ظهور الزعيم موسوليني على الشاشة في شريط الأنباء. ثم يهرع باغينو خارجا ليكتب تقريره إلى الفاشيين. ذات مرّة، قام أربعة شبان بتقييده و وضعه داخل ستارة بحيث بدا أشبه بالسجق، ثم علـّقوه من السقف من كاحليه فيما هو يصرخ مثل حيوان متوحش، و ظل بهذا الوضع فترة دون أن يجرؤ أحد على الذهاب إليه و تحريره.
إني أود أن أحقق فيلما عن صالة السينما فولجور، أن أروي كل ما حدث هناك. إن جيلاً بأسره تكيّف و صار محميا إلى حد ما، خلال سنوات الفاشية، من قِبل الظلال و الأشباح المتّقدة على الشاشات و التي تروي حكايات ساحرة عن البلاد الأغنى، الأكثر حرية، الأكثر سعادة و ابتهاجا: أمريكا.
الأفلام الأولى التي شاهدتها كانت في صالة فولجور. الفيلم الأول؟ أستطيع أن أتذكره بدقة لأن صوره أثـّرت فيّ بعمق إلى حد أنني حاولت أن أعيد خلقها في كل أفلامي. كان الفيلم بعنوان "ماشيست في الجحيم".. شاهدته و أنا بين ذراعيّ أبي، فيما كان يقف بين تجمّع حاشد من الناس المبللة معاطفهم بفعل المطر الهاطل في الخارج. أذكر المشهد الذي تظهر فيه امرأة ضخمة عارية البطن بسرّة مكشوفة و عينين تومضان. و بحركة مهيبة من ذراعها، تجعل دائرة من النار تنبجس حول ماشيست، الذي كان أيضا شبه عارٍ .
ثم هناك جريتا جاربو: بيضاء و مأساوية، بأهداب تشبه المروحة. و في كل مرّة تغمض عينيها، كانت أمي تتنهد و تهمس بصوت خفيض: "يا له من تمثيل رائع".
كذلك توم ميكس، رن تن تن، و شارلي شابلن الذي جعلنا ننتحب في بعض الأفلام على الرغم من أسنانه القارضة الحادة التي جعلته غير محبوب لدينا، بعكس ذلك الرجل السمين الضخم، ذو اللحية و الشنب، الذي كان يلاحق شابلن و ساقه ملفوفة بقالب من الجص. كنا نحبه. و أذكر أن مدرّس الكيمياء يشبه الممثل السمين إلى حد كبير، و كلما عُرض فيلم جديد لشارلي شابلن، منحنا هذا المدرّس إجازة. في الفصل، كنا بصفاقة نطلب من هذا المدرّس أن يقلـّد الممثل السمين عندما يتلقى ضربة على رأسه أو على الأصابع، و هو لا يتضايق من هذا الطلب بل يستمتع به و يباشر في التقليد محركا حواجبه على نحو سريع و ينفخ الهواء تجاه أصابعه التي ضربها الصبي الجالس إلى جواري و الذي يحاكي شابلن بإتقان. كنا نصفق في استحسان و حماسة، قاذفين الكتب في الهواء، حتى جاء يوم شاهدنا فيه المدرّس و هو يدخل الفصل حليق اللحية و الشنب، حتى حواجبه مخفّفة. و قد اتضح أن المدير، الذي كان قلقاً بشأن مقام و هيبة المدرسة، قد وبّخه و خيّره بين أن يزيل لحيته و شنبه أو يغادر المدرسة بلا عودة.

* أنت تستطرد و تنحرف عن الموضوع الرئيسي دون أن تجيب على سؤالي.. أي الأفلام أثارت إعجابك أكثر من غيرها؟
-  يجب أن أعترف، بخجل، أنني لم أشاهد كلاسيكيات السينما.. مثل أفلام مورنو، دراير، إيزنشتاين.. حتى عندما عشت في روما و صرت ارتاد الصالات أكثر من قبل. العديد من مبدعي الأفلام قد حرّكوا مشاعري و أثاروا عواطفي و منحوني البهجة و المتعة بما صنعوه من عجائب، و جعلوني أصدّق كل ما يقولونه.
كوروساوا الخرافي، بطقوسه و سحره. أفلامه أشبه باحتفال فاتن و مذهل. كان من المفترض أن نشترك معاً، إضافة إلى بيرجمان، في تحقيق فيلم بحيث يقدم كل منا جزءاً. و قد بعث إليّ كوروساوا برسالة جميلة من اليابان حافلة بالاحترام و الكياسة.. لكننا لم نستطع أن نحقق الفيلم.
أما إنجمار بيرجمان فاعتبره الشقيق الأكبر.. أكثر جديّة، أكثر حزنا أو ربما أقل بما أن تعاسته تبدو مجمّدة في مباراة لا يمكن حسمها مع تخيلاته.. و لا أحد يعلم من سيفوز في النهاية. في غضون ذلك، هناك أفلامه التي تسيطر بوضوح على المباراة.
أحب الأخوة ماركس الذين يكتبون أفلامهم. كذلك لوريل و هاردي.. المهرّجان المترعان بالبراءة. و كنت دائما مأخوذاً برؤية بستر كيتون المستقلة و الحيادية للناس و الأشياء و الحياة، و المختلفة تماما عن رؤية شارلي شابلن الوجدانية، الرومانتيكية، المزخرفة بالنقد الاجتماعي.
سينما جون فورد هي السينما في حالتها النقية، الخفيفة، اللاواعية لذاتها. أحب قوته و بساطته الملطّفة، المجردّة من التعليق الاجتماعي العقيم و المبهم. إنه الفنان الذي عشق السينما و عاش من أجلها، و جعل من الفيلم حكاية خرافية متاحة للجميع.. حكاية خرافية عن الحياة ذاتها.
و من الطبيعي هنا أن أشيد بروسيلليني، باقترابه الحر و السلس من الواقع. هو يقظ دائما، واضح، متوهج. أيضا قدرته على وضع نفسه بين أماكن محدّدة بإحكام و أخرى غائمة، بين الحياد الموضوعي و الالتزام العنيد.. كل هذه الأمور تتيح له أن يأسر الواقع في كل مظاهره، أن ينظر إلى الأشياء في الداخل و الخارج في آن، أن يصور عبير الأشياء، و أن يكشف ما هو سحري و محيّر و غير قابل للإمساك و الإدراك في الحياة.
أحب ستانلي كوبريك، أورسون ويلز، جون هيوستون، جوزيف لوزي، فرانسوا تروفو –لا أريد أن أنس أحداً- فيسكونتي، هتشكوك، فرانشسكو روزي، ديفيد لين.. كذلك تعجبني علاقة أنتونيوني الصارمة و العفيفة بالفيلم، مثل ناسك-عالم.
و لكي أكون صريحا تماما، يجب أن أضيف بأن بعض سلسلة أفلام جيمس بوند تبهجني كثيرا. هنا، وراء السطح المصقول و المزخرف، و السلسلة المتألقة من المغامرات، أسمع حفيفاً منذراً لعالم بغيض و مؤلم.. إنه عالمنا الآسر و المروّع. هذه الأفلام غالباً ما تنجح، ضمن شكل تقليدي، في تقديم رسالة عن انحراف و جنون الإنسان المعاصر.
ثم هناك بونويل: شاهدت له فيلما واحدا فقط فهيّج حماستي و جعلني أرغب في مشاهدة كل أفلامه. كان ذلك فيلم "سحر البورجوازية الخفي".. يا له من فيلم فاتن و عظيم.

* لقد تحدثت طويلا و في أحوال كثيرة عن أفلامك، و أنا لا أريد أن أجعلك تكرر أشياء سبق أن قلتها.. في هذه الحالة أريد أن أشير إلى شيء ما.. أنت صرحت مرارا بأنك أبدا لا تشاهد أفلامك مرة أخرى، لكن ألا تحتفظ بصلة ما معها؟ كيف تنظر اليوم إلى أفلامك.. التي تشكـّل "عائلة"؟
-  يبدو أنني دائما أنتهي بإنتاج الفيلم ذاته. الفيلم يتعامل فقط مع تلك الصور مستخدما المواد ذاتها.. ربما من وجهات نظر مختلفة من وقت إلى آخر.
صلتي بأفلامي تحددها كيفية تنامي و تطور الفيلم، و اقترابه من الاكتمال. إنها الصلة نفسها مع كل أفلامي. في الأستوديو أكون محاطاً بجمع غريب، أنظر إلى حضورهم كنوع من التطفل، الانتهاك، التدنيس. إنهم "مفسدون". هكذا فإن نهاية العمل تبدو أشبه بحالة تشتت، تعطّل. و في غضون ذلك يظهر شيء و الذي يبدو مثل البدء من جديد، من البداية: إنه طور المونتاج. عندما أكون في غرفة المونتاج فإن الصلة مع فيلمي تصبح سرية و شخصية، و لا يعود هناك تشوّش أو دخلاء آو زوّار أو أصدقاء، و الذين بطريقة أو بأخرى يؤلفون مزيجا صحيا أثناء التصوير. يتعيّن علي الآن أن أبقى وحيدا مع فيلمي و القيام بتركيبه (مونتاجه).
بعد ذلك تأتي المشاهدة الأولى في غرفة العرض: إنه يظهر على الشاشة مختزلاً بفعل المونتاج، حيث لا يزال يحتفظ بدلالات سارة لي فيما يظهر على الشاشة في شكل مناسب و لائق. لكن عندئذ يكون الفيلم قد أحرز استقلاليته، و صوره تنتسب إليه وحده.. تلك التي التقطها بنفسه، و تلك التي غرستها بنفسي.
هل لا يزال فيلمي؟ هل أستطيع التعرف عليه ثانية؟ إنه الآن يبدو واقعاً في الوسط بين الأخ و المبتز. حبل المشيمة لا يزال يربطنا، و هو ينتظر مني أن أقطعه. في هذه المرحلة الحاسمة أبدأ في التراجع عنه، في تفاديه، في كره النظر إليه مباشرة. المزيج الذي أردت أن أستقطر منه قد تحوّل الآن إلى وعاء آخر، و من الآن فصاعدا يأفل اهتمامي به على نحو سريع.
أكمله؟ بالطبع أكمله.. و بجلبة متزايدة لكي أبتعد عنه أكثر فأكثر، ناكراً صداقتي له و تضامني معه. حين يكتمل الفيلم تماما، أهجره ببغض.
لم أشاهد قط فيلماً لي في قاعة عامة. أشعر أن الاحتشام المتطرف يهاجمني بعنف. ذلك أشبه بشخص لا يريد أن يرى صديقه يفعل أشياء هو لا يرغب في فعلها. و عندما أقول أنني لا أشاهد أفلامي مرّة ثانية و لا أراجعها فإن حتى الأصدقاء يبتسمون غير مصدقين، لكنها الحقيقة. ربما يعود ذلك لإحساسي بأن أفلامي لا تقع هنا أو هناك، إنما هي معي، بداخلي.. هي أنا، و لست بحاجة إلى تأكيدات أو إثباتات موسمية أو فحوصات مستمرة. إن مواجهتها على الشاشة أو في التلفزيون تسبب لي نوعا من الذعر.. كما لو تسير في شارع و ترى فجأة وجهاً ينظر إليك عبر نافذة أو مرآة، فتكتشف في رعبٍ أنه وجهك.

* حسنا، لكنك لم تجب على سؤالي. و بما أنك ترفض بشدة التحدث عن أعمالك فيلما فيلما، فدعني إذن أقترح نوعاً من اللعب.. أنا أطرح عنوان الفيلم و أنت، كما في اختبارات التداعي الحر، تقول ما يخطر ببالك. لنبدأ.. أضواء حفل المنوعات (و هو إخراج مشترك مع ألبرتو لاتوادا)..
-  الفجر الشاحب. انتظار "الفجر الشاحب". أيضا بيبينو دي فيليبو في اصطبل مزرعة كبيرة حيث كنا نحتشد فيما هو يتحدث إلينا عن نابولي في مرحلة طفولته: مسرح سان كارلينو، أنتونيو بتيتو المهرّج الأسطوري، عالم المتشردين حيث الأمجاد و الأسمال البالية و حيث مغامرات بينوكيو و دون كيخوته. قصص خرافية عن ممثلين مبهجين لم نعد نجدهم بيننا، هؤلاء الذين لا نظير لهم. كنا نصغي مفتونين بينما ذلك المهرّج العجيب يسلـّي حتى نفسه بقصصه، ضاحكا بخبث على الأشخاص الكسولين، المتعجرفين، حتى يأتي شخص من قسم الإنتاج مندفعاً و هو يصيح: " الفجر الشاحب.. ها هنا! ليخرج الجميع! إنه الفجر الشاحب".
هكذا أصبح "الفجر الشاحب" جزءا من تصميم المشهد. و كل شخص، حتى الأكثر فجاجةً بيننا، تبنّى ذلك التعبير الأدبي إلى حدٍ ما. يوماً بعد يوم، كان العاملون يهزّون رؤوسهم في قلق مبالغ فيه، و يقولون لنا –أنا و لاتوادا- "أتريان، لم يعد لدينا ما نفعله هذا الصباح. نحتاج ذلك الفجر الشاحب المبارك. الشهر الماضي كان حافلا بالفجر الشاحب".
الفجر الشاحب صار "شيئاً"، مثل سلـّة، مثل سكة حديد، مثل شيء مادي وحقيقي يمكن تلمسّه و تذوقه.
هذه، جوهريا، القصص التي أفضـّل أن أتذكرها عن الأفلام، بل أنها الأشياء الوحيدة التي أتذكرها: عاصفة غير متوقعة، الريف يصير عاصفا فنبحث عن أفضل مأوى نستطيع العثور عليه: تحت شجرة، في شاحنة تابعة للكهربائي، أو نلجأ إلى أحد بيوت المزرعة بطريقة تشبه غزوا عسكريا، و في غطرسة غير واعية نأمر المزارعين أن يعدّوا لنا عجّة البيض.
هذه اللامبالاة، هذا الطيش، أو –على نحو أكثر تعاطفا- هذا اللعب، هو جزء من عزلة و اختلال مهنتنا كسينمائيين. إنها تجعلنا ننظر إلى الناس و الأشياء كما لو أن العالم بأسره مجرد موقع تحت تصرفنا، أو هو قسم هائل للأثاث و الملابس التي نصادرها دون إذن أو تصريح. نحن نشبه الرسام الذي يتعامل مع الأشياء و الوجوه و البيوت و السماء بوصفها أشكالا منذورة لخدمته و التصرف بها كما يشاء.
من أجل السينما، كل شيء يصبح منظرا طبيعيا بلا تخوم، حتى مشاعر الآخرين موضوعة تحت تصرفنا. إحساسنا بامتلاكنا السلطة يجعلنا في حالة من الهذيان، من الثمالة. هذا الإحساس، الذي يوحّد المغامرين و الغزاة و النهّابين و المتشردين، يخلق روابط وثيقة و صداقات حميمة. العمل في الفيلم هو العقدة السحرية التي تربطنا جميعاً معا. لكن حين يخبو ضوء السطح العاكس الأخير و تنتهي الرحلة، تتحول مشاعر الود و الصحبة لينتابها الفتور، و يعود الإحساس بالانفصال و الحياد و اللامبالاة. لا نعود نتعرّف على بعضنا إلا بجهد، و يستمر هذا حتى دنو الفيلم المقبل حين نجتمع من جديد و نتعانق مطلقين الصيحات الحماسية و محررين فيضاً من الذكريات الجميلة.





من يدلـّنا عبر المغامرة الإبداعية

* ما الذي تستطيع أن تخبرنا به عن "الشيخ الأبيض"، الفيلم الأول الذي أخرجته بمفردك؟
-  في السنوات الأخيرة، و بينما أقوم بالتحضير لنتاجات مركّبة و صعبة، مثل: ساتيريكون، روما، كازانوفا..غالباً ما كنت أفكر بنوع من الحنين في فيلمي "الشيخ الأبيض". أود أن أنفذه من جديد، مع تجربة و تجرّد الحاضر، و بقصد التلاعب بالقصة و الشخصيات.
سبق أن قلت مراراً بأن مهنة الإخراج كانت بعيدة عني وما ظننت يوماً بأني سأصبح مخرجاً. حتى بعد انجاز "أضواء حفل المنوعات" و الذي حقق نجاحا بسيطا، كنت على يقين بأنني سأبقى في نطاق كتابة السيناريو لفترة لا أحد يعلم كم ستطول. و كتابة السيناريو كانت تناسبني أكثر لأنها لا تقتضي الإحساس بالمسؤولية الجماعية، و لا تفرض التزاماً حقيقيا، و ليس مفروضا عليها واجبات و تعهدات.
يومي الأول لتصوير "الشيخ الأبيض" كان كارثة حقيقية. لم أستطع أن أنتج كادرا واحدا. ليس هناك أكثر صعوبة أو ربما استحالة من أن تكون لديك كاميرا موضوعة  على طوف في البحر الفسيح و أنت تحاول إبقاءها ثابتة لتؤطر سفينة مليئة بالممثلين. البحر هنا أشبه بجسم هائل يتحرك على نحو متواصل. هذا يستغرق ثانية واحدة فقط، إعادة فحص الكاميرا، كي لا تجد شيئا في الكادر غير الأفق أو الشمس التي تعمي البصر.
ذلك الصباح (أول صباح لي كمخرج) غادرت منزلي فجرا، بعد أن قبـّلت زوجتي جولييتا بحنوّ، و بعد أن تلقيت تمنيات طيبة – بالأحرى شكوكية- من مدبرة المنزل التي ظلت تكرر من المدخل قائلة: "لكنك ستموت من الحر مع هذه الملابس". إذ، رغم أننا كنا في الصيف، إلا أنني كنت ارتدي ما يرتديه عادة المخرجون: قميص، جزمة، كساء للساق من الجلد، نظارة شمسية، و صفـّارة معلقة حول عنقي مثل حكم مباراة في كرة قدم.
روما كانت مهجورة ذلك الفجر. كنت أفتش الشوارع، البيوت، الأشجار.. باحثا عن علامة تبشّر بالخير. رأيت عامل الكنيسة (حافظ غرفة المقدسات) يفتح باب الكنيسة كما لو يفتحه لي. غادرت السيارة، مستسلما لحافز قديم، و دخلت الكنيسة. أردت أن أؤلف ضرباً من الصلاة، أن أنظم ابتهالا يجعلني جديرا بالعون.. لا أحد يعلم أبدا. الغريب أن الكنيسة كانت مضاءة رغم أننا كنا في ساعة الصباح الأولى. في المنتصف، كان هناك تابوت و مئات من الشموع. و قرب التابوت يجثو رجل أصلع و يبكي مغطياً وجهه بمنديله. هرعت خارجا، عائدا إلى سيارتي، محركا يدي في إشارة لدفع الأذى.

* أردت أن أسألك من قبل، و الآن أنت وفرت لي الفرصة من خلال ما ذكرته للتو عن الكنيسة.. أين أنت في علاقتك بالدين؟
-  أود أن أجيبك بإيجاز و بدون الانتقال إلى الحكايات المعتادة التي تصورني كطفل يستحوذ عليه خوف و ذعر في الدهاليز الباردة، في غرف هائلة بداخلها أسرّة نقالة، مضاءة فقط بقنديل أحمر صغير فوق فتحة مظلمة تبدو أشبه ببوابة الجحيم ، و خلفها سلّم نزولا يفضي إلى دهاليز أخرى و صالونات مليئة فقط ببورتريهات ضخمة لأساقفة. و بعيدا في النهاية ثمة باب صغير ينفتح مباشرة على الكنيسة حيث مرّةً في الأسبوع، قبل الفجر، كنا نحن الأطفال نأتي لنجثو في ظلمة تامة تقريبا، و كل منا يتعيّن عليه أن يعترف، بصوت مرتفع، بما اقترفه من آثام و خطايا.
لو باشرت الحديث في هذا الموضوع فسوف لن أنتهي لأني أستمتع كثيرا بتذكر ذلك الجو المهدد، المخيف، الرهيب حقا.
الكاثوليكية دين فاضل. بالنظر إليه و تأمله بتجرد، دون تحيّز، يمكننا القول بأن هذا الدين يغرس فيك الخوف من شيء ما.. دائما يترصّد في كمين، يراقبك، يتجسس عليك. إذا كان صحيحا أن الدين، إلى حدٍ ما، يحرر الإنسان من الخوف، فإن جانباً آخر منه ينجح بفعالية في توليد الخوف. إن أساطير كل حضارة تؤكد الخوف من الآلهة، بالتالي –و من هذا المنظور- لابد أن الله مخيف، و يفرض الخوف لأنه محجوب و مجهول، إذ أن كل ما هو مجهول يسبب لك الخوف.
بما أن اللغز يحيط بالعالم و الحياة، فأعتقد بأنني متدين بالفطرة. حتى لو لم أكن مفتونا، كطفل، بذلك الإحساس الخفي الذي يتخلل الوجود و يجعل كل شيء غامضا و لا سبيل إلى معرفته، فإن المهنة التي أمارسها يمكن أن تقودني على نحو طبيعي إلى الوجدان الديني.
إني أخلق أحلاما، بعينين مفتوحتين أنغمس في تخيّل شيء، ثم أوقـّع عقد العمل.. و ببضع قطع من الأخشاب، و فتاتين جميلتين، و أسطح عاكسة للضوء، أجعل ذلك الخيال يولد و يحيا. بعد ذلك يمكن لأي شخص أن يراه كما رأيته و أنا نائم، أو عندما كان ذهني خالياً. من يدلنا عبر المغامرة الإبداعية؟ كيف يمكن أن تحدث تلك المغامرة؟
فقط الإيمان بشيء، أو بأحد، متوارٍ بداخلنا، يمكن أن يلهم عملية الخلق الغامضة. شخص أو شيء لا نعرف عنه إلا القليل، جزء منا حكيم و حاذق، يعمل معنا. و نحن نساعد ذلك الجزء المجهول بالثقة به، بقبوله، بتركه يعمل لأجلنا. هذا الإحساس بالثقة، كما أظن، يمكن تحديده كإحساس ديني.
من جانب آخر، غطرسة المعرفة الواسعة المكتسبة غالبا من الكتب، الغرور، الهاجس لمعرفة المزيد.. كل هذا مجرد اعتقاد زائف و خادع و الذي غالبا ما يعوق الإيمان، يخنقه، يبدده، و دائما بنتائج أقل إرضاء.

* كيف تتفق أو تنسجم هذه الأفكار مع الكنيسة الكاثوليكية؟
-  هذا السؤال يمكن إحالته إلى أي مسؤول في الكنيسة. كيف بمقدوري الإجابة عن هذا السؤال؟ لقد سبق أن أخبرتك بأنني معجب بالدين الكاثوليكي، و نظراً لأنني مولود في إيطاليا، لم يكن لدي أي خيار غير أن أختار هذا الدين.
أحب طقوس الكنيسة، المشاهد التنويمية التي لا تتغيّر، الديكورات المترفة، الأناشيد الكئيبة، التعاليم بشأن العقيدة، انتخاب البابا الجديد، الآلية الفخمة المتصلة بالموت.
لدي شعور بالامتنان و عرفان بالجميل لكل التحريفات و الالتباسات و المحرمات (التابوات) التي خلقت كتلة هائلة من الديالكتيك كأساس لثورات منشّطة للحياة. و الجهد المبذول لتحرير المرء لنفسه من كل تلك الأشياء بإمكانه أيضا أن يعطي للحياة معنى.
لكن بصرف النظر عن تلك التقييمات الشخصية، فإن الكنيسة توفر نمطاً من التفكير يحمينا من دوامة اللاوعي المفترسة. الفكر الكاثوليكي، كما الحال مع الفكر الإسلامي أو الهندوسي، هو صرح عقلي و الذي، عن طريق تأسيس مجموعة قوانين أو مبادئ للسلوك، يحاول أن يمنحنا بوصلة لترشدنا عبر لغز الوجود: برنامج عمل للعقل الذي يستطيع أن ينقذنا من الرعب الوجودي الناشئ من فقدان المعنى.
ينبغي أيضا أن أضيف بأن الكنيسة الكاثوليكية، ربما بسبب ذكريات غابرة، لها جاذبية باهرة بالنسبة لي لأنها كانت الحافز الأعظم للفنانين.. الراعية الصارمة، السخية، اليقظة لتحف فنية استثنائية. أعرف أن من السخف تخيّل المنتج دي لورنتيس في رداء كاردينال، لكنني أود أن أعتقد بأن منتجي الأفلام، مثل رؤساء تحرير الصحف، قد ورثوا –دون أن يستحقوا ذلك- نوعاً من المنصب الرفيع، بما أن قدر الفنان هو أن يقتات بخبز الدوق الكبير (حاكم المقاطعة) و الأمير و البابا. هناك صنف من الفنانين الذين يرغبون في الاستقرار ضمن التخوم التي رسّخها أولئك الذين في السلطة. بهذه الطريقة بوسع الفنان أن يتحرّر من أي إحساس بالذنب فيما يرسم، على سبيل المثال، صليباً.
إن عقد العمل الذي أوقـعه مع المنتج هو، بالنسبة لي، بديل عن الرداء الكهنوتي الأبيض الذي يرتديه البابا.

* كيف تصلي؟
-  أرى أن الأسئلة، شيئاً فشيئاً، تتخذ صبغة دينية أكثر، و تبدو أشبه بتحقيقات محاكم التفتيش.. هل بدأت محاكمتي؟ على العموم، سأحاول أن أجيب على سؤالك. أظن أن ذلك يحدث لنا جميعا، حتى عدة مرات في اليوم، أن نهمهم بشفاه متيبسة، راجين أن ما يقلقنا قد يصبح في النهاية خيراً لنا. ربما ذلك ليس صلاة. طريقتي في الصلاة هي أن أدرك أوضاعاً معقـّدة على نحو خاص و التي منها لا أستطيع الإفلات. فجأة أكفّ عن إجهاد دماغي، أستسلم، و أتبرّأ منه متظاهراً بأن المسألة الآن تخص شخصا آخر.

* vitelloni .. ما الذي يخطر ببالك عند ذكر فيلمك هذا؟ ما الذي يربطك به؟ أية صورة تربطك به؟
-  بحر شتاء رمادي و سماء غائمة مكفهرة. أخي يضع يده على قبعته ليمنع الريح من حملها بعيدا. لِفاع ليوبولدو و هو يتطاير في وجه مورالدو. صخب الأمواج المتكسّرة، صيحات طيور البحر. في النهاية حتى أنا مكثت معلـقاً على ذلك الموقع الذي أصبح ضرباً من الصورة الرمزية، من الملصق. ثم هناك وجه ماجيروني الذي أدى دور الممثل العجوز، الشاذ جنسياً، الذي يشتهي ليوبولدو المثقف.
ماجيروني، فيبو ماري، جوستافو جيورجي، مويسي: توقيعات مكتوبة بخط منمّق على صور فوتوغرافية ضخمة لممثلي الشخصيات بقسماتهم الجادة و شعورهم الطويلة، المتهدلة، التي تكاد تصل إلى أكتافهم. هذه الوجوه الرومانتيكية الملكية ظهرت فجأة ذات صباح شتوي، مباشرة قبل الكرنفال، على واجهات البيوت، على نوافذ مقهى الكوميرس، في الساحة العامة، في محطة القطار. و من هناك كانت الوجوه تحدّق إلينا دون أن ترانا، مثل آلهة لا يمكن الوصول إليها، و بظل ابتسامة فقط يبشّروننا بأنهم سوف يعودون إلى الحياة إذا ذهبنا لرؤيتهم.. كانوا هبة الله إلى قريتنا المسكينة، المنسيّة، الناعسة.
في صباي، كنت أحسب الممثلين مخلوقات خارقة، كائنات من جنس آخر. و فندق جولدن ليون، الذي أقاموا فيه لعدة ليال، اتّخذ أبعادا ميثولوجية و بدا أشبه بجبل أولمبوس.. موطن الآلهة. و البوّاب كان مثار حسد الجميع لأن بإمكانه أن يراهم عن قرب، و أن يتحدث إليهم، و أن يناولهم مفاتيحهم.
ما زلت حتى الآن أعجز عن تخيـّل الحياة التي يعيشها الممثل خلف المشاهد أو خلف الشاشة الفارغة. أين يذهب هؤلاء الممثلون حين تمحو الستارة الحمراء الكبيرة العجائب و المعجزات، و تضاء الأنوار في الصالة فاضحة بقسوة وجوهنا الاعتيادية؟
الفكرة الغامضة عن حياتهم الوهمية، الزائفة، لا تزال تلازمني اليوم في تعاملي مع الممثلين. و أنا لا أجد مانعا في ذلك، بل يبدو أن ذلك يتلاءم بشكل أفضل مع عملي، و يساعدني في فهمهم على نحو أفضل و على مستوى أكثر سريّة و غموضا.
لم أواجه قط مشاكل مع الممثلين. أحب عيوبهم، أخطاءهم، غرورهم، سماتهم العصابية، نفسياتهم الطفولية أحيانا و الشيزوفرينية أحيانا. و أكون شاكرا جدا لما يفعلونه لأجلي. و ما يذهلني حقا هو أن التخيلات التي لازمتني لعدة شهور تصبح –بفضل الممثلين- حيّة الآن، من لحم و دم، تتحدث، تتحرك، تدخّن، تفعل ما أطلب منها، تلقي الحوارات تماماً كما تخيـّلتها عندما كنت أهيئ لهم الولادة شيئا فشيئا.
الممثلون الهزليون أعتبرهم هبة الله إلى البشرية. أن تمنح الآخرين المتعة، الإشراق، الدعابة، الضحك.. يا لها من مهنة مدهشة! كم وددت لو أنني وُلدت و عندي الموهبة ذاتها، القدر و النصيب ذاته.
ستان لوريل، أوليفر هاردي، بستر كيتون، شابلن.. هؤلاء كانوا الهبة الإلهية. أنا لا أتفق تماما مع المحاولات الرامية إلى عقد مقارنة بين هؤلاء المهرجين المدهشين و جريتا جاربو، جاري كوبر، كلارك جيبل.. في الموهبة و الميول. إن لقاءً مع الأخوة ماركس يجعلني أبدو كالمصعوق بفعل البرق. أذكر في إحدى الحصص بالمدرسة، كنا نتناقش حول الخطّاب الذين اغتصبوا عرش يوليسيس بينما كان يهيم في البحار، و بطريقة ما، لا أعرف كيف، استطعت أن أقحم الأخوة ماركس.. متحمّلا برزانة النظرة الحائرةـ و التي شابها مزيج من الغضب و الإشمئزاز- و التي وجهها نحوي أستاذنا، رافعاً نظارته حتى جبينه.
بل كنت معجباً بكوميديين من مرتبة أقل: الأخوة ريتز، أبوت و كوستيللو، بن توربن. حسبهم أن يكونوا هزليين ليحصلوا على نقاط عالية.. بالنسبة لي على الأقل. في طفولتي كنت أظن أنني أشبه قليلا هارولد لويد. كنت أرتدي نظارة أبي، بعد أن أنزع العدسات، لكي أشبهه أكثر.

* ماذا عن الممثلين الذين كنت تحب العمل معهم؟ هل كان هناك ممثل معين أردت أن تعمل معه لكن لم يتحقق ذلك لسبب ما؟
-  دائما أختار الممثل الذي يتلاءم و ينسجم مع الشخصية، و إذا لم أجده فإنني أفضّل أن ألتقط شخصا يملك الوجه المناسب لتلك الشخصية، و لذلك النموذج، حتى لو اقتضى الأمر أن أبذل جهدا شاقا كي أجعله يصبح الشخصية على نحو طبيعي.
لقد عملت دائما مع الممثلين الذين أردتهم. لكن بأخذ سؤالك كدعوة للتخيّل، فأقول لك بأن الأسماء التي رغبت حقا في العمل معها: ماي ويست، مع تلك المشية المتغطرسة، و ذلك الوجه الطفولي المدوّر و الشره. الأخوة ماركس. الإيطالي روبرتو بنيني الذي هو شخصية مثيرة، ولد صغير و شرير من توسكان، ماكر و قليل الاحترام للآخرين، مهرج ضئيل و رابط الجأش، عاطفي على نحو رومانتيكي، عملي، بإمكانه أن يضطلع بأي دور و يجعله قابلا للتصديق من بلوتُس (كاتب مسرحي هزلي روماني) إلى حكايات هانز كريستيان أندرسون الخرافية. من بين كل الممثلين الهزليين من الجيل الجديد بنيني هو الأكثر أصالة و موهبة، و الأقرب إلى أن يصبح شخصية يتعذر محوها.
فيتوريو دي سيكا، نعم.. هو يخطر ببالي الآن في ما يتصل بفيلمي vitelloni. في البداية فكرت في مسألة ترشيحه للدور الذي مثله ماجيروني في الفيلم. بصراحة، كانت فكرة المنتج الذي نظر إليّ بعينين ضارعتين و قال: "فيلمنا يخلو من أي اسم شهير أو معروف. أنت تتجه نحو كارثة مالية كما حدث مع فيلمك (الشيخ الأبيض).. ممثلك ألبرتو سوردي يجعل الجمهور يهرب من الصالة. ليوبولدو  ترستي الذي تجلبه معك ثانية لا يساوي شيئا. على الأقل إتفق معي في هذا.. خذ دي سيكا لذلك الدور. إقنعه. إذهب إليه و تحدث معه. لا تدمرني، لا تسبب لي الإفلاس".. ثم غطى وجهه بيديه و انحنى فوق الطاولة و هو ينشج.
هكذا، و في ليلة شتوية ذهبت لأتحدث مع دي سيكا الذي كان آنذاك يخرج فيلمه "محطة القطار". موعدي كان بعد منتصف الليل في قطار درجة أولى متوقف على سكة حديدية غير مستعملة و بعيدة عن الممشى. كان علي أن أسير بجهد عبر أحجار رطبة، الطريق كانت نديّة بفعل الضباب، و كنت خائفا من أي ضوء يبزغ في الظلمة خشية أن يكون ضوء قطار قادم. الرجل الضئيل الذي يقودني كان يتحدث دون انقطاع و بنبرة شخص يرشدني إلى قداسة البابا. عندما وصلنا، صعد إلى المقصورة لير إن كان دي سيكا يقظا أم نائما، و في حالة نومه يتعيّن عليّ أن انتظر حتى يستيقظ. لحسن الحظ، دي سيكا كان يقظا هناك في عتمة مقصورة الدرجة الأولى، و قد أومأ إليّ كي أدخل.
لم أكن قد رأيته من قبل عن قرب. إنه يمتلك جاذبية خاصة يقدر أن يحافظ عليها و يتحكم بها، و يتحكم حتى في صوته الأشبه بصوت الفلوت. دي سيكا، مثل توتو المهرّج، استطاع أن يحافظ –حتى في الحياة الواقعية- تلك الخاصية الشاهقة التي لا يمكن بلوغها، و التي تجعل البعض يبدون مرئيين كما لو من خلال الأعماق السحرية للمرآة.
جذاب، ساحر، و لا يمكن بلوغه. هو الأكثر جدارة بأن يكون محبوبا.. إنه يستخدم السحر كحرفة، كفلسفة تقول: كن محبوبا لتنال المغفرة كثيرا. دي سيكا كان جديرا بالحب حتى عندما كانوا يطلقون عليه تسميات و صفات مثل: شاعر الحرب، شاعر الخراب و الشقاء. و حتى عندما يتخذ وضع السكون العميق و نبرة صوت مكتنزة بالمعرفة المريرة.
جالس أمامه في ظلمة المقصورة، في جو غير واقعي، و بصوت خافت و عاطفي شرعت في وصف الشخصية التي من المفترض أن يؤديها. شرحت له: هو ممثل مسرحي عظيم، ممثل كبير كان مشهورا في وقت مضى لكن حياته الآن ترغمه أن يقوم بتسويات و يقدم تنازلات موجعة، مشاركا مع فرقة صغيرة في دور غير رئيسي. ذات ليلة تصل الفرقة إلى بلدة نائية و معزولة، حيث يأتي شاب مفعم بالأحلام  و الطموحات الأدبية، و يطلب من الممثل المشهور أن يصغي إلى قراءته لمسرحية من تأليفه، و الممثل يوافق على ذلك. عندئذ ابتسم دي سيكا في تعاطف، مستحسناً ذلك، ثم همس بصوت خفيض معلقاً على طموح الشباب.
متشجعا من موقفه، واصلت رواية القصة حتى المشهد الذي فيه الممثل العجوز الفاسق يبوح بنواياه للكاتب الشاب الساذج. دي سيكا، الذي ربما غلبه النعاس للحظة، استمر يبتسم بطيبة، لكنه فجأة بدأ يفهم الموقف، فتفرّس فيّ مندهشا و حائرا: "تعني أن لدى الرجل نوايا أخرى، غايات أخرى؟".. سألني في ارتباك، و بعد تردد قصير أضاف بصوت منخفض: "شاذ؟!".. هززت رأسي بالإيجاب و أنا مرتبك قليلا.
مرّت لحظات طويلة من الصمت. طل دي سيكا من النافذة. صمت. ثم نظر إلي بثبات و قال: "لكنه إنسان"..سارعت إلى الرد: "أكيد..إنسان". هزّ دي سيكا رأسه على نحو سريع، متفقاً مع أفكاره، و هو يعض على شفته السفلى. بعد ذلك يؤكد بصوته الموسيقيّ الجميل: "لأن المثليين أيضا لديهم قيم إنسانية.. أكثر مما نظن".. فقلت : " بالتأكيد.. لاشك في ذلك".
شخص من العاملين في قسم الإنتاج دخل علينا في خنوع ليعلمنا بأن الإضاءة قد تم إعدادها و تركيبها، و أن الممثلين جاهزون. نهض دي سيكا، ضبط اللفاع حول عنقه، ثم مدّ نحوي يداً كبيرة، دافئة، ناعمة، جميلة و قال: "برافو، شخصية رائعة، أحبها..حدّد موعدا مع محاميّ. سوف نتحدث عن ذلك. لكن تذكّر..هو إنسان".
لأسباب لا أتذكرّها الآن، لم يكن ممكنا الاتفاق مع دي سيكا، و ربما كان ذلك أفضل. فالشخصية التي كان من الممكن أن يخلقها دي سيكا ستكون مثيرة للتعاطف أكثر مما ينبغي، مثيرة للاهتمام أكثر مما ينبغي، مسلية أكثر مما ينبغي.. و ربما سوف يسيء الجمهور فهم الشخصية و ربما يستهجن موقف الشاب الذاهل منه و رحيله نحو عتمة رصيف الميناء، بينما العجوز، بصوته العذب و الجذاب، يحاول أن يتملق و يغري الشاب كي يتبعه إلى مكان منعزل و بعيد.

* ما هي نصيحتك لمن يرغب في أن يكون ممثلا؟
-  حقيقةً لا أعرف ماذا أقول له. عادةً أنظر إليه في صمت، مرتبكا أكثر منه. أعتقد أنني آخر من يستطيع أن يقدم النصيحة و التوجيه، أو يقترح تقنيات و سلوكاً و انضباطاً. بوجه عام، أنا لا أتبع نظاما في عملي و بالتالي لا أقدر أن أزوّد الآخرين بنظام ما.
اختياري للممثلين هو استثنائي إلى حد ما، فعلى الرغم من كل التقدير و التعاطف و الالتزام الذي أشعره تجاه الممثلين، إلا أن اختياري لهم لتأدية شخصية ما في فيلمي ليس محكوما بالموهبة التي يمتلكها الممثل.. بمعنى الكفاءة المهنية، كما أنني في اختيار الممثل الهاوي، أو اللا ممثل، لا أعبأ كثيرا بافتقاره إلى التجربة. بالنسبة لي، الشخصية و الممثل يجب أن يتطابقا و يتوافقا. إنني أبحث عن الوجوه التي تقول كل شيء عن نفسها منذ اللحظة الأولى من ظهورها على الشاشة. إني أميل إلى التوكيد على الشخصية، أن أكشفها بالماكياج، بالأزياء، بالطريقة التي يقوم بها القناع في جعل كل شيء واضحا و شفافا.. في ما يتعلق بالسلوك، السيكولوجيا، القدر و المصير.
إن اختيار الممثل للشخصية المرسومة في ذهني يعتمد على الوجه الذي أراه أمامي، ما يفشيه لي، ما يتيحه لي من إمكانية أن أحدس، أن أدرك، أن أشعر بالكامن في الأسفل.. في الباطن. أنا لا أحتاج إلى مفسر أو مترجم لكي يزيّن الشخصية مثل أي شخص آخر. أريد منه أن يعبّر عن أفضل ما يناسبه، أن يجسّد ما يناسبه بشكل أفضل. بتلك الطريقة، النتيجة تكون دائما إيجابية. لكل شخص الوجه الذي يخصه وحده، و لا يمكن أن يكون له وجه آخر. و الوجوه هي على الدوام مناسبة. الحياة لا ترتكب أخطاء.

* بالإضافة إلى وجوه الممثلين، كيف تتعامل مع المادة التي تستخدمها؟ أود أن تخبرني عن الجانب الفني من عملك.. عن منهجك في ترجمة الخيال إلى صور.. عن صنع الفيلم..
-  أنت تطلب مني أن أبوح بأسرار لا أملكها، أو لا أظن أنني أملكها كشكل مبرمج أو كجرعات طبية.. كما يوحي سؤالك. ليس كل شيء قابلا للاستقطاب في صيغ كيميائية، في تركيبات رياضية من المقوّمات التي تضمن الوصفة الطبية الصحيحة، و الجرعة الفعّالة. إنها مسألة يستحيل تفسيرها، بالنسبة لي على الأقل، بطريقة مفصلة و موثوق بها. لا يمكنني أن أحصي بدقة مطلقة، كما في دفتر الحسابات، كم أمتار من الحرير، من القماش و المسامير و قطع الأثاث و الأزياء و الوجوه المجمـّلة بالمساحيق، نحتاجها لترجمة صورة غامضة، آسرة، متقلبة، إلى مشهد سينمائي. و ماذا عن الأشياء الأخرى التي تساهم في تكوين هذا المشهد: الحركات، الأبعاد، المنظورات، نبرات الصوت في لهجات معينة، الإيقاعات، الثيمات الموسيقية، البؤرة، الظلال، الضوء المعاكس، توزّع الضوء و الظل.. و من يعرف كم من عناصر و توترات أخرى، و شكوك محفـزّة، و أشياء مروّعة، و انفعالات؟
أنا واثق من أنني لا أستطيع أن أعزل كل ما يدخل في تركيب ذلك الإطار (الكادر) الفريد. لن أنجح في إعادة بناء ذلك العنصر الأساسي الغامض، الذي لا يمكن وصفه و بلوغه، و الذي في النهاية يجمع كل شيء معا بصرف النظر عن منطقي، مشيئتي، موهبتي، إحساسي الفني. لن أنجح أبدا في تشريح تلك اللحظة من الانصهار الفاتن الذي يمنح وحدة و مصداقية بينما لا يزال يحتفظ بوهم، بإغواء، برمزية الصورة المتخيلة.

* أي اهتمام توجهه في أفلامك إلى القيم المشهدية، و إلى الصوت؟
-  في البداية أكبح المظهر السردي للحوار، و فيما أتقدم في التصوير أحرز إيمانا أكبر بالصور و لا أعتمد كثيرا على الكلمات. أثناء إعادة التسجيل الصوتي أعود لإعطاء الحوار أهمية كبيرة. في هذا الشأن، أنا أختلف عن أنتونيوني الذي أحيانا، من أجل أن يعبّر عن كل شيء بواسطة الصورة، يركّز على نحو استحواذي، و برتابة، على الأشياء. أشعر بالحاجة إلى إعطاء الصوت الخاصية التعبيرية نفسها التي تمتلكها الصورة، و لخلق نوع من تعددية الصورة و الصوت. و بما أنهما متعارضان، فإنني أقاوم استخدام وجه و صوت الممثل ذاته. الشيء الهام هو أن يكون للشخصية صوت يجعلها معبّرة أكثر.
إعادة التسجيل، بالنسبة لي، أساسية و لا غنى عنها. هي نوع من الفعالية الموسيقية التي تعزّز و تقوّي ما تعنيه الشخصيات. اللقطات المباشرة لا تروق لي. الأصوات المركّبة في اللقطات المباشرة هي غير مجدية. في أفلامي، على سبيل المثال، الخطوات تكون غير مسموعة تقريبا. تلك أصوات يضيفها المتفرج بما يمتلكه من قدرة على التخيّـل، لكنها لا تحتاج إلى توكيد. إذا سمعها المتفرج فسوف تزعجه و تقلقه. لهذا السبب يكون التسجيل الصوتي عملا ينبغي انجازه، على نحو منفصل، مع الموسيقى.






كيف أسرد المدينة

* لعبة الابتكار، سحر الخلق..في بحثك الحسي عن المطلق ثمة كمّ وافر من الصوفية..
-  الفيلم طريقة سحرية للتعبير عن الحياة. ليس هناك مهنة أخرى تتيح لك أن تخلق عالما يكون قريبا جدا من العالم الذي نعرفه ، بالإضافة إلى العوالم المجهولة، المتوازية، المتحدة المركز.
المكان المثالي بالنسبة لي –و قد قلت هذا مرارا- هو ذلك الذي يقع في ستوديو شنيسيتا حين يكون خاليا. هناك أشعر بعاطفة كليّة، رعشة، نشوة. فضاء غير آهل ينبغي ملأه، عالم ينبغي خلقه.
لدي قناعة مطلقة بأنني قوة خلاقة. سأكون سعيدا جدا حتى لو اكتفيت بالتقاط صور لجوازات السفر أو عمل بورتريهات لأفراد من الطبقة الأرستقراطية أو أي شيء آخر. لست مقيدا بأي أسلوب. أحب كل الأساليب. أكنّ حباً عظيما لعملي، و يبدو لي أن كل الأشياء الأخرى –علاقاتي بالآخرين، المشاعر العابرة، المصاهرات المرحلية- جميعها تتشكـّل في أداة التقطير هذه. أشعر أن عملي من أكثر الأشياء أصالة و مصداقية في حياتي. إني ألبّي نداءه بلا استجواب أو اعتراض. الذروة الأعلى للحب أو للتوتر الأشد إيلاماً هما الشيء نفسه تماما: إنها لحظة غامضة، وهْم أبدي، الأمل بأن –في وقت ما- سوف يوفى الوعد بالكشف الأسمى، و الرسالة سوف تظهر بأحرف من نار.
في الأسطورة، الساحر و العذراء يوجدان معاً. الساحر يحتاج هذا الشكل الأنثوي البكر من أحل امتلاك المعرفة. الشيء ذاته يحدث للفنان الذي، بطريقة أكثر تواضعا، يعانق تعبير الخلق لحظة انبعاث مخلوقاته.

* بين vitelloni وla strada (الطريق) هناك "وكالة زواج"، أحد أجزاء فيلم "حب في المدينة".. هل أعدت مشاهدته في أي وقت؟
-  شاهدت القليل منه ذات أمسية في حانة دخلتها لأجري مكالمة هاتفية. في حيّز ضيق في الخلفية، مضاء فقط بالنور المنبعث من جهاز التلفزيون، و كان هناك شخص يتفرج. صوت التلفزيون كان بعيدا فلم يصلني جيدا. لكنني شاهدت سيفاريلو، أحد ممثلي ذلك الجزء و هو جالس على ضفة معشوشبة يتحدث إلى فتاة حزينة، مثيرة للشفقة، مستعدة للزواج من الرجل المستذئب (الرجل الذئب). كنت أتجه على مهل نحو ذاك الحيّز لكي أقف هناك و أتفرج على بعض مشاهد ذلك الفيلم الذي لا أتذكر منه شيئا، عندما قام ذاك الشخص الحقير، الممسك بجهاز الريموت كونترول، بتغيير المحطة فجأة.
إنه سيزار زفاتيني (كاتب السيناريو الشهير) الذي قدّم لي عرضاً للمشاركة بجزء من فيلمه الذي يتكوّن من ثلاث قصص. و لقد قبلت أن أشارك في هذا العمل الجماعي بالروح التنافسية التي يتمتع بها تلميذ مشاكس يتلقى نكات معلمه.
Vitelloni حقق نجاحا كبيرا لكن النقاد اليساريين استقبلوه بفتور و على نحو غير ودّي. مع أن الاتفاق الجماعي في الرأي كان إيجابيا، إلا أنهم انتقدوا الفيلم لأن أحداثه تدور في منطقة مجهولة الاسم و اتهموني بالمغالاة في التوكيد على الذاكرة الشعرية، و جهلي في كيفية إعطاء الفيلم معنى سياسيا واضحا. لقد فكرت بالانتقام قليلا من أولئك الذين، خلال تلك السنوات، أطلقوا ضدي تصريحات قاسية لصالح الواقعية الجديدة، و بذلك ساهموا في خلق نتائج مقيتة لا تزال مستمرة في عناد.

* ما هي النتائج المقيتة التي سبّبتها تعاليم روسيلليني الخاصة بالواقعية الجديدة؟
-  واقعية روسيلليني الجديدة ما كانت تتجه نحو مقاصد سيئة، بل كانت تتحاشى المسالك الموحلة و الاعتباطية. الشيء الأساسي في تحقيق فيلم واقعي جديد هو احترام الواقعية مهما كلـّف الأمر بوصفها حدثاً وجوديا مقدّسا، راسخا، غير قابل للتغيير، و محظورا مسّه. المشاعر الشخصية، الضغوطات الذاتية، الحاجة لأن تختار، لأن تعبّر عن الحس الفني.. كلها خاضعة هنا للسياسة: فلتسقط الذاكرة، التأويل، وجهة النظر، الخيال. فليعاقب المبدع!.. التبطل و الجهالة و الكسل جعل الجمالي الجديد مقبولا بحماسة. أي شخص بإمكانه أن يحقق أفلاما. كل شخص ينبغي أن يحققها.. جمالية اللا جمالية، و التي ساهمت بدور كبير في الأزمة الراهنة لسينمانا.
في فيلمي القصير اخترعت وكالة زواج، و فتاة –لكي تتزوج- يتعيّن عليها أن تقبل الزواج بمستذئب. أقسمت أن كل ما يحكي عنه الفيلم حقيقي. و عندما عرضت المونتاج الأوّلي للجزء الذي حققته، جاء نقاد السينما اليساريين راضين و مسرورين جدا: "هل لاحظت، أيها العزيز فلليني، إلى أي مدى يكون الواقع أكثر خيالية من كل تلك الفنتازيا الجامحة، المنزوعة اللجام؟"

* بعد تلك الدعابة، نأتي إلى "الطريق"la strada.. ما الذي يمثـّله لك هذا الفيلم اليوم؟
-  يخطر ببالي الآن تعليق الناقد بيترينو بيانكي. لا أتذكر ما إذا قرأت ذلك في جريدة أو كتاب يضم مقالاته المختارة، أم قال لي ذلك مباشرة. الفيلم عُرض في مهرجان فينيسيا، و كان الاستقبال إيجابيا، بل حماسيا. النقاد الفرنسيون خصوصا أبدوا إعجابهم الشديد بالفيلم. قبلات و مصافحات. و أندريه كايات قال لي:" فيلمك من الآن صار كلاسيكيا".. وقد وافقه أندريه بازان، الناقد الضئيل و النحيل و هو يرمقني بنظرة تشبه نظرة الكاهن الذي يمنح البركة بعد الصلاة.
على الجانب الآخر، كانت هناك معارضة تامة من قِبل أغلب الصحفيين اليساريين. و في غمرة ذلك الاستقبال المثير، الهائج، المتباين، بدا لي تعليق بيترينو بيانكي مختلفا عن البقية. قال: "يا له من فيلم شجاع".. و اليوم عندما أفكر في ذلك مليـّاً، يبدو لي حكمه في تلك اللحظة الأكثر إنصافا.
"الطريق" كان الفيلم الذي قدّم أكثر التباينات عمقاً: الشقاء و النوستالجيا، إضافة إلى الإحساس بالزمن و هو ينقضي، و الذي بالتالي لا يمكن أن يتصل بمشكلات اجتماعية و سياسية. في ما يخص الواقعية الجديدة، "الطريق" كان فيلما عن النبذ، عن ما هو متفسخ و رجعي. يبدو لي أن بيانكي كان يشير إلى شجاعتي في الذهاب عكس التيار بفيلمي هذا.
لكن ذكرياتي بشأن الفيلم هي حافلة جدا، و أرغب في التخلص منها. إن استحضارها سوف يضعني في حالة من الإرباك نظراً لما تمتع به الفيلم من شهرة و هو يجول عبر العالم ناشراً نوعاً من الجاذبية العالمية.

* ألا ترغب على الأقل في إخباري كيف تولدت فكرة فيلمك "الطريق"؟
-  كيف يمكنك حقاً أن تضع أصبعك على لحظة اتصالك الأول بالشعور، أو بالحس الباطني، توقع ما سوف يكونه فيلمك؟ الجذور التي منها جاء زمبانو و جلسومينا (الشخصيتان الرئيسيتان) و قصتهما معاً، هذه الجذور تمتد عميقا نحو موضع غائر و مظلم مسكون بالإحساس بالذنب، بالخوف، بحنين ذائب إلى قيم أخلاقية أسمى، بندم على براءة مغرّر بها.
أنا لا أشعر برغبة في التحدث عن الفيلم. كل ما أقوله سوف يبدو غير متناسب و عديم الجدوى. أذكر، على نحو غائم، أني كنت أقود سيارتي ماراً بالحقول حول روما و أنا مسترخ و كسول، كعادتي وقت التجوال.. و أظن وقتذاك ربما التقطت بصيصاً من الشخصيات، المشاعر، الجو العام للفيلم.

* بمناسبة الحديث عن السيارات، يبدو لي أنك الآن لا تسوق السيارة، مع أنك كنت شغوفاً بها في السابق..
-  امتنعت عن قيادة السيارات منذ عشر سنوات تقريبا. ذات يوم قررت أن أتخلص منها. كان لدي سيارة مرسيدس جميلة، خضراء و تتلألأ بلون ذهبي. لها بابان مع إرسال آلي. في ذلك اليوم، جاءت صوبي سيارة فيات صغيرة، يقودها صبي في الثامنة أو التاسعة من عمره. كانت الفيات خارجة من شارع ذي اتجاه واحد، متجاوزة الإشارة الحمراء، لترتطم بي عند مفترق الطرق. جميع المتواجدين هناك، الجالسين في الهواء الطلق خارج المقهى (الفصل كان صيفاً)، بعيدا عن أي منطق و أي دليل، شهدوا ضدي و قالوا أن الصبي على حق.. حتى الشرطي. فوراً و في المكان نفسه، قررت أن أتخلص من السيارة و أكف عن السياقة. كان في الموقع سائح ألماني ما إن سمع الشرطي يلفظ اسمي حتى أبدى رغبته في شراء سيارتي لتقديمها هدية إلى زوجته، في هامبورغ، بمناسبة ذكرى زواجهما بعد شهرين، قائلا بأن تقديم سيارة مخرج "الحياة الحلوة" هدية لها سوف يمثـّل أوج الحب و التفاني. أحببت فكرة بيع المرسيدس إلى ألماني. أنهينا عقد الصفقة بمصافحة عند مفترق الطرق، تحت إشارة المرور، أمام الحدث الجانح و الحشد الذين صفقوا في استحسان.
ربما كان الوقت قد حان، إذ سأمت من السيارات: الكثير من المشاكل، العديد من الغرامات، إشارات ممنوع الوقوف في كل مكان، ضرائب لا تحصى، و الكراج بعيد جدا عن بيتي. إضافة إلى كل ذلك، هناك التحديقات القاتلة التي يوجهها صوبك قتلة أو معتوهون في سيارات أخرى تتبعك أو تحاذيك أو ترغب في التسابق معك.
لست نادما أبدا على رفضي امتلاك سيارة. هناك سيارات الأجرة (أحب أن أجلس في المقعد الأمامي و أتحدث مع السائق) و تلك التي يخصصها منتجو أفلامي لنقل الفنيين، كما أن جميع أصدقائي يمتلكون سيارات.. هناك دائما شخص يبدي استعداده لتوصيلي. و عندما لا أجد أحدا، و السماء تبدأ تمطر، أقف في منتصف الشارع و أنعم النظر في السيارات القادمة نحوي، و بلا خجل أحيي السائق متظاهرا بأني أعرفه، و دائما تتوقف السيارة فاعتذر عن الالتباس لكن السائق، ذكراً أم أنثى، يعرض علي بكرم  و لطف أن أركب معه ليوصلني.
كنت في ما مضى أملك العديد من السيارات الجميلة، الفاخرة و الباهظة. كانت لدي سيارة زرقاء أشبه بطائرة ذات ثلاثة محركات، أشبه بمركبة فضائية. عندما أقودها عبر الأرياف حول روما، كان الأهالي يمسّون قبعاتهم احتراما، و الكثيرون ينحنون في تقدير. كنا، أنا و مارشيلو ماستروياني نتسابق في شراء السيارات الجديدة. هذه اللعبة السرية والمضنية جعلت من بورنيا، تاجر السيارات القديمة، رجلا ثرياً. كل يوم كان يرتدي بذلة جديدة أكثر أناقة، أكثر غلاء.. و كل هذا بفضل أموالنا، أنا و مارشيلو.
لم أخبرك بعد عن المشاعر و التخيلات المرتبطة بسيارة فيات الصغيرة التي وهبها لي روسيلليني كتعويض عن سيناريو كتبته له و لم يدفع لي مقابله. و لم أخبرك عن كل تلك السيارات التي امتلكتها، فقط تلك التي أحببتها كثيرا: ألفا روميو 1910 تبدو لي الأكثر روعة و أناقة، و الأفضل تصميما، و لا أفهم سبب امتناعهم عن إنتاج ذلك الموديل الرائج. أيضا أحببت كثيرا سيارات أخرى مثل مرسيدس باغودينا و لانسيا فلامينيا التي عندما كنت أقودها أشعر بأني سائق وزير الخارجية.
بواسطة السيارات اكتشفت العديد من المناطق الرائعة، القرى الجاثمة على قمم التلال، الأرياف، حقول الحنطة تحت أشعة الشمس، إقليم ماكاريس الأشبه باليابان في القرون الوسطى كما صورها كوروساوا في أفلامه.. و أشياء أخرى عديدة.
إلى تجولي بالسيارة عبر المدن و الأرياف وبمحاذاة البحر أنا مدين بالإلتماعات الأولى لأفلامي، الومضات، الأفكار، الشخصيات، و حتى الحوار. كنت أوقف السيارة في أي موقع أصادفه و أشرع في تدوين الملاحظات. ذلك التجوال الحر بلا هدف، في محاذاة الأشياء و الألوان و الأشجار و السماء و الوجوه الصامتة المطلة من نوافذ السيارات، كان دائما يمتلك القدرة على استقطابي نحو نقطة ساكنة، متعذر تحديدها، حيث الصور و المشاعر و الحدس تولد بتلقائية.
* بالعودة إلى أفلامك: في 1953 حققت "الطريق"، و في العام التالي "المحتالون".. هل أنا مخطئ أم أن أفلامك الأولى كانت متلاحقة على نحو سريع. بتعبير آخر، كنت آنذاك أكثر إنتاجية، محققاً فيلماً كل عام..
-  أسفي الشديد هو على عدم قدرتي العمل طوال الوقت، على نحو متواصل، و بالسرعة الفعالة و البهيجة التي كنت أتحرك بها في الخمسينيات. البنية المالية لأفلامي صارت أثقل فأثقل و انفتحت على شهية هائلة، ضرب من التضخم يقيناً لم أتسبّب فيه إنما العملية بأكملها صارت أكثر تعقيدا و إزعاجا.
إذا كنت محظوظاً، من جهة، لأنني تمكنت على الدوام من تحقيق الأفلام التي أردت أن أحققها، و بالطريقة التي أردتها، و بنزاعات و تسويات أقل، فأنا من جهة أخرى آسف لعدم التقائي، في كل تلك السنوات، برفيق سفري، بالمنتج العظيم الراغب في تخطيط و تمويل أعمالي و حمايتها من أي انحراف أو ضلال قد يسبّبه الزهو أو الغرور أو الفضول أو التململ و نفاد الصبر، مثلما حدث معي أحيانا. لم تسنح لي الفرصة السعيدة الالتقاء بشخص قادر أن يقدم لي اقتراحات، و الذي معه أستطيع أن أتناقش و أتجادل كما كانت العلاقة التي لا غنى عنها بين الرسام و البابا، بين شاعر البلاط و الحاكم.
عندما يخبرني منتج أمريكي بأنه يرغب في الالتقاء بي في جراند هوتيل أو في الإكسيلسيور للتباحث بشأن فيلم، مشروع سوف ينفـّذ في الولايات المتحدة، فإنني دائما أكون دقيقا في مراعاة المواعيد و أصل في الوقت المحدد حتى لو كنت أعرف بأنني لن أذهب أبدا إلى أمريكا. أنا لا أميل إلى الخداع، لكن الفضول هو الذي يدفعني لأن أسمع ما لدى المنتج. لهذا السبب تضيع مني شهور دون أن أفعل ما ينبغي فعله: أن أقف في الأستوديو وأقول.. كاميرا، صوّر.

* فلليني في أمريكا.. هل من المرجّح أن تذهب يوماً إلى هناك و تصور فيلما؟
-  كان بمقدوري أن أحقق عدة أفلام في أمريكا لو شئت ذلك، لكنني في الحقيقة لا أعرف إن كنت أستطيع فعل ذلك. دي لورنتيس (المنتج الإيطالي) الذي استقر في أمريكا منذ سنوات، كان يتصل بي هاتفيا مرتين في الشهر في الساعة الثالثة أو الرابعة صباحا، متظاهرا بأنه يجهل فارق الوقت بين البلدين. لقد عرض علي أن أخرج كل الأفلام التي أنتجها هناك، من "كنج كونج" إلى "فلاش جوردون"، لكنني كنت أتردد دائما، و في النهاية أرفض العرض. في الواقع كنت سأستمتع كثيرا بالاشتغال على قصة نفسية جيدة مثل كنج كونج. بعد عرض الفيلم أخبرت دي لورنتيس بأنني وددت لو نفـّذته، و قبل أن أكمل جملتي صاح: "برافو! أخيرا أضاء الله دربك.. تعال لنحقق (ابنة كنج كونج) فورا".. و لأنني أحمق فقد رفضت ذلك العرض أيضا.
أشك في قدرتي أن أحقق يوماً فيلماً في أمريكا. ذات مرّة تلقيت دعوة للذهاب إلى هناك و أن أقضي 12 أو15 أسبوعا أبتكر و أطور خلالها أفكارا ملائمة. كانوا من الأصدقاء الأمريكان الذين يتسمون باللطف و الكرم و أبدوا رغبتهم في استضافتي، و أن يضعوا تحت تصرّفي بيوتهم و وقتهم و كتـّابهم، إضافة إلى الرحلات من ساحل إلى ساحل. أخبروني أن بوسعي زيارة مدنهم و أقاليمهم الكبيرة، و أن أشاهد كل ما أرغب في مشاهدته، و سوف يعتنون بي جيدا. بوسعي أيضا أن ألتقي بالفنانين و المثقفين، بأي شخص أرغب في لقائه من نورمان ميلر إلى وودي ألين إلى ترومان كابوتي إلى ذلك الطيف الرقيق و الآسر: أندي وارهول. بوسعي أيضا أن أر أي شيء، أي مكان، أي شخص يشبه شخصيات أفلامي.
مع ذلك، و بالرغم من كل تلك المغريات، فقد تخليت عن الفكرة، تراجعت، و في محاولة صعبة و مرتبكة لتبرئة نفسي من الإثم، عللت الأمر بعدم كفاءتي و أهليتي، بأنني لا أعرف كيف أصنع فيلما في أمريكا. حتى لو كانت بلادهم تأسرني و تغويني، و تبدو لي أشبه بموقع هائل ملائم لرؤيتي للأشياء، فإنني لا أعرف كيف أرويها في فيلم. نيويورك! إنها مركبة فضائية هائلة، مذهلة، محرّرة في الكون. ليس لها جذور أو عمق، لكنها متدلية على صحن بلـّوري لا متناه. هي فينيسيا و دمشق و بنارس.. هي كل مدن العالم مندمجة معا.
نيويورك عذبة، عنيفة، جميلة، رهيبة.. لكن كيف أسردها؟
فقط هنا، في بلادي، أقدر أن أجرب مثل هذا المشروع الجبار، في شنيسيتا.. أي مجازفة أقوم بها في هذا الأستوديو، أشعر دائما بأني محمي من السقوط من الجُرُف بواسطة شبكة فسيحة متألفة من: جذوري، ذكرياتي، عاداتي، طباعي، بيتي.. باختصار، مختبري. علاوة على ذلك، أن تعيش هناك، أن تتحرك مشاعرك نتيجة ما يحدث هناك، أن تتكوّن لديك أحاسيس و تتلمّس أشياء تتصل بواقع جديد.. هذه أمور عادية و يسيرة. يقيناً كلنا قادرون على فعل ذلك، قادرون على رؤيته، تكثيفه و تقويته، و أن نبدي اندهاشنا منه. نحن جميعا نشعر بصدمة، بحافز، بعلاقة مع الأشياء التي لا نعرفها. لكن أن تتحدث عنها، أن تعبّر عنها، أن تصرّح عنها على نحو قابل للتصديق، على نحو مفعم بالحيوية، دون أخطاء أو سوء فهم، فذلك لا يمكن تنفيذه إلا بالتعبير عنه بلغتنا الخاصة. هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تحت تصرفنا للاتصال مع أنفسنا قبل فعل ذلك مع الآخرين. سوء الفهم ينبع من واقع أن الناس يرون في السينما مجرد كاميرا محشوة بشريط و مهمتها الوحيدة هي أن تصور ما يجري أمامها. عوضا عن ذلك، يقحم المرء نفسه بين الشيء و الكاميرا. بخلاف ذلك، لا يمكن للفيلم إلا أن يعرض معلومات متناقضة على نحو مبهم.
في أمريكا تأتي الأفكار إليّ عبر لغة ليست لغتي، عبر واقع لا أعرف تلميحاته و إشاراته و التي تفلت مني نحو مستوياتها المتراصفة الخاصة، و نحو مكوّنات جذورها. إخراجي للأفلام هو عمل يقتضي التضلّع التام في لغة تنتج رؤية للعالم، أساطيره، تخيلاته الجماعية.
بالتأكيد أنا لا أزعم بأني أعرف كل شيء عن إيطاليا، لكن على الأقل هنا أنا استحضر جهلي، عواطفي، مشاعري. هنا أنا سيد حتى تلك الأشياء التي لا أعرفها. أستطيع القول 
عن شخص بأنه من برجامو بمجرد النظر إلى ربطة عنقه. حسنا، ربما أبالغ هنا بعض الشيء. لكن في ما يتعلق بالواقع الإيطالي، فإني أزعم فهم العلاقات بين النظم المختلفة للتمثيل، بين الصحف و التلفزيون و الإعلان، تراكيب الصور الشائعة بيننا..

* لكن هناك مخرجين، لهم منزلة و اعتبار، يعملون في أمريكا دونما صعوبة..
-  نعم، أعرف أن ميلوش فورمان، رومان بولانسكي و آخرين قد نجحوا في الانخراط كليا في الثقافة الأمريكية و في التعبير عنها، لكن هؤلاء جاءوا من عالم مختلف. إنهم يهود، من أوروبا الوسطى.. ينحدرون من أبعاد نفسية و ثقافية استطاعت تعويدهم و تأهيلهم ليعيشوا في أي مكان و يتعايشوا مع الآخرين بحيث يكونون أكثر وطنية من مواطني البلد أنفسهم. لديهم دائما تلك الموهبة الخاصة التي تتيح لهم امتصاص تاريخ و ثقافة و ذكريات الآخرين. في الواقع، هم أصبحوا أمريكيين أكثر من الأمريكان.
قبل 25 سنة تعاقدت على مشروع مع ثلاثة منتجين أمريكان مفعمين بالحماسة و الذين قرروا الابتعاد عن الشركات الرئيسية و سياساتها الإنتاجية و صنع أفلام وفق النمط الإيطالي. فالواقعية الإيطالية الجديدة كانت قد أسرتهم و أثارتهم إلى حد أنهم قرروا الخروج من الاستوديوهات و العمل في مواقع خارجية مع قصص واقعية و أفراد حقيقيين "من الشارع".. هكذا كان التعبير الشائع في تلك الأيام.
كنت في لوس أنجلس حاضرا حفل توزيع جوائز الأوسكار، و المنتجون الثلاثة كانوا هناك يرمقونني في استحسان. كانوا مغرمين بكل شيء يخصني، ليس فقط أفلامي (vitelloni و الطريق) لكن أيضا ربطات عنقي، تسريحة شعري، الطريقة التي أنطق بها اللغة الإنجليزية. ذات مرّة ارتطمت ركبتي بقطعة من الأثاث، و لم تكن الإصابة خطيرة، مجرد وجع بسيط، لكن كان عليّ أن أصرخ لكي أمنعهم من أخذي إلى المستشفى.. و من يدري، ربما كانوا على استعداد لإخضاعي لعملية جراحية فورية.
بعد معارضة شديدة، وافقت أن أوقـّع معهم عقد عمل يتضمن الإقامة في أمريكا لمدّة 12 أسبوعا، بعدها أكون جاهزا لتصوير الفيلم أو أعود إلى بلادي. كانوا على يقين تام من أن الاحتمال الثاني لن يكون واردا على الإطلاق.
هكذا بدأت تجوالي حول الولايات المتحدة. و قد وضعوا تحت تصرفي سكرتيرات، مترجمين، أصدقاء، صحفيين، و الأكثر إثارة للإعجاب: مرافقي، رجل المافيا السابق، الذي يدعى سرينيللا. لابد أنه كان في السبعين، غير أنه يتمتع بنشاط و قوة، وجهه مكفهر أشبه بوجوه المصارعين الرومان في الأزمنة الغابرة، و على وجنتيه تبدو آثار الجدري. شعره الأبيض، بدلا من أن يضفي عليه لمسة نبالة، يجعله يبدو أكثر دهاء و مراوغة. مع ذلك كان عاطفيا على نحو لا يصدق، يتأثر بمجرد النظر إليّ. نفوذه هائل إلى حد أنه كان يخيفني أحيانا. كان يلبّي على الفور كل ما أطلبه منه. لم تكن هناك قيود أو حدود. حتى الأشياء المستحيلة التي أطلبها بدافع استفزازه و إثارة غيظه. لقد كان في ما مضى زعيما هاما و مهيبا، يملك فندقين في لاس فيجاس. كان مثار إعجاب و خوف. لكن عندما يدندن بالثيمة الموسيقية لشخصية جيلسومينا (في فيلم:الطريق) كانت عيناه تغرورقان بالدموع.
بعد شهر مسّني ذلك الوجع الذي يحدثه الحنين إلى الوطن. كنت أقضي أوقات ما بعد الظهيرة في غرفتي بالفندق أجري اتصالات هاتفية مع كل أصدقائي في روما، حتى أقاربي و معارفي، بل حتى أولئك الذين انقطعت علاقتي بهم قبل سنوات. كنت أحنّ إلى أشياء صغيرة –و كم كان ذلك موجعا و معذباً- أشياء مثل: الخروج ليلا لشراء الجرائد في جادة كولا دي رينزو أو الذهاب إلى بلازا هوتيل، الأشبه بكنيسة، فقط لأجري مكالمة هاتفية، أو أتسكع في كسل حول المكتبات.
أحببت أمريكا كثيرا.. هي التي أغوتني، سحرتني. كان يبدو لي أن كل شيء هناك جاهز الصنع، مثل موقع هائل مصنوع سلفاً بكل مشاهده الكاملة، المضاءة بإتقان، و المصممة على نحو أنيق.
الكثير من الأفكار خطرت لي، و عندما أبوح بها للمنتجين كانوا يبدون حماسة شديدة. لكنني شعرت بأن ليس بالإمكان تجربة شيء و سرده، أن تعيش تجربة و تعبّر عنها في الحال. ليس لدي الموهبة أو الكفاءة التي يتمتع بها الصحفي. إن فرصي للاتصال عبر هذا المستوى هي معدومة تقريبا. علاوة على ذلك، لا أعتقد أنني قادر أن أكون صحفيا جيدا إلا إذا اخترعت الأشياء و القصص.
هكذا، متصرفا مثل فتاة عُصابية هشة، أعلنت لهم رغبتي في العودة إلى الوطن بعد أربعة أسابيع فقط، مبررا ذلك بأنني لم أعد أعرف كيف أكون مخرجا، لم أعد أعرف كيف أحقق الأفلام. سرينيللا ، بقبعته العريضة السوداء، و لفاعه الحريري الأبيض، و سترته ذات الياقة المخملية، رافقني إلى المطار. لم ينبس بحرف، لم يعلـّق، بل تقبـّل قراري و احترمه، مقتنعا بأنني لم أتخذ هذا القرار إلا لمصلحتي الشخصية، واثقاً بأن هناك أمراً أكثر أهمية بالنسبة لي، أكثر فائدة، "أكثر نقودا"، في قراري بالرحيل.
في اللحظة الأخيرة، قبل أن أغادر، أعطاني سرينيللا عنوان صديق له تم طرده من الولايات المتحدة لكونه "غير مرغوب فيه"، و الذي يعيش الآن في إيطاليا. (لا، لا أريد أن أذكر اسمه.. فوق ذلك، هو لم يعد هناك).. قال لي سرينيللا: "هو قديس. لقد فعل الخير للجميع لكنهم لم يفهموه. يا بني، إذا احتجت شيئا، إذهب إليه و قبّـله نيابة عني"..
لكنني لم أذهب إليه و لم أنقل إليه قبلات سرينيللا، على الرغم من فضولي الشديد لمعرفة هذا القديس. أحيانا، عندما أواجه صعوبة كبيرة في الشروع في تحقيق فيلم، أنظر إلى الورقة التي أعطاها لي العجوز الشرير، الشهير.




نظرة عجول البحر

* هل تشعر بالغربة في أوروبا الشرقية أيضا؟
-  بالنسبة لي، أوروبا الشرقية تبدو أشبه بمنطقة جامبتولا الريفية قرب مدينة ريميني، و التي عاشت فيها جدتي. الطريقة الروسية في تقبيلك و الإمساك بك باليدين قبل الترحيب بك، كانت تبدو لي دوماً علامة لذلك الإحساس الديني القروي الذي كنت أتنفسه في بيت جدتي خلال أسبوع الآلام (الذي يسبق الفصح)، إضافة إلى رائحة حلويات معينة.
عندما تواجدت في روسيا كنت واعياً بشكل خاص لهذا الإحساس بالوجود المسيحي الذي يجد صداه في تولستوي أكثر من ماياكوفسكي. إنه يعيد ذكريات عن حياة مؤطرة بين الأرض و السماء، موسومة بفصول منضفرة و طويلة، و محلاة بنكهات و روائح أزمنة سابقة..ذكريات من طفولتي و حواسي مبتهجة بكل الأشياء من حولي، و الناس و النباتات و الأشجار و عبق البيوت.. تلك الأبعاد، حيث في الفجر، تربط الإنسان بالأرض، بالتغيّرات في الجو، بالغيوم، بالإحساس بالأخوة، بشعائر محدودة، بالعودة إلى العطل أو الأعياد، بالعرفان بالجميل تجاه شخص أهداك تلك الأشياء. من الطبيعي أن قسماً عريضا من تلك الأفكار تنشأ أيضا من الأدب.
إيفتوشنكو، الشاعر الروسي الذي التقيت به للمرّة الأولى خلال العرض الأول لفيلم "ثمانية و نصف" في مهرجان موسكو، على الفور بدا مثل أي صديق من أيام الدراسة. ما إن عرّفوني إليه حتى أحاط بنا الصحفيون و المصورون، و كل شخص ينتظر منا أن نقول أشياء هامة. المترجمون تعلقّت أسماعهم و أبصارهم بكل كلمة قد تصدر منا، لكننا لم نعرف الأشياء المناسبة التي ينبغي قولها و التي قد تكون لها أهمية تاريخية حاسمة.
الواحد منا أحب الآخر، هكذا ببساطة. و بعد سنوات، قام إيفتوشنكو بزيارتي في فريجيني. هناك تحدثنا معاً مثل صديقين قديمين. و قد تعلـّم اللغة الإيطالية في ثلاثة أيام.
ذات ليلة، على الشاطئ، روى لي ما حدث في جرينلاند ذات أمسية شتوية –واحدة من تلك الأمسيات التي تدوم ستة شهور- حيث قام شخص من الإسكيمو يمتلك آلة عرض سينمائية داخل سفينته التي تمخر عباب المياه الجليدية، و عرض عليهم فيلمي "ليالي كابيريا". الحاضرون استمتعوا بالفيلم وتفاعلوا معه.. حتى الدببة القطبية.
ثم قال شيئاً جميلا أتذكره دائما كلما فكرت في إيفتوشنكو.. قال لي أن الفقمة (عجل البحر) لها نظرة حنونة و نديّة مثل نظرة زوجته. لا أعرف ما إذا كان هذا التشبيه يسرّ المرأة.. أن تسمع من زوجها أن لها عينين مثل عينيّ فقمة، لكن منذ ذلك الحين صرت أنظر إلى عجول البحر على نحو مختلف. و ذلك حقيقي: إن لها عيوناً جميلة جدا تتصف بعذوبة مقلقة و التي تجعلك تشعر بالذنب.
فيما كنا، أنا و إيفتوشنكو، نتمشى على طول الضفة، سبقنا بمسافة أصدقاءنا الذين كنا نسمع أصواتهم خلفنا في الظلام. الصيف لم يبدأ بعد. و كانت ليلة جميلة، باردة باعتدال بعض الشيء، و فجأة بدأ إيفتوشنكو في خلع ثيابه و يتعرّى إلا من سروال تحتي فيما كان يلقي شعراً، و بلا إشعار رمى بنفسه في المياه وسبح حتى غاب عن بصري.  عندما وصل الآخرون و علموا بالأمر شرعوا في توبيخي و لاموني لأني سمحت له بفعل ذلك. ثم أخذوا ينادونه لكننا لم نر أمامنا غير الظلام الدامس، و بضع ومضات بعيدة، و امتداد هائل للمياه تتمازج مع ضوء النجوم.
ما الذي ينبغي علينا فعله؟ نتصل بخفر السواحل؟ السفير الروسي؟ خروتشيف؟.. أحد الأصدقاء بدأ يبكي و يندب قائلا: "كان شاعرا عظيما".. في الواقع، كنا جميعا نفكر في ما هو أسوأ، لأن ساعة مرّت منذ اختفائه. قررنا أن ننظم فرق انقاذ، لكنه أخيرا بان خارجاً من الظلمة على طول الضفة. لقد عاد سباحة، و عندما خرج من المياه، أراد أن يعرف رأيي في أيهما الشاعر الأعظم: توركواتو تاسّو (كبير شعراء إيطاليا في أواخر عصر النهضة) أو لودوفيكو أريوستو (شاعر و كاتب مسرحي إيطالي من عصر النهضة أيضا).. يا له من شخص رائع و بهيّ! رفيق طفولة حقيقي.
لكن لماذا أخبرك بكل هذا رداً على سؤال عمّا إذا كنت أشعر بارتياح أكثر في أوروبا الشرقية؟
لقد تعوّدنا في إيطاليا على التضحية بحريتنا، و لا أظن أن لدينا الطاقة أو الصبر لاحتمال البلادة المخزية و الحماسة الرقابية التي يتسم بها النظام الشيوعي.
عندما أرادوا عرض فيلمي "أماركورد" (أنا أتذكر) في روسيا، دعيت إلى السفارة السوفيتية في روما لتبادل الحديث. كان هناك كافيار، فودكا، و وزير لطيف و مهذب لكن لا سبيل إلى فهمه أو النفاذ إليه. لقد أراد هذا الوزير مني أن أوافق على حذف لقطات من الفيلم. لم أفهم السبب، و لم أعلم أي اللقطات يرغبون في حذفها. بالطبع عارضت ذلك.
قال المترجم: "الوزير يسأل لم تريد أن تحرم الشعب الروسي من مشاهدة فيلمك؟".. قلت له: "حقا لا أريد ذلك. على العكس، سأكون سعيدا لو عرض فيلمي في الإتحاد السوفيتي". المترجم نقل كلامي، أصغى إلى الوزير ثم استدار نحوي قائلا: "إذن يجب أن تحذف المشهد الذي يدور في دكان التبغ".. فسألت إذا كان الوزير نفسه منزعجا و قلقاً من منظر ثدييّ المرأة البائعة..المترجم الذي ارتبك قليلا، ترجم كلامي ثم سارع ليطمئنني: "لا، أبدا".. الوزير أيضا هزّ رأسه كما لو يريد تطميني، و على وجهه تعبير رزين. سألت: "إذن هل لي أن أعرف، لماذا يعتبر الجمهور الروسي مختلفاً عنه؟ إذا كان ذلك مناسبا لشخص مثله فلابد أن يكون مناسبا لآخرين..
استمر النقاش بتلك الطريقة فترة من الوقت، و المترجم يزداد حرجا و ارتباكا في ترجمته لأقوالي، و الوزير يلحّ على أن ليس من حقي أن أحرم الشعب السوفيتي من متعة مشاهدة فيلمي.
في النهاية غادرت حاملا معي الهدايا من الفودكا و الكافيار، و ابتسامات كل شخص هناك مع توكيدات على مشاعر التقدير و الإعجاب. لكن عرض "أماركورد" في روسيا بعد بتر المشهد الذي يدور في دكان التبغ، و أيضا المشهد الذي فيه يمارس الفتيان العادة السريّة في سيارة قديمة. هكذا، لم يحرم الشعب الروسي من فيلمي بل من بعض قيمته. ذلك الجانب الفاشستي، المقيّد، الرقابي – الأكثر من كرسي الاعتراف و الأكثر ظلامية من الكنيسة- يجعل من الاتحاد أمرا مستحيلا.

* هل واجهت قط أية مشكلة مع الرقابة الإيطالية؟ أذكر أن فيلمك " ليالي كابيريا" أثار احتجاجات عديدة لدى الدوائر الكاثوليكية..
-  الرقابة منعت عرض الفيلم و أنا خشيت أن يحرقوا النسخ السالبة، لذلك امتثلت لنصيحة صديق يسوعي، مثقف، أقل صرامة في ما يتعلق بأعراف الكنيسة، هو الأب أربا. هكذا قمت بزيارة كاردينال شهير في جنوا، و يعد من الشخصيات البارزة و القوية ضمن السلطة الدينية، و رجوته أن يشاهد الفيلم ليحكم بنفسه.
في غرفة عرض صغيرة تقع خلف المرفأ، و في وسط الغرفة، وضعت كرسياً كنت قد اشتريته قبل يوم من تاجر يتعامل مع الأشياء الأثرية، و الكرسي يشبه عرشاً بفخامته و الوسادة الحمراء الكبيرة و الحواشي الذهبية. بعد منتصف الليل بنصف ساعة، وصل الكاردينال بسيارته المرسيدس السوداء.
لم يكن مسموحا لي أن أمكث في غرفة العرض، لذلك لم أعرف ما قيل هناك، و ما إذا رجل الكنيسة الرفيع قد شاهد الفيلم كله أم أنه استغرق في النوم بعد بضعة مشاهد. الأرجح أن الأب أربا كان يوقظه في لحظات معينة عندما تكون هناك لقطات لمواكب أو لصور دينية. و في النهاية قال: "المسكينة كابيريا، يتعين علينا أن نفعل شيئا لأجلها"!
شخص ما اتهمني علانية بأنني أشبه ريشيليو الذي، بدلا من مواجهة خصمه على أرض مكشوفة، يتآمر عليه من وراء الكواليس. لحسن الحظ في تلك الأيام كان لدينا ما يشغلنا و لم يكن عندنا وقت نبدده في المهاترات.
في النهاية تم إنقاذ الفيلم، لكن بشرط استثنائي واحد أعلنه الكاردينال: حذف المشهد الذي يتضمن رجلا يحمل كيسا.

* و ما الذي يحتويه هذا المشهد؟
-  ذلك الجزء من الفيلم استوحيته من شخصية رجل غريب و ملفت و رائع، كنت قد أمضيت معه ليلتين أو ثلاث و نحن نتجول و نهيم في أنحاء روما. كان رجلا محسنا محبا للخير، ساحرا إلى حد ما، و الذي بعد أن مسّته الرؤيا كرّس نفسه لمهمة خاصة: كان يجمع المحرومين من أكثر بقاع المدينة غرابة و يمنحهم الطعام و اللباس مما يحمله معه داخل كيس.. كان يفعل ذلك يوما بعد يوم.
معه شاهدت أشياء بغيضة و يصعب احتمالها. برفع غطاء أحد المجاري، حيث لا ينبغي أن يكون هناك إلا الوحل و الفئران، كنا نجد امرأة عجوزا نائمة. في دهاليز مبنى ضخم، حيث موقع الحزب الاشتراكي الآن، ينام المتشردون الذين لا مأوى لهم حتى الساعة الخامسة صباحا، سرّا و بتواطؤ من الحارس الليلي الذي يسمح لهم بالنوم هناك. الرجل ذو الكيس يعرف كل تلك الأماكن. كان يهب الطعام، و حتى الحقن، في مكان أو آخر.
في الفيلم تخيلت أن كابيريا تلتقي به أثناء عودتها إلى البيت مع بزوغ الضوء الأول من الفجر، متذمرّة لأن زبوناً حقيراً احتال عليها و لم يدفع لها. هي ترى الرجل ذا الكيس يترجـّل عن دراجته و يتجه نحو مقالع الحجارة، يتوقف عند حافة ما يشبه الهاوية و ينادي امرأة باسمها: مومس عجوز كانت كابيريا تعرفها عندما كانوا يطلقون عليها لقب "القنبلة الذرية". إنها تخرج من ذاك الوادي الضيق الشديد الانحدار، في وضع بائس و مزر، و قد صارت تعيش حياة خُـلد و ليس حياة بشر.
بعد ذلك، تقبل كابيريا أن يوصلها إلى البيت هذا الرجل ذو الكيس، شاعرة بالتأثر للقصص التي يرويها. إنه مشهد محرّك للمشاعر، لكن كان عليّ أن ألغيه بناء على أمر الكاردينال. واضح أن دوائر كاثوليكية معينة تشعر بالقلق و الانزعاج من فيلم يوجّه هذا النوع من الثناء و التقدير لرجل محسن و محب للبشر، غريب و لم يمسّه تأثير الكنيسة و نفوذها، بل يعمل خارج محيطها.

* إذا اضطرت الرقابة، لسبب أو لآخر، أن تلغي قوانينها و تسمح للفنانين بحرية تامة.. هل ستحقق فيلما إباحيا (بورنو)؟
-  الكلمة تنطوي بداهة على معرفة معينة بالسوقية و الابتذال. و شخصيا لا أعرف كيف ألبّي هذه الرغبة، إن مدلولاتي الرمزية المعتادة سوف تحوّل العمل نحو وجهة ربما سوف لن تسرّ لا الموزعين و لا ذلك النوع من الجمهور. علاوة على ذلك، لم أجد حتى الآن شخصا يعلن بإعجاب أنه شاهد فيلما بورنوغرافيا جميلا.
الملاحظ أن النسوة اللواتي يظهرن في هذه الأفلام هن بشعات جدا و يجعلنك تشعر كأنك في مشرحة أو فناء للماشية. و أنت تشاهد، تتنفس جو المبغى هنا، و الذي يعني أن فيلم البورنو يجعلك تشعر بأنك تعرف أقل مما كنت تعرفه من قبل، و أنك تشارك في الحط من قدر الطقس الجماعي.

* لم تتحدث عن فيلمك "المحتالون" الذي عُرض قبل "ليالي كابيريا".. لم اخترت ممثلاً أمريكيا؟ هل المنتج هو الذي فرض عليك اختيار برودريك كراوفورد؟
-  لقد حالفني الحظ السعيد في العمل، طوال الوقت، مع منتجين أبدا لم يفرضوا عليّ شيئا أو أحدا. إذا حدث بيننا اختلاف في الرأي و في وجهات النظر، كنا نتوقف عن انجاز المشروع  و لا نواصل العمل في شيء يثير بيننا خلافا حادا. و حتى عندما يصل الأمر إلى حد قطع العلاقات، و هذا حدث مرارا، فإن علاقتي بالمنتجين، أولئك الذين أنتجوا أفلامي و الذين لم أتفق معهم أو فسخت عقدي معهم، تظل دائما ودودة و محبة. خلاصة القول، أننا منذ زمن سحيق كنا على نفس الاتجاه من عملية صنع الأفلام، و قد فهم بعضنا البعض بلا أوهام أو خداع.
اخترت برودريك كراوفورد بعد صعوبات جمة في العثور على الشخصية الرئيسية بين الكثير الكثير من الوجوه. ذات مساء و أنا أتمشى في ميدان مازيني، شاهدت ملصقا كبيرا على الجدار لفيلم يشارك فيه كراوفورد، و قد تمزّق الملصق عموديا. نصف وجهه لا يزال معروضا، و تحته نصف العنوان و نصف اسم الممثل. العين الصغيرة في ذلك الجانب من الوجه السمين تذكّرني بذلك التعبير الحاد و الخبيث الذي يتمتع به شخص يدعى ناسي، و الذي اشتهر في ريميني بعد أن باع رجلا ألمانياً قطعة ممتدة من البحر قبالة جراند هوتيل، أو هكذا قيل لنا عن ناسي المحتال، و الذي عندما يسألونه في مقهى كوميرس عن مدى صحة الحكاية أو عدمها، كان يطلب دعوته على الشراب أولاً، ثم يلفظ بعض الجمل المستعارة من حكمة شرقية، مثل: "نحن لا نعود نعرف كيف نرى الحقيقة لأننا لا نعرف كيف ننحني حتى نتصل بالأرض". و إذا طلب منه شخص أن يشرح هذه الجملة، يتعين عليه، لكي يجيبه، أن يقدم له كأسا آخر من النبيذ. و هذا الوضع، بين إجابات ناسي الحكيمة المبهمة و أباريق النبيذ، يمكن له أن يستمر حتى فترة ما بعد الظهيرة حيث يغادر مخموراً كلياً، هذا الشبيه بعرّاف غامض، متجهاً نحو الضباب فيما يغني بصوت جهوري.
وجه برودريك كراوفورد! يا له من وجه رائع و هائل!.. إنها شهادة حسّية تماما على فن المصور السينمائي. بمجرد أن يرفع حاجب العين، تجد قصة هناك. تلك العينان الغائرتان في الوجنتين الممتلئتين تبدوان كما لو تنظران إليك من خلف الجدار، مثل جحرين في جدار.
المنتج الذي كان قلقا بشأن الشائعات المتداولة عن ولع برودريك بالخمر، أراد إضافة تحذير في عقد عمل الممثل بحيث يشير في صفحة إلى المشروبات المسموح له بأن يتناولها.











الواقع العذري للأشياء

* الحياة الحلوة...
-  أجيبك فورا، كما في اختبار تداعي الكلمات: أنيتا إيكبرغ! بعد خمس و عشرين سنة من تنفيذ الفيلم، يظل عنوانه و صورته متلازمة مع أنيتا و لا يمكن فصل ذلك عن هذه الممثلة.
رأيت صورتها للمرة الأولى في صفحة كاملة من مجلة أمريكية: نمرة جبارة في هيئة فتاة عابثة جالسة منفرجة الساقين على درابزين سلـّم.. و قلت: "إلهي لا تدعني ألتقي بهذه المرأة في أي وقت".
لقد تكوّن لدي ذلك الإحساس بالمدهش، بالخدر الذي يسبّبه التنويم، بالذهول الذي يشعره المرء عندما يواجه كائنات استثنائية مثل: الزرافة أو الفيل أو شجرة استوائية.. هذا الإحساس اعتراني ثانية، بعد عدة سنوات، لما رأيتها تأتي صوبي في حديقة فندق دي لا فيل، يسبقها و يتبعها و يحيط بها من الجانبين ثلاثة أو أربعة رجال قصار القامة، زوج، وكلاء أعمال.. و هؤلاء تلاشوا مثل ظلال حول مصدر مطوّق بهالة من ضوء.
أرادت أنيتا أن تعرف تفاصيل السيناريو، و ما إذا الشخصية التي ستمثلها طيبة، و من هم الممثلون المشاركون.. كانت تطرح الأسئلة، و هي تحتسي كأسا من الكوكتيل، بصوت طفولي مبحوح و الذي يجعلها مغوية بشكل غامر. وقتها بدا لي أني أكتشف الواقع العذري للأشياء، للعناصر، و في خدر تام قلت لنفسي: "آه، ها هي شحمة الأذن.. ها هي اللثّة.. ها هي البشرة الإنسانية".
في تلك الأمسية، ذهبت لرؤية مارشيلو ماستروياني الذي أصغي إليّ منزعجا بعض الشيء لكن دون أن يعلن ذلك، بل يستحثني بكلمات قليلة، متوترة إلى حد ما، مثل: "استمر.. حقا؟.. لكن.. حسنا.." ثم يختتم الحديث قائلا بنبرة تتسم بالكياسة و اللطف، رافعا حاجب العين مثل كلارك جيبل: "لنذهب و نر هذه السيدة".
أنيتا، بخبرتها العميقة مع الرجال، عندما قدموا لها مارشيلو كي يتعرّفا على بعض،مدّت له يدها و هي تنظر في شرود إلى جهة ما، و لم تنبس له بكلمة واحدة طوال السهرة. في ما بعد، و بينما كان مارشيلو يناقش مسألة ما، تطرّق إلى أنيتا إيكبرغ و قال بأنها ليست ذات أهمية إلى هذا الحد، بل أنها ذكّرته بجندي ألماني حاول ذات مرّة الفرار من الشرطة العسكرية بالاختباء في شاحنة. لقد شعر مارشيلو بالغيظ و الانزعاج من ترفـّع أنيتا عليه و تجاهلها له.

* فيلمك "الحياة الحلوة" يظل أحد مفاتيح ثقافة و خيال القرن العشرين.. بعد أكثر من عشرين عاما، كيف تنظر إليه اليوم؟ إلى أي مدى كنت مدركا آنذاك لعناصره السوسيولوجية؟
-  بانتظام كنت أضلل الأصدقاء و الصحفيين بالقول أن روما التي صورتها في "الحياة الحلوة" هي مدينة باطنية، و أن عنوان الفيلم ليس له أي غاية أخلاقية أو هجائية. العنوان يعني ببساطة أنه بالرغم من كل شيء فإن للحياة عذوبتها و حلاوتها العميقة التي لا يمكن إنكارها.
أتفق تماما مع أولئك الذين يؤكدون بأن المؤلف آخر من يستطيع التحدث عن عمله بدراية تامة. و أنا لا أريد أن أبدو مثل شخص يميل، عبر النزوع الاستعراضي أو التغنّج، إلى التقليل من شأن ما فعله، لكن لم تكن لدي مطلقا أية نيّة محددة لأن أشجب، أنقد، أجلد، أو أهجو. الاعتراض و الاحتجاج و الغضب.. حالات لا أطيقها. أنا لا أتهم أحدا. المشهد الذي يصور الشخصيات البارزة و الشهيرة في المجتمع؟ لقد أضفت هذا المشهد أثناء إعادة تصوير اللقطات. استوحيت ذلك من القصص التي رواها لي برونيلو روندي، و هو الضيف الدائم على الحفلات المقامة في بيوت الأرستقراطيين في روما.
طقوس العربدة في المشاهد الختامية؟ لقد ظننت أن بيير باولو بازوليني  خبير في هذه الأمور، لذا دعوته ذات ليلة على العشاء، و عندما سألته، اتضح أنه لا يعرف شيئا عن طقوس العربدة عند الفئات البورجوازية و لم يشارك قط في أية حفلة منها، كما لا يعرف أحدا بإمكانه أن يساعدني.
هكذا شرعت في تصوير المشهد دون أن تتوفر لدي أية فكرة عنها. لقد عوّلت على الممثلين، واضعا إياهم في مواقف غير مقنعة من الفسوق و الانغماس في الملذات. و كانت تعمل معي مساعدة هولندية، شابة جميلة، لا تفارقني بنظراتها المليئة بالرجاء اليقظ، منتظرة في استثارة أن تراني أصور عملا شائنا و فاضحا. بعد ساعتين من التصوير سمعتها تهمس في خيبة أمل: "فلليني يرغب أن ينفذ مشهداً إباحياً و لا يعرف كيف يفعل ذلك".

* لكن فيلم "الحياة الحلوة" هو أكثر من ذلك، إنه يعيّن تخوم مرحلة في الحياة الإيطالية، و قد أصبح رمزها. الفيلم أثار الكثير من المناقشات و المناظرات و الجدال.. كما أحدث فضيحة...
- أدرك أن فيلم "الحياة الحلوة" يشكّل ظاهرة تجاوزت الفيلم نفسه، ليس فقط وراء نطاق منظر الأعراف و العادات التي عكسها الفيلم، بل أيضا بسبب جدّته: كان أول فيلم إيطالي تستغرق مدة عرضه ثلاث ساعات و ثلاثين دقيقة.. حتى أصدقائي طلبوا مني اختصاره. و كان عليّ أن أدافع عنه بكل ما أملك من قوة. لقد حققته بالطريقة التي بها أحقق كل أفلامي.. جزئيا لكي أتخلص منه، و على نحو خاص، بدافع الرغبة الملحة و الوقحة في سرد القصص.
يبدو لي أن العامل الملهم للفيلم، و تشكيل صوره، نابع من أسلوب الحياة المعروض في المجلات المصورة آنذاك.. مشاهد حمقاء بلا معنى تمثـّل الحياة الأرستقراطية و الفاشية. كانت المجلات نصور تلك المشاهد و تمجّدها على صفحاتها. كانت –المجلات- المرآة المضطربة لمجتمع، على نحو متواصل، يمجّد نفسه، يستعرض نفسه، يطري نفسه في زهو. إنه يمثـّل إيطاليا الرجعية في القرن السابع عشر، و قد استمتعت بالسخرية منه.
لكن كيف بإمكاني أن أشرح لتلك السيدة العجوز الضئيلة، المرتدية ثوبا أسود و قبعة من القش مزيّنة بالأشرطة. بعد شهرين من عرض الفيلم، انفجرت الفضيحة. جريدة أوبزرفاتور رومانو كانت تنشر يوميا مقالات محمومة و عنيفة ضد الفيلم و صانعه، مطالبة بضرورة سحب موافقة الرقابة على عرض الفيلم، و حرق النسخ السالبة، و مصادرة جواز سفري. ماذا كان يمكن أن أقول لتلك السيدة العجوز الضئيلة التي قفزت ذات يوم من سيارتها المرسيدس الفاخرة، رافضة أن يساعدها سائقها، و انطلقت مسرعة عبر الميدان لتندفع نحوي و تجذب ربطة عنقي، صائحة في وجهي بغضب عارم: "كان ينبغي أن تربط صخرة حول عنقك و تغرق نفسك في قاع البحر بدلا من أن تثير فضيحة كهذه".
و بمساعدة السائق استطعت أن أعيدها إلى سيارتها، مقدماً لها اعتذاري، مع أني في الحقيقة شعرت بضيق و انزعاج يماثل ذلك الذي شعرت به بينما كنت أتمشى وحيدا في بادوا ظهيرة أحد أيام أغسطس و شاهدت على باب كنيسة ملصقاً هائلا بحاشية سوداء مع كتابة: "لنصلي من أجل تخليص روح فدريكو فلليني.. الخاطئ جهارا".

* لمواجهة واقع حياتنا، لفهم لحظتنا التاريخية.. هذا يُعد –بوجه عام- واجباً أخلاقيا..هل هو كذلك بالنسبة لك؟ ما الذي تراه في العالم الذي نعيش فيه؟
-  أنا لا أعوّل على الآراء.. أرفضها على الفور. دائما يبدو لي أنها مهمة غير مجدية، ميئوس منها، تقديم تصورات سياسية مبنية على أحداث و تشخيصها. أنا لا أملك أدوات قياسية و لا الحماسة لامتلاك ذلك. أنا مدرك أن موقفي هو موطن ضعف طفولي، هو أحد عيوبي، لكنني لا أرى نفسي ممتلكاً النضج الفكري، أو الموضوعية، أو الحدس  الملفت و الضروري لفهم ما يوجّه المجتمع و بواسطة أية متاهات مبهمة وصل هذا المجتمع إلى طرق مسدودة غير نافدة. لا أعتقد أن العالم موجّه بواسطة دماغ خارق نبوئي و غامض. أخشى أن العالم ينساق و ينجرف فحسب. ربما ذات مرّة كانت هناك خطة و التي صارت منسية منذ ذلك الحين، مثلما حدث مع خطة الكنيسة لتخليص الجنس البشري.
في البدء كانت الكلمة حتماً، لكن منذ ذلك الحين تم تركيب شبكة من الحرّاس و الشعائر التي جعلتنا ننسى ذلك. متاهة الطقوس وحدها هي التي بقيت، دون أن نعود نتذكـّر المدخل و المخرج أو حتى كيف نتحرك بداخلها. ربما علينا فقط أن نتحرك، بطريقة أو بأخرى، بحيث نحوّل ألمنا المبرح إلى غذاء لنا و للآخرين.. هذا يعلل فتنة روايات كافكا و بورخيس.
أولئك الذين ليسوا مثلي، الذين ليس لديهم نظرة علمية للأشياء، و لا يقيسون التقدّم بلغة المنطق، يكرّسون أنفسهم تقريبا للأحلام السارة أو لعقد الذنب القاتمة و التي تكشف، خلال الحياة اليومية، كما نعتقد، الإشعاع المبشّر به في رؤيا القديس يوحنا أو في نبوءات نوستراداموس.
الإغواء الأقوى هو أن تقول بأن المستقبل قد سبق أن انقضى. ربما لأنني قرأت الكثير من قصص الخيال العلمي. لكن أنا أيضاً شاركت أحياناً في العدوان الأحمق و تقاسمت الأنانية البغيضة، التي تتفشى في الجنس البشري أثناء تدميره للموارد الطبيعية في كوكبنا. المشهد فاجع و كوارثي، لكنني أقبله من وجهات نظر مختلفة، لأنني –كمخرج سينمائي- أجده مغريا، و كذلك بسبب المضايقات المستمرة من قِبل الكاثوليكية التي تحملناها لمدة 2000 سنة. علاوة على ذلك، فإن تقديم مبرر واه لعملية التقدم هو أمر غير كاف.. إنها مسألة تعصب و أنانية. هناك رغبة في ركوب سفينة نوح أخرى و السفر بها عبر مركز الكارثة مع عدد ممن تم انتخابهم من البشر و الحيوانات.

* لكن، في نظرك، ما هي مسؤولياتك؟
-  المسؤولية الوحيدة التي أشعرها هي أن أتجنب " الاقتراب أكثر مما ينبغي"، أن أتجنب الحميمية، و التي هي نتيجة مباشرة للغباء و الجهل. الاقتراب حالة إيطالية نموذجية، موقف سيكولوجي كنا دائما نرعاه و نستمتع برعايته. نحن دوماً نفترض أنه مورد، ملاذ، شيء في الجينات يحسدنا عليه الآخرون. لكنه تقريبا ليس غير استسلام مثير لمزيج من الشفقة و السخرية، من أجل البقاء على قيد الحياة فحسب.. ذلك كل شيء. أشعر بمسؤولية تفادي الخداع و التضليل، أن لا أكون قانعا بما عندي. أحتاج أن أشهد على التعقيدات التي أجدها بواسطة التطبيق الصارم لتلك الأداة التعبيرية التي تحت تصرفي. لا يجب أبدا مجرد الاقتراب أكثر مما ينبغي. و لا يجب أن ننسى بأن التعبير الفني أيضا له جانب هزلي فيما يقترح رؤية للأشياء، فيما يشاطر الآخرين لحظة طيبة أو سيئة، فيما يرحّب بالخيال داخل اللعبة.
في وقت مثقل بالالتباس و الخوف، رفع أعيننا عن الأعماق، عن العملي و اليومي، يجعلنا نشعر بالذنب من استمتاعنا بالرفاهية أو الانحراف. عوضاً عن إيجاد الإحساس بالحرية، ثمة من يجعلنا نشعر أن حتى استخدام الوقت الحر لابد أن يكون إلزاميا.. بتلك الطريقة، يصبح وقتاً خاوياً لا يتصل أبدا بذات المرء و لا بالحياة.
نحن لدينا مساحة تزداد صغرا للتأمل الجمالي، المفهوم بالمعنى الإغريقي كنزوع إلى حب الجمال. الجمال يبدو أقل تضليلا و إغواءً لو بدأنا في الاعتقاد بأن الجميل هو كل ما يستدعي شعوراً مستقلاً عن القوانين الراسخة. كيفما كان بلوغنا إليه، فإن المجال العاطفي يحرر طاقة هي دائما إيجابية، سواء أكانت من وجهة نظر أخلاقية أم جمالية.

* ما الأشياء الأخرى التي تحرّكك و تثير مشاعرك بعمق؟
-  البراءة. حالاً أستسلم لأي شخص بريء و أحاكم نفسي بصرامة. الأطفال، الحيوانات، الطريقة التي بها تنظر إليك بعض الكلاب. يزعجني الاحتشام المفرط الذي أراه أحيانا في رغبات أناس متواضعين.
الجمال يحركـّني أيضا: نظرات عجلى من نساء جميلات على نحو فاتن و اللواتي يملأن الجو من حولهن بضوء خاص/ مناظر مثيرة للمشاعر/ تعبير إبداعي: الكاتب أو الرسام الذي ينجح –على الورق أو على الكانفاس- في أسر الإحساس بحالات العالم، الرؤيا التي سوف تدوم إلى الأبد، تحرّك مشاعري في انفعال عميق.
من ناحية أخرى، الطبيعة تجعلني محايدا، لا مباليا، و فاتر الهمّة. أعرف أن ذلك شاذ و مرَضي، لكنني لا أستطيع أن أعلل هذا العيب و النقيصة فيّ. أنا في الحقيقة لا أرى الطبيعة و لا أختبرها إلا كذكريات: الغابة التي كنت أراها في طفولتي، البحر، الغسق. لكن الريف الجميل اليوم، الغروب، الجلال البدائي للجبال، صمت الثلج المتساقط.. كل هذه الأشياء لا تحركّني إلا إذا استطعت أن أعيد إنتاجها في الأستوديو، حين أصهرها معا بالحرير و الجيلاتين.

* ما الأشياء التي تثير فيك الإحساس بالخجل؟
-  الحماقات التي أتفوّه بها أثناء المقابلات الصحفية، الأحاديث الحميمة، الثرثرة العقيمة عندما لا يُطلب مني أن أتكلم، الصمت الذي استغرق فيه حين يتعيّن علي أن أتكلم. أخجل عندما أكون مبهما، متكيّفا، طائشا.
أحيانا أخجل قليلا عندما لا أكون واثقاً من أي شيء. كل شخص يدّعي، بطريقة ملطـّفة و بريئة، أنه غير واثق، يجعلني أشعر بشيء من القلق و الارتباك و الالتباس و التنافر.
أنا أشبه بسائح فضولي لكنه ضجر، أشبه بعابر سبيل. شخص يوجد هناك و لا يوجد.
من يستطيع أن يكون غاضبا على نحو انفعالي و متقد، الذي يراوغ و ينقلب، الذي يحلف باقتناع، الذي يكره و يحب بتهوّر.. أنظر إليه بمزيج من الانشداه و الإعجاب.
لا أذكر أين قرأت بأن النموذج السيكولوجي المحدد كفنان يتذبذب باستمرار بين شعورين بداخله: شعور مشع بالقوة و الأهمية، بالرضا شبه السماوي. و الشعور بالوهن و الإحباط، الذنب، اللوم، العقاب.
هذان الشكلان المتباينان من الشعور هما وجهان متعارضان من حياة الفنان.. يختبرهما بوعي تقريبا. أحيانا يراها كلعنة، و أحيانا كحالة وجود مُرضية و سارة على نحو استثنائي.
الكنيسة الكاثوليكية، بمعرفتها العميقة للنفس البشرية، قد تعاملت –على نحو ممكن تبريره- مع الفنانين باعتبارهم أطفالا: هي من جهة تحفـّز إبداعاتهم بالهدايا و الجوائز، لكي يكرّسوا مواهبهم لتمجيد قدّيسيها و شهدائها و أساطيرها، لكن في الوقت نفسه تعزّز الإحساس بالإثم الذي يجب على الفنان أن يشعره تجاه العمل الذي لا يقدم فائدة مباشرة، و تجاه الحياة التي تـُعاش خارج القوانين.. حياة مغزوّة من قِبل قوى شريرة خفية تقوده إلى ارتكاب الخطيئة ضد النظام و الأعراف التقليدية و الوصايا الشرعية.

* تحدثت عن الهدايا و الجوائز التي تقدمها الكنيسة إلى الفنانين.. أين مكان المال في حياتك؟
-  لدي فكرة غامضة و غائمة عن القيمة الحقيقية للمال، و علاقته بقيمة الأشياء. أشعر بلا مبالاة و عدم اكتراث بالأرقام الكبيرة (بالتالي فإني أنفق المال بحماقة و بلا حذر). من جهة أخرى، ردود فعلي تجاه المبالغ الصغيرة من المال تبدو سخيفة و لا معقولة، إذ أني أدفع هذه النقود بعد تردد و ممانعة كتلك التي يشعرها من يتعرّض للسرقة.
أظن أن نظرتي غير الواقعية للمال لها مشاعر متجذرة عميقاً في أجزاء من فترة شبابي المبكـّرة عندما وصلت بشق النفس إلى روما أثناء الحرب، مقتصداً في الإنفاق حتى لا أتخطى حدود دخلي. الحياة آنذاك تجربة درامية. في ذلك الوضع كانت قيمة المال مضخّمة جدا: ألف ليرة تعني سلاماً و هدوءا، تعني جائزة نوبل.
في الأيام المبكرة تلك كابدت مرحلة بوهيمية حيث التشرد و الصعلكة، لكنها كانت فترة قصيرة جدا استثمرتها في قصص لاحقة مضفياً عليها لمسات رومانسية. وجبات العشاء كانت تتألف من قهوة و قشدة، و الفنادق شهدت هروبي بعد إخراج الحقيبة من النافذة.
أنا أكسب المال على نحو سريع و بسهولة نسبية. لست غنياً و لا أعرف كيف أخطط لكي أصبح ثرياً، لأن ذلك لا يثير اهتمامي. و ليس لدي ميول تملكـيّة: أمر مزعج بالنسبة لي أن أمتلك أشياء. لا أحب اقتناء و حيازة أي شيء. سريعا أتخلـّص من الأقلام، ساعات اليد.. حتى خزانة الثياب المليئة تجعلني أرغب في رميها كلها خارجا.
أنا لا أعبث، لا آخذ إجازات، و لا أفهم شيئا عن القوارب. أما السيارات، فقد سبق أن قلت لك بأنها لم تعد تروق لي. لا رغبة لي في التملك، التجميع، الادخار، التخزين. لحسن الحظ، ضمن حدود متواضعة، مثل أغلب النساء، زوجتي جولييتا تحب أن تقتني الأشياء التي تكفل أسلوب حياة سخية إلى حد ما ، مع أنها أكثر حذرا مني بعض الشيء.
أحيانا نمرّ بفترات صعبة و قارصة، فجأة أحط من قدر نفسي بحرمان عبثي. لمدة شهر كامل، على سبيل المثال، أستقل الحافلة بعد أن كنت استقل عشرين سيارة أجرة في اليوم. لا أعرف كيف يستولي علي هذا التوق إلى الحافلات و عربات الترام: رغبة في العودة إلى زمن مضى كنت فيه شاباً، أو ضرب من الأمنية اللاواعية للاحتكاك بالناس.. ربما هي حاجة لإعادة اختراع مرحلة بإعادة فعل الأشياء التي فعلتها في 1937.. واقف عند محطة الترام مع ربة منزل تحمل كيس الخضار: لا بد أنه نوع من التفاعل تجاه شيخوخة تتحرك دونما شفقة إلى الأمام.

* لنقم بانعطاف وجيز قبل العودة إلى الأفلام..حين لا تعمل في فيلم، كيف تقضي يومك؟ هل تستيقظ باكرا؟
-  نعم، و دون حاجة لأن يوقظني أحد. لدي ساعة ذهنية أستطيع بها أن أضبط الوقت سلفاً. إني أصحو فجأة و حالاً.. مثل إضاءة مصباح. من عادتي أن أنام قليلا، حتى عندما كنت صغيرا. حين أصحو أحاول أن أتذكر شظايا الحلم الذي نسيت أن أدوّنه في الليل، إذ وقتذاك –في الليل- أكون كسولا، نصف نائم، و واثقاً من أنني سوف أتذكر الحلم في الصباح.. لكن هذا لا يحدث.
بعد ذلك أتجول في أنحاء البيت الصامت الخالي، فاتحاً الأبواب، مضيئاً الأنوار، أجلس على كرسي أو أريكة أو خلف طاولة مثل هرّ يريد أن يجرّب كل موضع.
أدندن، أتثاءب، أفتح و أغلق عددا كبيرا من الأدراج مكتشفا الكثير من الأشياء التي تخص البيت و التي كنت أجهل وجودها أو نسيتها. أخيرا أفتح النوافذ، و هو الشيء النافع الوحيد الذي استطيع أن أفعله في البيت، إذ أني أفتقر تماما إلى البراعة اليدوية. أجهل كليا إشعال الغاز. حتى جهاز التلفزيون، و يخجلني قول هذا، يصبح تشغيله مغامرة أجهل نتائجها.
في الحمّام، و أمام المرآة، أتحرك إلى الأمام و إلى الخلف ثلاث أو أربع مرات مراقباً نفسي بطرف عيني، ثم أقرر النظر إلى نفسي ممتحناً التغيّرات و التحولات: أضرار جديدة؟ تخريب و انهيارات؟ و تلك الهيئة.. من يثق بشخص له هذا الوجه؟!

* هل تجيد طهي البيض؟
-  لا, لا صبر لي و لا أحتمل ذلك، مع أن عملي كمخرج يقتضي أن أتحلى بصبر قديس. بوسعي أن أنفق ساعات طويلة، أحيانا فترة ما بعد الظهيرة كلها، في إعداد و تنسيق الإضاءة الملائمة. لكنني لا أستطيع أن احتمل الانتظار دقائق معدودة لتسخين كوب من القهوة.
ثمة تناقض آخر: أعرف أن لدي قدرات يدوية معينة.. أصمّم، ألهو بالصلصال،أصنع نماذج، و في الموقع أشغل نفسي بكل شيء من تعديل اللوحات إلى تنسيق الباروكات و مروراً بنقل قطع الأثاث.. باختصار، أعرف كيف استخدم يديّ جيداً. أما في مطبخ بيتي فكل فعل أمارسه يفضي إلى كارثة، عندها أتحوّل إلى شخصية خارجة من مشهد هزلي في فيلم قديم: أطباق تنكسر، انزلاقات، تعثـّرات، جروح، حروق.
ذات مرّة في فريجيني اضطررت أن أطبخ لحوالي خمسين قطة جائعة كانت تموء على نحو مهدّد في حديقة بيتنا. كان الوقت شتاءً، و الفيللا التي نسكنها كانت الوحيدة المفتوحة وقتذاك. أعددت لها مينيسترون هائل (حساء كثيف من خضر و معكرونة إلخ)، مفرغاً محتويات الثلاجة كلها، حتى إنني أضفت سوائل و تونيك و ما شابه.. و اعتقد أن الوجبة كانت شهية و نالت استحسان القطط.

* صار شائعاً الآن الحديث عن الاهتمام بالبدن.. ماذا عنك؟
-  على نحو غريزي أميل إلى الاعتناء ببدني و أن أحافظ على صحته من أجل أن أعمل دون انقطاع. المرض عقبة غير متوقعة و مخيفة، مثل إشعار الضرائب، أو إلغاء موعد إقلاع الطائرة، أو الالتقاء بصديق قديم من أيام الدراسة لا تتذكّره على الإطلاق لكنه يتذكرك جيدا.
عند المائدة أنا مقتصد، معتدل، لا أسرف في الأكل، لكنني لم أهتم بتنمية الجسم و بنائه، و أنا نادم على ذلك لأنني أحب أن أكون قوياً و أتحدى القوي الذي يهدّد الضعيف، مثلما يفعل البطل في الرسوم الهزلية.
عوضا عن ذلك، منذ الطفولة كنت أعطي الآخرين انطباعا بأني مصاب بمرض غير خطير –ربما هو إرث كاثوليكي آخر- لكي أبدو في صورة الضحية، المضطهد، و لكي أتذمر من الظلم الذي يعانيه المرء.

* هل ترتاد صالونات التجميل؟
-  هل أنت تفعل ذلك؟.. عندما أرى آثار الصلع، و بقع اليرقان على الجلد، و التجاعيد، و الأورام، فإني أفكّر في الاتصال يوماً بصديق عزيز يقيم في ميلانو كان قد أخبرني عن عيادة في موسكو تدخلها في السبعين من العمر و لا تخرج منها إلا و قد كبرت عاماً، ذلك لأن العلاج يستغرق عاما واحدا. لكنك تغادر المصح و أنت تتمتع بصحة جيدة و تبدو في التاسعة و الستين من العمر. هذا ما أخبرني به ذاك الصديق الذي يصغرني في السن لكن الشيب يملأ شعره، و لم يعد يتذكر بدقة مكان وجود هذه العيادة.

* هل يمكنك أن تخبرنا بدقة عما تحبه و ما لا تحبه؟
-  إحدى المجلات، و أظن أنها "ليسبريسو"، وجهت إليّ قبل مدّة سؤالا مماثلا، و قدمت لهم قائمة  بما أحب و ما لا أحب، و هي تقريباً مشابهة لما سأقدمه لك هنا..
لا أحب:
الحفلات، المهرجانات،المقابلات، الموائد المستديرة، طلبات التوقيع على الأوتوغراف، السفر، الوقوف في الطابور، الجبال، المراكب، جهاز الراديو و هو دائر، الموسيقى في المطاعم، الموسيقى عموما (عندما يتعين علي أن أتحمّلها)، النكت، المشجعين في مباريات كرة القدم، الباليه، ملجأ الأيتام، الجبن الأزرق الإيطالي، الجوائز، المحار، الاستماع إلى الآخرين و هم يتحدثون عن بريخت مراراً و تكراراً، وجبات العشاء الرسمية، الخبز المحمّص، الخطب، تلقي الدعوات، عندما يطلبون مني تقديم النصائح، همفري بوجارت، الألغاز، رينيه ماجريت، دعوات حضور العروض الفنية، البروفات المسرحية، آلات الكاتبة الفونوغرافية، الشاي، البابونج، الكافيار، العرض المسبق لأي شيء، الدعوة للمثول أمام القضاء، الأفلام المعدّة للشباب، الأسئلة، بيرانديللو، الكعكة المحلاة، الأرياف الجميلة، الاشتراكات السنوية في المجلات، الأفلام السياسية، الأفلام السيكولوجية، الأفلام التاريخية، الالتزام و الإعفاء من الالتزام، صلصة الطماطم.
أحب:
الفصول، ماتيس، المطارات، الرز، أشجار السنديان، روسيني، الزهور، الإخوة ماركس، النمور، أن أحدّد المواعيد و بينما أنتظر أتمنى أن يتغيّب الشخص عن الحضور (حتى لو كانت امرأة جميلة)، توتو (الممثل)، أن لا أكون موجودا هناك، بيرو ديلا فرانشسكا، كل ما هو جميل في المرأة الجميلة، هوميروس، جوان بلوندل (ممثلة)، شهر سبتمبر، الحلوى البيضاء المعجونة بالفستق، الكرز، المؤخرات الجميلة على الدراجات الهوائية، القطارات، الوجبات الخفيفة في القطارات، أريوسطو (الشاعر و المسرحي)، الكلاب الصغيرة ذات الشعر الحريري، الكلاب عموما، رائحة الأرض الرطبة، رائحة القش، أشجار السرو، البحر في الشتاء، الأشخاص الذين يتحدثون قليلا، جيمس بوند، رقصة الخطوة، الأماكن غير الآهلة، المطاعم المهجورة، الكنائس الخالية، الصمت، أوستيا، رنين الأجراس، أن أجد نفسي وحيدا في أوربينو بعد ظهيرة يوم أحد، الريحان، بولونيا، فينيسيا، كل مناطق إيطاليا، ريموند شاندلر، النسوة العاملات في المباني كبوّابات، جورج سيمنون، تشارلز ديكنز، كافكا، جاك لندن، الكستناء المشوي، مترو الأنفاق، ركوب الحافلة، الأسرّة المرتفعة الكبيرة، فيينا (التي لم أزرها بعد)، الاستيقاظ من النوم، الذهاب إلى النوم، محلات البطاقات البريدية، أقلام رصاص فابر2، حفلة منوعات (فودفيل) قبل عرض الفيلم، الأسرار، الفجر، الليل، الأرواح، ويمبي، لوريل و هاردي، لانا تيرنر، ليدا جلوريا، جريتا جوندا، الممثلة التي تؤدي دور فتاة مستهترة في المسرحيات الهزلية، راقصات الباليه.








ملح الهذيان الذي يحرّر الرؤى

* بالعودة إلى أفلامك، وصلنا إلى "إغواء الدكتور أنطونيو"، و هو جزء من فيلم "بوكاشيو 70"، الذي كتبته كهجاء للرقابة التي مورست ضد "الحياة الحلوة".. كما أنه أول أفلامك الملوّنة.. لماذا اخترت الألوان؟ و متى تفضّل الألوان على الأسود و الأبيض؟
-  ليس هناك قانون يفرض عليك استخدام الألوان بدلاً من الأسود و الأبيض، أو العكس. في الفيلم الرديء، الألوان تكون مفضلة دائما، خصوصا حين ترى كم هو عليل و سخيف الاستخدام الواقعي للألوان و إلى أي مدى يمكن أن يخنق ملكة الخيال. كلما اقتربت من محاكاة الواقع، انحدرت نحو التزييف. في حالة كهذه يقدّم الأسود و الأبيض فرصة عظيمة للخيال.
متى تختار الألوان؟
عندما يحتاجها فيلمك، عندما تأتي صورك الأولى بالألوان، عندما تصبح الألوان مادة تعبيرية تماما، تصبح القصة و البناء و الجو العام للفيلم.. تصبح الوسيلة التي بها تترجم و تسرد كل ذلك: كما في الحلم حيث اللون مفهوم و شعور، كما في الرسم.
كم هو أحمق و أبله السؤال الذي يطرحه الكثيرون: "هل تحلم بالأسود و الأبيض أم بالألوان؟".. إنه أشبه بالتساؤل عما إذا كانت هناك أصوات في الغناء، في حين يعلم الجميع بأن الصوت وسيلة للتعبير عن الأغنية. عندما تحلم قد تر مرجاً أحمر، حصاناً أخضر، سماءً صفراء. هذه ليست أشياء سخيفة، إنها صور جوهرية بالنسبة للإحساس الذي يخلقها.
المشكلة، إن كانت هناك مشكلة، تكمن في تقنية ترجمة الألوان. في الصور السينمائية ليس ممكناً تحديد الألوان بنفس الدقة في كل الفوارق غير المدركة في النسق اللوني، مثلما يستطيع المرء، على سبيل المثال، في صور زيتية تمتاز بإضاءة مركـّزة، ثابتة، غير متغيّرة. العدوى، حرفياً، تفسد ألوان المشهد. التبادل الرشيق و المرن يساعد على التحطيم المستمر للتخوم.
أظن مع ذلك، علاوة على الإحساس بالعجز الذي غالباً ما يستحوذ عليك حين تلقى تلك العدوى غير المتوقعة، و يجعلك تنتحب لأجل الأسود و الأبيض الجميل الأثير، فإن الألوان تثري الفيلم ببُعد جديد، بُعد يتصل برمزية الحلم، الخاصية المترابطة بعمق مع الفيلم.

* و الإضاءة؟ ماذا عن الإضاءة؟
-  الإضاءة هي الجوهر الحقيقي للفيلم. في الفيلم –و قد سبق أن قلت هذا- الإضاءة هي أيديولوجيا، شعور، لون، نغمة، عمق، جو، سرد قصة. الإضاءة هي كل ما يضيف، يحذف، يختزل، يكثـّف، يثري، يخلق فوارق دقيقة، يؤكد، يلمّح.
الإضاءة تجعل المتخيّل أو الحلم قابلا للتصديق و مقبولا. من جانب آخر، تجعل الواقع خياليا و وهميا، تحوّل الرتابة اليومية إلى سراب. إنها تضيف شفافية، تقترح توترات و ذبذبات.
الإضاءة تحفر الوجه و تكتشفه أو تصقله. تخلق تعبيرا حيث لا يوجد أي تعبير. تهب البلادة مع الذكاء، و الشيء التافه و غير المشوّق تجعله يبدو مغويا.
الإضاءة ترسم محيط الجسد و تحدّد أناقته. تبجّل الريف الذي ربما لا يكون ذا قيمة بذاته. و تضفي سحراً على الخلفية.
الإضاءة هي المؤثر الخاص البارز، ضرب من الماكياج، البراعة في الخداع، الافتتان، مختبر الكيميائي، آلية العجائب.
الإضاءة هي ملح الهذيان الذي، مشتعلاً، يحرّر الرؤى.
كل من يحيا في الفيلم يحيا بواسطة الإضاءة. كل تصميم أوّلي للمناظر، أو تصميم فج و غير مصقول، يمكن بواسطة الإضاءة أن يكشف عن منظورات غير متوقعة، أو يغمس القصة في جو حاضن و مهدئ. بمجرد استبدال المصدر الضوئي القوي بالظلال، فإن تغيّر الإضاءة يمكن أن يبدد الإحساس بالألم و يحوّل كل شيء إلى حالة من الصفاء، الحميمية، الطمأنينة.
الأفلام مكتوبة بالإضاءة، تعبّر عن أسلوبها بواسطة الإضاءة.

* فيلمك "ثمانية و نصف" يعتبر من أفضل أعمالك، و قد حاول الكثيرون محاكاته إلى حد أنه أصبح نوعاً سينمائيا مثل الويسترن، الخيال العلمي، التاريخي، البوليسي، الحربي.. في مختلف أنحاء العالم كان هناك، و على الأرجح سيكون هناك، مخرجون يرغبون في تحقيق فيلم مشابه له يعبّر عن رؤيتهم الخاصة للحياة و للفن معا..
-  أما من جهتي فلم أكن راغباً في تحقيقه. قبل ليلة من تصويره كنت يائساً و مشوّشاً. جلست في مكتبي بالأستوديو و كتبت رسالة إلى ريزولي العجوز، منتج الفيلم، بدأتها على هذا النحو: " عزيزي أنجلينو، أدرك جيداً أن ما سوف أخبرك به الآن قد ينهي، على نحو يتعذّر إصلاحه أو ترميمه، علاقتنا المهنية. و حتى صداقتنا ستكون مهدّدة و معرّضة لخطر التفكك. كان ينبغي أن أكتب هذه الرسالة قبل ثلاثة أشهر، لكن حتى ليلة أمس، كنت أرجو أن...."
مع أن الاتفاق قد تم مع الممثلين الأساسيين، و شيدت الديكورات، حتى أنني من المكتب الذي أجلس فيه و أكتب، تصلني أصوات مطارق النجارين و هم يعملون في تركيب الديكورات، إلا أنني أردت التخلي عنه و تركه يتبدد في الهواء، أن أبتعد عنه.. ذلك لأنني لم أعد أتذكر ما كنت أرغب في فعله، في تحقيقه.
الإحساس، الروح، النكهة، الجوهر، الصورة الظلية، الوميض.. كل ما أغواني و سحرني كان قد اختفى، تلاشى، و لم أعد أستطيع العثور عليه. خلال الأسابيع الأخيرة حاولت، بتوق شديد، أن أستعيد مجرى نشوء ذلك الفيلم الذي لم أستطع حتى أن أحسم عنوانه. كنت قد اخترت له عنواناً مؤقتاً: ثمانية و نصف.. إشارة إلى عدد الأفلام التي حققتها. لكن كيف ولدت الفكرة؟ ماذا كان الاتصال الأول، الاحتكاك الأول، الشعور السبقي الأول، بذلك الفيلم؟
رغبة غامضة، مشوّشة، لخلق بورتريه لرجل في يوم معين من حياته، بكل ما يشتمل عليه من وقائع مختلفة، متناقضة، مراوغة.. بكل احتمالات وجوده و مستوياتها. ذلك أشبه بمبنى تتقوّض واجهته كاشفة عن الباطن كله: سلالم، أروقة، حجرات، أدوار علوية، أقبية، أثاث، أبواب، أسطح، أنابيب مياه، زوايا حميمية و سريّة.
الحياة مركـّبة من متاهات متعرّجة، متغيّرة، مائعة، تتصل بالذاكرة، بالأحلام، بالمشاعر، بالتعقيد اليومي المرتبط على نحو لا ينفصم بالذكريات و التخيلات و الأحاسيس و الحوادث التي وقعت منذ زمن طويل و التي تتحد مع تلك التي تحدث الآن. مزيج من النوستالجيا و الشعور السبقي  في وقت رائق لكنه مختلط، حيث لا يعود بطلنا يعرف هويته أو ماضيه أو إلى أين ستمضي حياته.. حياته التي تبدو الآن مجرد نوم يقظ طويل، يخلو من المشاعر.
كنت أتحدث عن هذا، ذات مساء، مع فلايانو فيما كان يقود سيارته نحو البحر في أوستيا. بالتحدث عنه حاولت أن أوضح لنفسي غرض و مغزى الفيلم. فلايانو كان يصغي في هدوء، لم ينطق بكلمة، لم يطرح أي تعليق. كان مفعماً بالارتياب، الاستخفاف، الحذر. و نكوّن لدي انطباع بأنه يعتقد أن الثيمة لا تنتمي إلى الفيلم، و أن ما سردته هو عبارة عن تدفق مفرط  في الادعاء و الغطرسة، و لا يمكن تحقيق أبعاده إلا من خلال الأدب وحده.
توليو بنيللي، الذي إليه حاولت أن أنقل الإحساس بهذا الخيال العابر بعد بضعة أيام، كان أيضا صامتا في حيرة و ربما في شك من إمكانية بناء قصة على باعث غريب و صعب جدا ترجمته إلى حالات و أحداث.
أما برونيلو روندي، بحماسته الفائضة المعهودة، فقد عبّر على الفور عن موافقته بالمشاركة. إنه يمثّل الجمهور النفيس: يحب كل شيء، كل مشروع يثيره، و هو مستعد لأن يسلك أي سبيل و يتعاون في كل اتجاه و في أي شيء.
هكذا بدأنا، نحن الأربعة، في الكتابة على نحو مستقل. قد أقترح ثيمة، صراعا، حالة معينة، و يشرع كلّ من بنيللي و فلايانو و برونيلو في كتابة نسخته أو ترجمته الخاصة للمشهد.
لكنني لم أقرر بعد أي نوع من الرجال نسعى إلى تصويره، و أية مهنة يمارس: محامي؟ مهندس؟ صحفي؟.. يوماً قررت أن أضع بطل فيلمي في منتجع صحي، عندئذ بدأ غرض الفيلم يتسع لاحتمالات أكثر صلابة. كتبنا مشهد الحريم. الليل في الحمامات مع الصديق المنوّم المغناطيسي. البطل الآن لديه زوجة و عشيقة. لكن عندئذ بدأت الحبكة في الانحلال. لم يكن هناك لبّ مركزي منه تنمو القصة، لا بداية و لا نهاية، و لا أقدر أن أتخيّل كيف ينتهي العمل. كل صباح كان بنيللي يسألني عن مهنة بطلنا، و أنا لا أعرف بعد، و لا يبدو لي أن ذلك مهم، رغم شعوري بشيء من التوتر إزاء ذلك.
ذات نهار فكرت أن من العبث الاستمرار في السيناريو. شعرت أنه، لكي أنسجم مع الفيلم، يتعيّن علي أن أباشر في النظر إلى الشخصيات عن قرب، أن أختار الممثلين و أحدد المواقع و أحسم أمورا كثيرة ثم أمضي باحثا عن فيلمي بين الناس و في كل مكان.. في محلات الملابس، في المسارح. كان علي أن أتظاهر بأن الفيلم جاهز و يمكننا الشروع في تصويره خلال شهر.
قررت أن أختار ماستروياني، ساندرا ميلو، و جعلت أنوك إيميه تأتي من باريس. و في غابة بالقرب من روما بدأنا في تشييد المبنى الضخم، و في استوديوهات سكاليرا بنينا مزرعة الجدّة و غرف الفندق. آلية الإنتاج الضخمة كُرست للفيلم و تمت المباشرة بالعمل: مواعيد، عقود عمل، خطط إنتاجية، تقديرات و تخمينات، ديون.
لكني، أنا المعتكف في مكتبي، لم استطع بعد العثور على فيلمي. لم يعد هناك، كان قد مضى بعيدا، و ربما لم يوجد أبدا. و ها نعود إلى حكاية الرسالة التي كنت أكتبها إلى ريزولي، النابعة مباشرة من القلب. كنت في منتصف تلك الرسالة عندما سمعت صوت مينيكوشيو المدوّي، رئيس العمال، يناديني من الفناء طالباً حضوري إلى الموقع للحظة لأن غاسبارينو، و هو ميكانيكي آخر، كان يحتفل بعيد ميلاده و يقدّم كؤوسا من الشمبانيا. هكذا ذهبت إلى حيث ينتظرني الجميع، النجارون و الميكانيكيون و الرسامون، و كل واحد منهم يحمل كأساً في يده. كنا في المطبخ الهائل، قيد الإنشاء، و الذي سيكون نسخة طبق الأصل من المطبخ في منزل جدتي الريفي لكن مضخم بفعل الذاكرة. غاسبارينو، بخوذة البناء على رأسه و المطرقة مشدودة بطوق إلى فخذه، فتح الزجاجة و هو يقول: "سيكون فيلما عظيما يا دكتور. في صحتك..عاش فيلمنا ثمانية و نصف".
فرغت الكؤوس و كل شخص صفق في استحسان، أما أنا فقد انتابني إحساس غامر بالخجل، و شعرت أنني أكثر البشر ضآلة.. الربان الذي هجر بحارته. لم أعد إلى المكتب حيث الرسالة التي لم تكتمل تنتظرني، و عوضا عن ذلك جلست، شاردا و خاويا، على مقعد صغير في الحديقة وسط الحركة النشطة و الدءوبة للعمال و التقنيين و الممثلين العاملين في فيلم آخر.
كنت في موضع مغلق لا منفذ له. كنت المخرج الذي يريد أن يحقق فيلماً لم يعد يتذكـّره. فجأة، في تلك اللحظة، سطعت أمامي الفكرة، و مضيت مباشرة إلى قلب الفيلم. سوف أروي كل ما حدث لي. سوف أحقق فيلما يسرد قصة مخرج لا يعود يعرف أي فيلم يريد أن يصنع.

* لكن هناك أيضاً عناصر أخرى تنضم بصفاء جديد، مثل الأحلام و لغة الأحلام.. كيف تشكـّلت هذه العناصر التي ميّزت الفيلم؟
-  قراءة عدة مؤلفات لكارل يونج، اكتشاف رؤيته للحياة، كان ذلك بالنسبة لي نوعاً من الكشف المبهج، توكيداً استثنائيا و حماسيا غير متوقع لشيء كنت أحدس به إلى حد ما. و أنا مدين بهذا الاكتشاف المبهج، المحفـّز، الآسر إلى طبيب نفساني ألماني يدعى برنهارد.
لا أعلم إن كان التفكير اليونجي قد أثـّر في أفلامي منذ "ثمانية و نصف"، أعرف فقط أن قراءة عدة كتب ليونج قد ساعدتني بلا شك، و شجعت اتصالي بمجالات الخيال الأكثر عمقاً و تحفيزا. كنت دائما أعتقد أن لدي موطن ضعف رئيسي: هو عدم حيازة أفكار عامة بشأن أي شيء، و انعدام القدرة على تنظيم عواطفي و ميولي و رغباتي تجاه نوع genre أو تصنيف. لكن بقراءة يونج شعرت بالتحرر من الإحساس بالذنب و من مركـّب النقص.

* هل تعتقد أن التحليل النفسي، الذي يساعد الإنسان على معرفة ذاته بشكل أفضل، يجعل الفرد أكثر سعادة؟
-  لا أعرف كيف أجيب على هذا السؤال لأنني لا أعرف كيف أحدد السعادة. أعتقد أن من الضروري تدريس التحليل النفسي كمادة أساسية في المنهج الدراسي. إنه علم مهم و أساسي تتوجب دراسته قبل العلوم الأخرى.
يبدو لي أن من بين مغامرات الحياة العديدة، المغامرة الجديرة أكثر بالتبني و الاضطلاع هي تلك الرحلة التي تقحمك في أبعادك الداخلية لكي تستكشف الجزء المجهول من ذاتك. و هل هناك مغامرة أخرى قادرة أن تكون آسرة، مدهشة، و بطولية بنفس الدرجة؟

* يبدو لي أنك تتبنى، على نحو صارم، وجهة نظر يونج.. هل هذا إنكار لدور فرويد؟
-  لا أقدر أن أعطيك إجابة علمية أو نقدية بشأن مفكريْن يتبوءان مكانة رفيعة، و اللذين ساهما في إحياء مظاهر جوهرية من النفس الإنسانية، و أفكارهما تغلغلت في ثقافتنا. إننا نتلقى و نتقاسم أفكارهما بإفراط.
قراءتي لفرويد أقل، لذا لا أستطيع أن أفصح إلا عن انطباعات حذرة و غير مؤكدة. ربما يكون فرويد أكثر موهبة ككاتب من يونج على المستوى الأدبي، لكن صرامته –التي هي موضع إعجاب- تثير لدي القلق و الاضطراب. هو أستاذ يغمرني بكفاءته و مقدرته و يقينه. أما يونج فهو رفيق سفر، أخ أكبر، حكيم، عالم و رائي في آن، و هو يبدو لي أقل اعتدادا بنفسه و باكتشافاته المدهشة. فرويد يريد أن يفسر لنا ما نكونه، يونج يرافقنا إلى بوابة المجهول و يدعنا نرى و نفهم بأنفسنا.
أحب تواضع يونج العلمي في مجابهة لغز الحياة. اهتماماته و أفكاره لا تطرح نفسها كعقيدة أو تعاليم، إنه يقترح فحسب وجهة نظر جديدة، موقفاً مختلفاً يمكن أن يثري و يطور الهوية الشخصية. أفكاره ترشدنا نحو الاتجاه الأكثر إدراكاً و انفتاحاً على الحياة، و توفـّق بيننا و بين الأجزاء النائية، المحيطة، الكابحة، العليلة من ذواتنا. يونج بلا شك هو الأكثر ملاءمة لطبيعتي و حاجاتي، الأكثر دفئاً و صداقة، الأكثر تعضيدا بالنسبة لشخص يؤمن بأنه في حاجة إلى أن يجد نفسه في بُعد الخيال الخلاق. فرويد، بنظرياته، يجعلنا نفكر. يونج، من جهة أخرى، يتيح لنا أن نتخيل، أن نحلم، و أن نتحرك إلى الأمام نحو المتاهة المظلمة من وجودنا، لكي نعي و نفهم الحضور اليقظ و الصائن لهذا الوجود.
من القليل الذي قرأته، أقدر أن أشير إلى الشيء الذي أثـّر فيّ أكثر من غيره:
الرؤى المختلفة لكل من فرويد و يونج بشأن ظاهرة الرمزية. هذه المسألة أثارت اهتمامي لأنني كمخرج سينمائي أستخدم بالضرورة صورا رمزية في أفلامي. الرمز، من منظور يونج، يعبّر عن الحدس على نحو أفضل من أي أسلوب تعبير آخر. أما فرويد فيرى الرمز كبديل لشيء آخر و الذي ينبغي التخلص منه، و من الأفضل التغاضي عنه بدلاً من التعبير عنه. الرمز، إذن، بالنسبة ليونج، وسيلة للتعبير عما لا يمكن التعبير عنه وإن يكن على نحو غامض. أما بالنسبة لفرويد فالرمز هو دائما وسيلة لإخفاء ما هو محظور التعبير عنه.
يونج و فرويد مفكران عظيمان، و لكل منهما طريقته المختلفة في تصوير النفس الإنسانية.. و طريقة يونج تأسرني أكثر.


أي شرّ صعق جيلنا

* بين فيلميك "جولييت و الأرواح" و "توبي داميت" (و هو جزء من فيلم "أرواح الموتى") كان هناك انقطاع لمدة ثلاث سنوات. في "توبي داميت" تراءى لي أني أسمع صوت ناقوس جنائزي..أعلم أنك كنت مريضا جدا و تفكر في مشروعك الذي لم ينفذ أبدا: رحلة ماستورنا..
-  من كان يعرف هوية ذاك الرجل الوارد اسمه في كشك تليفون مدينة ميلانو، الذي دخلته عشوائيا باحثا عن اسمٍ لبطل قصة كنت أنوي تأليفها، و التي حتى ذلك الحين كانت تحمل عنوان "الرحلة".
صديقي دينو بوزاتي، البارع في ابتكار الأسماء الغريبة و الرنّانة في الوقت نفسه، اقترح عشرين اسما و أنا أصغي مستمتعا بطريقته الملفتة في لفظ الأسماء. لكن بعد نصف الساعة، طلبت دليل الهاتف، و منه جاء اسم ماستورنا.
لقد تحدثت عن هذا المشروع كثيرا. مرتان أو ثلاث مرات في السنة يأتي صديق صحفي و يسألني عن هذا المشروع و ما إذا سيتم تنفيذه قريبا، و أنا بثقة تامة كنت أجيبه بنعم.
في الحقيقة عندما أنتهي من تحقيق أي فبلم، يظهر شبح هذا المشروع المضلل و يطالب ببعثه إلى الحياة. و في كل مرّة يحدث شيء ما فيغوص ثانية إلى الأعماق حيث يكمن، كما هو الحال منذ حوالي عشرين سنة.. و من هناك يستمر في إرسال سوائله المدهشة و تياراته الاشعاعية التي غذت كل الأفلام التي حققتها بدلاً منه.
أنا على يقين من أن، بدون "ماستورنا"، ما كان ممكناً تخيّل "ساتيريكون" Satyricon، أو على الأقل، ما كان ممكناً تخيّله بالصورة التي ظهر بها.. كذلك الحال مع: كازانوفا أو "مدينة النساء". بل و حتى "السفينة تبحر" و "بروفة أوركسترا" يدينان بشيء ما إلى "ماستورنا".
الغريب أن القصة، على الرغم من أنها كانت تغذي بسخاء العديد من أفلامي الأخرى، تظل محتفظة ببكارتها، على نحو معجز، في بنائها السردي. هذه القصة لم تفقد البعد و لا الجوهر، و تبقى دائما الأكثر حقيقية من بين كل القصص التي كان بمقدوري تخيلها.
لا أعرف كيف أعلـّل المصير الغريب لهذا "الفيلم". ربما هو ليس فيلما على الإطلاق بل تذكير، حافز، مرشد قصة. ربما يؤدي الوظيفة نفسها التي يؤديها أولئك العمال الذين يسحبون البواخر عابرة الأطلسي خارج الميناء. باختصار، هو شيء وُلد لا ليتحقق بل ليسمح لغيره أن يتحقق.. ضرب من اليورانيوم الخلاق الذي لا ينضب.
ذات مرّة في غرفة انتظار بمطار كوبنهاجن، رأيت حقيبة سفر معدنية ذات حواف منبعجة إلى حد ما. شخص ما وضعها قربي على الأرضية. قرب مقبض الحقيبة كان اسم "ماستورنا" مكتوبا على بطاقة تعيين الهوية. نظرت حولي باحثا عن صاحب الحقيبة، لكن مكبّر الصوت أعلن عن موعد انطلاق الطائرة. و مع أنني كنت أتوق إلى البقاء هناك لأرى وجه هذا المسافر الغامض، إلا أنني وجدت نفسي مدفوعا نحو المخرج من قبل المسافرين المغادرين. الحقيبة ظلت هناك وحيدة تماما، متروكة على أرضية غرفة الانتظار التي أضحت الآن مهجورة، ثم تدريجيا بدأت تمتلئ بمسافرين جدد. فقط في اللحظة الأخيرة، عندما كنت في الحافلة التي سوف تنقلنا إلى الطائرة، بدا لي أني أرى عبر النافذة شخصا ينحني ليلتقط الحقيبة. كانت امرأة. امرأة سوداء.

* ألا ترغب في إعطائنا هذه المرّة و لو تلميحاً عن ما يتحدث عنه هذا العمل.. رحلة ماستورنا؟
-  ما أن يطلب مني شخص  معلومات عن فيلم أنا على وشك تحقيقه حتى يشبّ فيّ خوف لا شعوري، و الذي بسرعة و رشاقة يواري الفيلم مثلما يفعل دخان الشاشة حين يغيّر، يشوّه، يحجب لغرض الوقاية. لهذا السبب أروي لأصدقائي الصحفيين قصة مختلفة عن فيلم مختلف. ربما هو شكل عدائي من أشكال التواضع أو الغيرة أو اليقظة الشديدة. إني أخشى على حياة ذلك المشروع الكامن عارياً و بلا دفاع في حيّز سريع التأثر و غير حصين. أن تناقشه يعني أن تخونه، و الأسوأ من ذلك أن تجازف بتعديل شكله الافتراضي المتعذر تحديده. أيضا لدي إحساس بأن التحدث عن الفيلم قبل تحقيقه هو فعل طائش و غير حكيم.. أشعر عندئذ بأني أشبه الشخص المتبجح، المتغطرس و الفظ، الذي يبث الإشاعات عن امرأة متزوجة لا يعرف عنها شيئا.
ما جدوى كل هذا اللغو؟ ما جدوى استباق معرفة شيء و الذي، عندما ينتهي، ربما يصبح شيئا مختلفا تماما عن ذلك الذي تصورته؟
لو تعيّن علي في النهاية –بدافع المجاملة أو الإنهاك أو الصداقة أو الزهو- أن أشرع في الحديث عن "ماستورنا"،فإنني أشك في قدرتي على إيصال معنى الفيلم.
يمكنني القول مرّة أخرى أن الفيلم عبارة عن رحلة هي نتاج مخيّلة أو حلم، سفر في الذاكرة، في الكبح، في متاهة لها مخارج لا متناهية لكن ليس لها غير مدخل واحد فقط، و بسبب ذلك فإن المعضلة الحقيقية ليست في الخروج إنما في الدخول.
و بوسعي أن أستمر بوقاحة مثرثرا بخصوص التعريفات و الأمثال في هذا الشأن. على أية حال، "ماستورنا" هو تلميح لفيلم، ظل فيلم، الفيلم الذي لا أعرف كيف أحققه.

* إذن لندع "ماستورنا" جانبا و نتحدث عن رحلة أخرى، نحو العالم الوثني القديم الذي كتب عنه بترونيوس: ساتيريكون..
-  ساتيريكون كان، مع كازانوفا، الديكاميرون، أورلاندو فوريوسو، من الأفلام التي وعدت المنتجين أن أحققها منذ أن كنت أعمل في فيلمي vitelloni . في الواقع، لم أكن أتوقع أبدا أن أفي بتلك الوعود. لكن أثناء فترة نقاهتي من حساسية مرضية ألمّت بي، أعدت قراءة بترونيوس و كنت مفتونا بعنصر لم أنتبه إليه من قبل: الأجزاء المفقودة.. أعني، الفراغات بين جزء أو مقطع و آخر.
أذكر في المدرسة، حين كنا ندرس شعراء مرحلة ما قبل بندار (الشاعر الإغريقي) كنت أحاول أن أتخيّل ملء الفراغات بين أجزاء القصائد المتنوعة. معلمنا كان مثاليا إلى حد الحماقة في توقـعه من مراهقين أغبياء أن يكونوا متحمسين للغاية و هم يستمعون إليه يلقي بصوته الرقيق بيتاً من الشعر جاء فيه: "شربت و أنا أتكئ على رمحي الطويل".. و هذا أثار عند التلاميذ استجابات بذيئة وسوقية، و كنت المصدر لقصف صاخب عندما ابتكرت سلسلة من الأجزاء التي كنا ننوي أن نقترحها بوقاحة و صفاقة.
لكن حكاية ملء الأجزاء كانت قد سحرتني حقا. كنت مأخوذا بفكرة أن غبار القرون قد صان نبضات أفئدة ساكنة إلى الأبد.
بينما كنت أقضي فترة النقاهة في مانزيانا، صادفت كتاب بترونيوس في المكتبة الصغيرة التابعة للفندق العائلي الصغير حيث كنت أقيم. و مرّة أخرى شعرت بعاطفة قوية و انفعال شديد. الكتاب استحضر أعمدة من رخام، رؤوسا بعيون مفقودة أو أنوف مهشمة، هيئة مقبرة، متاحف خاصة بالآثار القديمة: أجزاء متفرقة، مكبوحة و منسية في الجانب الأكبر، تصبح وحدة كاملة بفعل ما يُسمى الحلم. ليس بواسطة ملحمة تاريخية مبنية من جديد فيلولوجياً (المتصل بفقه اللغة التاريخي و المقارن) من الوثائق المثبّتة و المؤكدة صحتها على نحو قاطع لا يعتريه الشك، إنما بواسطة مجرّة من حلم كبير كان غارقا في الظلام و الآن يظهر لنا بازغا وسط تفجرات وهاجة و متقدة من الضوء.
أظن أنني كنت خاضعا للإغواء بإمكانية إعادة بناء هذا الحلم بشفافيته المحيرة، بوضوحه غير القابل للقراءة. الشيء نفسه يحدث مع الأحلام الحقيقية. إن لديها جوهراً من خلاله نحن نعبّر عن أنفسنا بعمق، لكن في ضوء النهار يكون اتصالنا الواعي الوحيد معها باعتبارها مفاهيم فكرية. لذلك تظهر الأحلام لعقولنا الواعية بوصفها سريعة الزوال، غريبة، و لا يسبر غورها.
كنت أقول لنفسي، العالم الغابر لم يوجد أبداً، لا شك أننا حلمنا به. مهمتي ستكون إزالة التخوم بين الحلم و الخيال، اختراع كل شيء، إعطاء الفنتازي شكلا محسوسا.

* ما الذي تتذكره عن تأثير فيلمك "ساتيريكون" على الجمهور؟
-  العرض الأول للفيلم كان في ماديسون سكوير جاردن بنيويورك، مباشرة بعد حفلة روك صاخبة. حضر العرض حوالي عشرة آلاف شخص. و كان بإمكانك أن تشم رائحة الهيروين و الحشيش من خلال دخان السجائر.
ذلك الجيش الخرافي من الهيبيين شكـّل مشهدا مذهلا، غير اعتيادي، و لافتا للنظر، حيث تراهم قادمين على دراجاتهم البخارية الرائعة و في سياراتهم المتعددة الألوان المضاءة كلها بالمصابيح. كان الثلج يتساقط، و ناطحات السحاب في مانهاتن كانت كلها مضاءة بينما الثلج الهاطل يتلألأ في الليل.
العرض كان ناجحا. الشبان صفقوا استحسانا لكل مشهد. الكثيرون ناموا، العشاق كانوا يمارسون الحب في الصالة. وسط الفوضى الشاملة استمر الفيلم بلا هوادة في تسليط صوره على الشاشة العملاقة التي بدت كما لو تعكس ما يحدث في الصالة. على نحو يتعذر التنبؤ به، على نحو غامض، في ذلك الجو و المحيط، بعيد الاحتمال، بدا أن ساتيريكون (الفيلم) قد وجد موقعه الطبيعي. الفيلم لم يعد ملكي، خاصاً بي، في ذلك الإفشاء المفاجئ لأسرار مفهومة ضمنا، لروابط دقيقة، متواصلة، غير منقطعة، بين روما الغابرة القاطنة في الذاكرة و ذلك الجمهور الرائع الذي ينتمي إلى المستقبل.

* كيف ينظر إليك الشبان؟
-  أنا لا أعرفهم. لا أعرف أين يكونون أو ماذا يفعلون. بإمكاني طبعا أن أحاول و اكتشف كل ذلك.. لكن مهمة كهذه، أليست فاترة و تثير الرعشة؟
إني أسأل نفسي، ما الذي حدث في نقطة معينة من الزمن، أي نوع من الشر قد صعق جيلنا بحيث صرنا فجأة نطل على الشباب و ننظر إليهم بوصفهم رواد ضرب من الحقيقة المطلقة؟
الشباب، الشباب، الشباب.. يبدو أنهم قد جاءوا على سفن فضائية. يعرفون كل شيء، لا يقولون لنا شيئا، لا يريدون أن نزعجهم بجهلنا، أخطائنا....
لا بد أن الرغبة الملحة هي التي تدفعنا لكي نرى الأشياء تبدأ من جديد، من البداية. و هناك إدراك بأننا تعرضنا للهزيمة بفعل افتقارنا للثقة بالنفس، هذا الذي يحثنا، على نحو صادم، أن نسلـّم كل المفاتيح إلى أولاد صغار لا يعرفون مطلقاً كيف يستخدمونها.
إنه أمر فاتن و رهيب التفكير في ما وقع من أحداث بين 1950 و 1970 و الذي أجبر أجيالا أكثر حكمة أن تتخلى عن نفوذها و تسلـّم سلطتها إلى جيل كفّ لتوه عن اللهو بالدمى.
وحده الجنون الجماعي قادر أن يجعلنا نعتبر فتية في الخامسة عشرة من العمر أسياداً لنا، و منبعاً لكل حقيقة.
ربما لأننا سئمنا من السادة الزائفين المخادعين الذين، في مجابهة كل الخراب و الدمار الذي حلّ بكل ما آمنـّا به، أرادوا إخراس أصواتنا كي لا نقول شيئا بعد الآن.

* الإرهاب.. هل تظن أنه، إلى مدى معيّن، يمكن أن يكون نتيجة منطقية، تكملة، لكل ما حدث؟
-  هنا أيضا لا أملك الإجابة. لكن الوضع لا يبدو بمثل هذا التبسيط بالنسبة لي. الإرهاب واقع حاولت أن أفهمه. كيف يمكن لشاب أن يطلق النار على رأس شخص لا يعرفه و يعتقد أنه يستطيع أن يعيش مع تلك الجريمة طوال حياته؟ أي مرض حلّ به؟
ربما اعتدنا، بسهولة تامة، التفكير بأن الحرب تبرّر الجريمة. حتى شعرائنا المفضلين و المحبوبين يعتقدون ذلك. لكن حين لا تكون هناك حرب فإن الجريمة تصبح وحشية أكثر و يتعذر الدفاع عنها. أستطيع أن أفهم، بمشقة بالغة، إطلاق النار على شخص نعتبره عدواً، لكنني أجد صعوبة في تخيـّل إمكانية محو الإحساس بالإثم.
هتلر، ستالين، الطغاة الكبار، كانوا يمتلكون قوة اللاوعي الجماعي المجسّم في ذواتهم. أصبحوا مركز الرغبات الشريرة و السريّة، و جسّدوا الجنون الجماعي.
لكن ما الذي يدفع العامل، الإنسان العادي، إلى إقرار القتل و القبول به؟ هل هو عقله الواهن، مشاعره البدائية؟ هذا يجعلنا نؤمن بأن في زوايا معينة من النفس، نحن لا نزال نحتفظ بالقسمات أو المعالم الوحشية لإنسان بدائي هو أقرب إلى الحيوان.
أنا لا أحترم أولئك الذين، باسم المنظور التاريخي، يطلبون منا أن نحجم عن إدانة الإرهاب لأن جرائم معينة ربما سوف تعتبر أفعالا وطنية في المستقبل. أنا لا أملك على الإطلاق ذلك النوع من الحس التاريخي. إنه منظور لا يعنيني تماما. ما يهمني هو العيش يوماً بيوم، و ما أستطيع أن أفعله وأنا حي، أما الباقي فإنه مجرد تخمين.

* كيف عشت مرحلة "سنوات الرصاص" الإيطالية.. مع الأحداث السياسية التي اتسمت بالعنف.. أنا لا أطلب تحليلا للإرهاب، إنما أريد أن أعرف إلى أي مدى أثرت عليك تلك الأحداث؟
-  كنت أعمل دائماً. العمل حاجز وقائي عظيم، سترة مدرّعة. حتى لو كان الاختباء خلف العمل يبدو ضرباً من الجبن أو الهروب من مجابهة أحداث غير سوية. كان هناك الإحساس بالعجز. إحساس مشل. عجز عن فعل أي شيء، كما لو أن حياتك الباطنية قد أصابها التبدّل على نحو مرعب بفعل إثم غامض، لا معقول، لا عقلاني. إثم يحرّك شيئا لا سبيل إلى تفاديه، كما لو أننا جميعاً قد ارتكبنا جريمة مجهولة، غامضة، أطلقت العنان لطاقة تدميرية مجهولة بدورها، مثل سرطان، مثل جسد مختوم بالسرطان. لكن أين و كيف و متى نضل السبيل إلى حد أننا نستسلم، بلا أمل في الإفلات، لعاقبة رهيبة جدا.
أيضا هناك الخوف الذي ينشأ من رؤية الدولة عاجزة، و قوات الأمن و القانون و النظام مهزومة. و هناك الاستسلام المخيف و العبثي من قِبل الصحافة و مراسلي التلفزيون. و هناك الشعائر الجنائزية و تصريحات الشجب الصادرة من وزراء الدولة.
كابوس يتفاقم بسبب الرؤية الضبابية لمحللين سياسيين و صحفيين يبتكرون المبررات له، بسبب الحمقى الذين يشعرون بتعاطف مع أولئك السفاحين، بسبب تلك الوجوه المتحجّرة، تلك اللحى و الشوارب، بسبب ثرثرة المحللين النفسانيين في المجلات الأسبوعية الذين يزعمون أن هؤلاء الإرهابيين "يحاولون قتل الخواء داخل ذواتهم" أو أن هؤلاء "يطلقون النار على رعبهم الخاص من أجل تدمير هذا الرعب"، بسبب تحليلات علماء الإجتماع و السياسة الأكثر ضجيجاً، و الراغبين في قبول هذه الظاهرة كشيء مقدّر أو محتوم، كتحوّل محتوم.
إنهم يرتكبون أفعالا شريرة و شنيعة، يوجّهون عنفهم الضاري نحو رجال الشرطة المساكين الذين لم يبلغوا بعد العشرين عاما من العمر، و الذين يلقون حتفهم بالرصاص فجراً في ضاحية يغطيها الضباب بينما يرتشفون القهوة.
هناك أيضا الصور المرعبة لأولئك القتلة على شاشة التلفزيون ، و تلك الجثث المثقوبة بالرصاص التي تبدو مثل ذبائح في مسلخ. و لعل الأكثر إرعاباً، من بين هذه الفظاعات، ذلك "التفهم" الجبان و الخسيس للعديد من المثقفين الذين يرددون برطانة فارغة، لا معنى لها، عبارات بغيضة مفعمة بالكراهية. فيض من الأخبار على الصفحات الأولى من الجرائد. ملاحقة لاهثة، أشبه ببحث رهيب عن كنز، للعثور على بيانات و رسائل في صفائح القمامة. محررو الأعمدة الصحفية الذين يرتعشون اهتياجاً فيما يدوّنون لغة الموت الصادرة من أفواه أولئك القتلة.
العزاء الوحيد هو وجوه الناس في الجنازات. صمت يرتفع مثل جبهة صلبة ضد الجنون الذي يريد أن يسود و يلوّث كل شيء.
لدي أسبابي التي تجعلني أعارض كل المبررات التاريخية أو الفلسفية الممكنة، التي هي عامة جدا و غير متأثرة بالشعور الشخصي. أسبابي قائمة على البغض و الإشمئزاز الذي أشعره تجاه العنف بكل أشكاله و تجلياته و أيديولوجياته.
أعتقد أن أي شخص ذي ميول فنية من الطبيعي أن يكون محافظا، حذرا و معتدلا، و يحتاج إلى النظام من حوله. صيحات أولئك الأفراد، أغانيهم، مواكبهم الجنائزية، أسلحتهم، متاريسهم.. كلها مقلقة و مثيرة للاشمئزاز و تجعلني أرغب في إخراسهم و منعهم من تحقيق أي هدف. لا أمتلك حساسية ثورية، و لا أظن أن أحدا من أصدقائي ثوري التوجه. الثائر المفعم بالضجيج لا يكنّ احتراما لأمن و سلام الآخرين. هو، بالنسبة لهم، أجنبي و غريب تماما.
أنا أحتاج إلى النظام لأنني شخص منتهك أو مخالف للأعراف، و لكي أمارس انتهاكي و تجاوزي فإنني أحتاج إلى نظام صارم يصون المحرّمات و يضع أمامي العوائق في كل خطوة، و يحاول إخضاعي لسطوة القيم الأخلاقية.. و ضد كل هذه القيود و الكوابح أمارس الانتهاك و المخالفة.






الجوهر الرمزي لسحر الحياة

* لنتوقف عند التقييم.. هل أنت راض عن الطريقة التي بها وظفت مخيلتك في هذه السنوات؟ هل تعتقد أنها نشّطت إيقاعنا في الحياة، و جعلت الأمور أكثر وضوحا، و الوجود أكثر احتمالا؟
-  عندما أوقـّع عقد العمل لتحقيق فبلم ما فإنني لا أفكر أبدا في إمكانية أن أكون ملزماً بتسريع أو تنشيط إيقاعنا في الحياة، و لا في جعل الأمور أكثر وضوحاً أو جعل الوجود أكثر احتمالا.. هل هذا سيء؟
إني أحقق الأفلام لأنني ببساطة لا أجيد فعل شيء آخر.. أو هكذا يبدو لي الأمر.

* هذه المقابلة سوف تظهر بعد محاولتك الإخراجية الأولى بثلاثين عاما تقريبا.. هل تستطيع أن تقدم لنا قائمة بحالات: الندم، الافتقاد، الآمال؟
-  ليس لدي حالات ندم، و تلك التي لدي لا تستدعي الاعتراف هنا. لقد حققت الأفلام التي أردت أن أحققها، و بالطريقة التي أعرف أنها ملائمة. لكن كان الأحرى ألا أضع اسمي عليها لأنني واثق أنه بدون ذلك الإحساس السخيف و المشلّ بالمسؤولية كان يمكن أن أحققها يشكل أفضل، بحرية أكبر، بطمأنينة أكثر، كلعبة مبهجة و مرضية.
كنت أفضـّل لو جئت قبل مولدي بعشرين سنة. آنذاك كان بوسعي أن أصنع أفلاماً مع الرواد. إن مساهمتي في ولادة السينما ستكون مرضية لمزاجي و حساسيتي أكثر من الوصول بعد أن تم فرض قوانين الفيلم الخاصة: قوانين محتومة تجعلك مطـّلعاً و ملمّاً بالشروط الفنية و الثقافية لكنها تحرمك من ذلك الجو الضاج و المقلق، تلك البهجة الضارية التي ربطت السينما بالسيرك و جعلتها تبدو كجوهر رمزي لسحر الحياة.
أنا نادم لإضاعة الكثير من الوقت بين فيلم و آخر، و جعل بعضها تتحقق و أخرى تختفي، غير أني لا أتبرأ من شيء. يبدو لي أن الأمور قد سارت على ما يرام بالرغم من ميولي السلبية: الكسل، الإهمال، الجهل، التخبط هنا و هناك ، و لا أظن إنني أرجو أكثر من هذا.
كنت محظوظا حتى في حياتي الخاصة. كنت محميا تماما. و ربما قد ساعدت في جعل حياتي تمضي بشكل مرض عن طريق السماح لنفسي بأن تقاد. حين كانت الأوضاع تسوقني، تدعوني، تغريني، تومئ إليّ، لم أكن أبدي أية مقاومة على الإطلاق. و إذا كان النزوع العام لدي ينحصر في الحاجة إلى رواية القصص من خلال الصور، فإن حياتي الخاصة قد نُظمت بحيث يصبح عملي هو الجزء الأهم. لم يكن هناك ما يلهيني أو يسلبني الوقت الذي أحتاجه لإنجاز أعمالي.. لا مسؤوليات تجاه زوجتي و أصدقائي، و لا وخزات ضمير.
من جهة أخرى، لو أن حياتي مضت في اتجاه آخر و مع ذلك واصلت في تحقيق الأفلام، فإن قائمة الندم و الآمال ستكون عندئذ أكثر إثارة للارتباك و الحرج. لكن يقيناً سوف لن أغيّر الطريقة التي أعمل بها. لقد جعلت الصور البصرية تبدو عميقة، حررت نفسي من خطط و برامج وضعها آخرون، غير أن العالم الذي أعيش فيه بقي كما هو. مع مرور الزمن عشت في مستويات متنوعة، لكن ليس هناك مستوى أكثر عمقا أو اتساعاً من المستوى الآخر.
في طفولتي رأيت أشياء ساحرة تحت خيمة السيرك، الآن أنا أخلق الألعاب و الحيل، أشكلها، أحركها. كنت في السابق أحلّ ضيفاً على الفندق، الآن أنا أملكه. أقدر أن أكون البوّاب و الحمّال، و أيضا الأمير الذي يختار جناحا في الدور الأول.
الآمال؟ ليس لديّ أوهام كثيرة، بالتالي لا أشعر بحاجة لتصوّر المستقبل. و إذا كانت هناك فضاءات خالية ينبغي ملأها، فسوف أقوم بما يتعين عليّ فعله. لست مكرساً وقتي على نحو خاص لأصدقائي، للآخرين، حتى لزوجتي. مع ذلك لا يزال لدي أكثر مما يكفي للاختيار منه.

* هناك من يقول بأنك الآن استهلكت أسطورتك و لا تفعل إلا القليل لتجديد طاقتك الإبداعية.. مع مرور السنوات، هل تشعر بذبول في الإلهام؟
-  لا أعرف ما هي أسطورتي. و في ما يتعلق بأفول الإلهام عندي، فيبدو أن من سوء الطالع، أو حسن الطالع، أنني لا أعي ذلك. لا أرى عندي رغبة متناقصة في فعل الأشياء –إن كان هذا ما تقصده- أو حتى نسبة أبطأ في الأفكار أو البواعث. هذه تستمر بالمعدّل نفسه كما في السابق عندما كنت أكثر شباباً كرونولوجيا (زمنيا).
ما أفتقر إليه أكثر فأكثر، كما سبق أن ذكرت، هو المبرمج، المخطط، الشخص الذي سوف ينظم عملي. الشخص الذي سوف يخبرني: "حسنا، إني أفهم. رغم أنك قد تجاوزت الستين إلا أنك لا تزال تستمتع بتحقيق الأفلام. سوف أدرس الموضوع و أخلصك من حالة البطالة. ما الذي ترغب في صنعه؟ الفرسان الثلاثة؟ جيد. اشتغل في الفرسان الثلاثة. الجزيرة الغامضة؟ كل أعمال إدغار ألان بو؟ روايات شاندلر؟ هل تريد أن تنفذ ماستورنا؟"
إسمع، أنا لا أرغب في أن أصبح غنيا. كل ما أحتاجه معاشا شهريا و شخصا ينظم أعمالي. إذا استطعت أن أعثر عليه فسوف لن يكون لدي أدنى شعور بالاستنزاف. لو أتيح لي أن أحقق مثل هذه الأفلام الشخصية لوثبت فرحا من فكرة تحقيق فيلم عن رواية الكونت دي مونت كريستو أو أي رواية شعبية من القرن التاسع عشر.

* هل تعتقد أن الكوميديا، على الطريقة الإيطالية، هي النوع الأكثر ملاءمة للسينما الإيطالية؟
-  الكوميديا الإيطالية صورت مرحلة معينة في مجتمعنا. الآن، بعد زمن، أصبحنا نرى فيها استبصارا نقديا من المحتمل أنها لم تمتلكه. إنها تثير فضولنا أو ترفـّه عنا مثلما تفعل صفحات ألبوم الصور القديمة حين نقلبها و نكتشف أشياء مثيرة للضحك. لقد اعتدنا أن نضحك على الأزياء القديمة التي قد نجدها خرقاء، يعوزها التناسب، أو مثيرة للشفقة من وجهة نظرنا. لكن الصورة الفوتوغرافية القديمة لم يخامرها قط إحساس بأنها سوف تثير كل هذا الضحك، فوظيفتها تنحصر في إظهارنا في لحظة زمنية معينة عشناها بكل شروطها و معطياتها.
يبدو لي أن الكوميديا الإيطالية تقع أكثر ضمن فئة المصادفة. ما قدمته كان مرضياً بذاته، غامزة بعين بحثاً عن تعاطف. لذا فإن الأدوات النقدية لن تجد فيها السخط و الاحتجاج. في الكوميديا الإيطالية تشعر بأن كل شخص مبتهج: المنتج، كاتب السيناريو، المخرج، الممثلون، و بالطبع الجمهور. الناس في الصالة منعكسون في الفيلم، الفيلم أيضا منعكس في الجمهور.. بالتالي فإن لعبة التطابق تستمر على نحو لا نهائي في انعكاسات مضببة أكثر فأكثر، و نوايا لا يمكن إدراكها بسهولة. يتراءى لي أن ما يطفو فوق كل شيء هو الابتهاج البالي إلى حد ما، مثل قهقهة عالية و حادة يطلقها عبيد تحرروا و أطلق سراحهم، مثل حرية التعبير الفاحشة التي تجرح مشاعر الموظفين الرسميين لمجرد إقرار ابتهاجها بالنصر.
لا أحب أن أبدو شحيحا في التحدث عن أفلام لم أشاهدها كلها، و لا ينبغي أبدا أن تصنف ضمن نوع عشوائي، إنما ينبغي النظر إليها على انفراد. أدرك أن شجبها لا يعني الكثير بالنسبة لأولئك الذين يشاهدون تلك القصص التي، على نحو متواصل، تنشئ التضامن و تعزّز الرضا عن النفس، إضافة إلى سوء الفهم الأساسي في تمويه الجانب الأسوأ من ذواتنا. صحيح أن، لإثارة كل هذا، تعيّن عليهم أن يستخدموا ممثلين هزليين ممتازين، يمتلكون البراعة و نفاذ البصيرة في صفاتنا الوطنية المميزة، في رذائلنا، شوائبنا، فضائلنا، التقلصّات اللا إرادية في عضلات وجوهنا، سماتنا البدنية.. مواهب هزلية موثوق بها، إيماءات حماسية مسترخية في هذا الحقل.

* هناك من يقول بخبث أن الكوميديا الإيطالية تعكس جوانب و مظاهر معينة من واقعنا، أما أنت فتقوم بتحريفها و تشويهها..
-  لا أظن إنني أحرف الواقع على الإطلاق. أنا أصوره. و لكي أصوره –وفق أسلوب تعبير خاص- ألجأ إلى الحذف، الاختيار، الانتقاء، إعادة التجميع.. من أجل تحقيق التوازن و الذي هو السرد، القصة. إني أطلب من الجمهور أن يشارك في ما أفعله، في وجهة نظري، في مشاعري. هنا التعبير يمكن أن يساء فهمه باعتباره تحريفا. ربما هو كذلك، نظراً لأن الواقع مترشح و معاد تنظيمه من أجل تمثيله. الواقع محرّف أيضاً من قبل الشعر، الرسم (حتى الرسم الطبيعي) و الموسيقى. إنه الفن بوصفه نظاماً، بوصفه تناسقاً معاد تركيبه و بنائه من اللامبالاة و الاختلاط و التشوّش، و الذي يفضي إلى ذلك الفهم الباطني الذي نحدّده كإحساس جمالي. بالتالي لا أعرف أبدا ما الذي يقصدونه حين يتحدثون " رغبتي في تشويه الواقع". غالباً ما يسألني الآخرون بإعجاب مشوب بالذهول لكن أيضا بتوبيخ ظاهري: "من أين تجلب كل تلك النماذج الغريبة من الشخصيات؟"
سؤال بلا إجابة، ذلك لأنني لا أبحث، و لا أجد تلك النماذج، لكنني ببساطة أراها. يكفي أن ينظر المرء إلى ذاته في المرآة ليدرك أننا محاطون بوجوه هزلية، مرعبة، مشوهة، بشعة، ذاهلة.. إنها وجوهنا.. وجوه الحياة.

* كنت دائما محاطا بالعديد من المتعاونين، المهمين و المشهورين غالبا.. هل ثمة من تعتبره الأكثر قيمة و استثنائية و حميمية بين هؤلاء؟
-  تعاوني مع أولئك الأفراد ليس فقط بسبب مواهبهم الفذة و ما يمتلكونه من مخيلة و ثقافة غنية فحسب لكن أيضا بسبب مشاعر الصداقة الحميمة التي تجمع بيننا عندما نعمل معاً. مشاعر من البهجة و الإثارة التي يحسها المرء عندما يزور الريف، عندما يقوم برحلة، بسفر.
هنا أنتهز الفرصة لأعبّر عن شكري لبعض هؤلاء الأصدقاء: بييرو غيراردي، مصمم المناظر. متشرد ارستقراطي. حكيم و مستقل مثل راهب بوذي. جشع، شره، و غير ناضج مثل رضيع مولود حديثا. أذكر ذات ليلة نمنا أنا و هو في السيارة عندما ضللنا الطريق أثناء بحثنا عن موقع لمشروع فيلم لم يتحقق أبدا هو:بينوكيو.
متعاون آخر حميم و متجانس جدا هو دانيلو دوناتي. مبدع بارع ذو مخيلة غنية في ابتكار الأزياء و الإكسسوارات. من وجهة نظر بصرية أعتبر ساتيريكون و كازانوفا من بين أكثر أفلامي جاذبية و سحرا.
بالنسبة لأي مخرج سينمائي، أكثر المتعاونين أهمية ليس فقط مصمم المناظر و المصور و كاتب السيناريو بل أيضا مدير الإنتاج الماهر، الحكيم، النشط، و الذي يقدر أن يصير النابض الرئيسي للفيلم.
توليو بنيللي، الذي معه كتبت العديد من المشاهد، أحترمه كمبدع للحبكات. حرفي في رسم المشاهد و الشخصيات. لديه مزاج و حساسية روائي حقيقي. عندما ينضم إلينا إنيو فلايانو، نشكل نحن الثلاثة فريقاً مثاليا. بنيللي يشغل نفسه بالبنية السردية ليأتي فلايانو و يبذل كل ما بوسعه لهدم البنية السردية، لتهشيمها إلى أجزاء. أحيانا يكون هو مسببا للكارثة أكثر من خنزير بري في حقل باقلاء.
لكن فقط بسبب هذه الميول المتعارضة تماما، يمكن لتلك الجوانب من الجدران التي ظلت قائمة بين الأنقاض أن تعتمد عليها لدعم بنية السرد. أنا و فلايانو كنا نتقاسم حس الدعابة ذاتها بشأن كل شيء: النزوع إلى العمل ببرود و رباطة جأش، التمازح، التهريج، إضافة إلى لمسة من السوداوية العصابية التي تقربنا من بعض.
لقاءاتي مع برناردينو  زابوني كانت محفزة. لقد عملنا معا بشكل جيد، و تقاسمنا التجارب ذاتها و المغامرات ذاتها: جريدة مارك أوريليو، رفع ستارة مسرح الفودفيل (المنوعات)، الولع ذاته و الحماسة ذاتها التي كنا نشعرها تجاه: إدغار ألان بو، ديكنز، لوفكرافت، شؤون السحر و التنجيم، الأشباح، المغامرات الميثولوجية، الخيال العلمي.
مع تونينو جويرا كتبت أماركورد، السفينة تبحر. معا نتقاسم اللهجة الإيطالية ذاتها، طفولة قضيناها بين نفس التلال و الثلج و البحر و جبل سان مارينو. المناطق التي ولدنا فيها تبعد عن بعض بمسافة تسعة كيلومترات. في طفولتي كنت أذهب بدراجتي الهوائية مع أقراني إلى بلدة تونينو: سانت أركانجيلو. كان يبدو لنا أن الأهالي هناك يتكلمون بلغة أخرى. في ريميني كانوا ينظرون إلى تلك البلدة بوصفها مستعمرة لم يصل إليها المبشّرون بعد.
لكن التعاون الأكثر قيمة، و أقولها بلا تردد، هو تعاون المؤلف الموسيقيّ نينو روتا. بيننا ذلك التفاهم الكلي و الشامل، بدءا من "الشيخ الأبيض"، الفيلم الأول الذي عملنا فيه معا. التفاهم بيننا لم يكن بحاجة إلى أداة ضبط أو تعديل من أي طرف. لقد قررت أن أصبح مخرجا سينمائيا و هو كان قريبا و متاحا، كما لو كان موجودا في الموضع الصحيح لكي أتمكن من متابعة مسيرتي السينمائية كمخرج.
نينو يتمتع بمخيلة هندسية و رؤية موسيقية جديرة بالعوالم السماوية، إلى حد أنه لم يكن يحتاج أن يرى ما سوف تبدو عليه أفلامي. عندما كنت أسأله أي الثيمات الموسيقية خطرت في ذهنه لهذا المشهد أو ذاك، يتضح على الفور  أن أي مشاهدة تمهيدية أو عرض مسبق غير ضروري على الإطلاق. عالمه هو العالم الداخلي، الباطني، حيث لا يمكن للواقع أن يخترقه إلا بصعوبة و بجهد بالغ. كان يعيش الموسيقى بحرية و طمأنينة شخص يعيش في أبعاده الخاصة على نحو عفوي.
كان الكائن الممسوس بخاصية نادرة، خاصية ثمينة تنتمي إلى مملكة الحدس. إنها هذه الموهبة التي جعلت منه إنسانا بريئاً و محبوباً و سعيدا إلى هذا الحد. لكن لا تسئ فهمي، عند الضرورة بوسع نينو أن يقول أشياء عميقة تتسم بحدة الملاحظة، بوسعه أن يصدر أحكاما نفاذة على نحو مؤثر بشأن الأفكار و البشر. مثل الأطفال، مثل أرواح بسيطة، مثل حساسيات معينة، ببراءة و صراحة يطرح ملاحظات رائعة...
أثناء العمل في أفلامي اعتدت أن استخدم اسطوانات معينة لتخدم كخلفية للمشهد. بإمكان الموسيقى أن تتحكم بمشهد ما، أن تمنحه إيقاعا، أن تساعد في اقتراح حل، أن توحي بموقف شخصية ما. هناك ثيمات موسيقية أسجلها و أجلبها معي.. ثيمات تتصل بمشاعر معينة. و ما يحدث عندما أنتهي من تصوير الفيلم هو أنني أصبح مغرما بهذا التسجيل الصوتي المرتجل و لا أرغب في تغييره. و نينو عادة يتفق معي في الحال قائلا بأن الثيمات المستخدمة أثناء التصوير هي جميلة جدا (رغم أنه في الحقيقة يراها مبتذلة أو عادية) زاعما أنها مناسبة جدا و ليس بإمكانه أن ينجز أفضل منها. و فيما هو يتحدث ألاحظ أصابعه و هي تنقر بلطف أصابع البيانو. بعد قليل، عندما أسأله: " ما هذا، ما الذي كنت تعزفه؟" فيرد نينو بنبرة حائرة، شاردة: "متى؟".. أقول بإصرار: " الآن.. بينما نتحدث كنت تعزف شيئا، ما هو؟".. فيجيب: "حقا؟ لا أعرف.. لا أتذكر".. ثم يبتسم كما لو يريد تهدئتي.
بهذه الطريقة تولد الثيمات الموسيقية الآسرة لأفلامي، و التي تجعلني أتغاضى عن اقتراحاتي بشأن المقطوعات القديمة المستخدمة أثناء التصوير. هكذا كنت أقف هناك، قرب البيانو أتحدث إليه عن الفيلم، شارحاً ما أريد التلميح إليه مع هذه الصورة أو تلك، مع هذا المشهد أو ذاك، بينما هو يلاطف أصابع البيانو دون أن يعيرني أي انتباه، و يبدو كأنه يفكر في شيء آخر في حين يهز رأسه بالإيجاب مصدّقاً على ما أقول دون أن يسمع مني كلمة واحدة. لحظتها يكون هو مستغرقا في شأن آخر، إذ يقيم اتصالا مع ذاته الباطنية، مع الثيمات الموسيقية الموجودة حينذاك في داخله. و عندما يتوطد ذلك الاتصال، لا يعود يوجّه لي أي انتباه، لا يعود يصغي إليّ، بل يضع أصابع يديه على البيانو و يغيب مثل وسيط هو صلة الوصل بين العالم الدنيوي و عالم الأشباح، مثل فنان حقيقي.
في النهاية كنت أقول: "هذا حقا جميل".. لكنه يرد: " أنا لا أتذكر".
قد تحدث كوارث مع أجهزة التسجيل و أنظمة الصوت. تلك أشياء لابد من إصلاحها و تقويمها دون أن يعرف هو ذلك، و إلا فإن اتصاله بالعوالم السماوية سوف يتعرّض للخرق و الانقطاع.
العمل مع نينو روتا هو فعلا متعة حقيقية. قدرته الإبداعية جعلتني أشعر بحميمية تجاهه، إلى حد أنه ألهب فيّ نوعا من الطيش و منحني الإحساس بأنني، أنا نفسي، أخلق الموسيقى.
كان نينو يصل في نهاية التصوير عندما تكون وطأة إعادة اللقطات و المونتاج و تسجيل الصوت أو الحوار في ذروتها. لكن حالما يصل تتغير الأمزجة و يخف التوتر، و الحال ينقلب إلى ما يشبه النزهة. ندخل عالما رائقا و سعيدا، و في جو يتخذ خاصية حياة جديدة. لكن نينو يفاجئني حقا، بعد أن يساهم بالكثير من المشاعر و الكثير من العاطفة، في الموقع، يلتفت و يشير إلى الممثل الرئيسي سائلا: "من يكون هذا الشخص؟" فأجيبه: "هذا بطل الفيلم".. و بنبرة عتاب يقول: " ما الذي يفعله.. أنت لم تحدّثني عنه أبدا".
الصوت كان يغذي صداقتنا. شخصيا أفضّل ألا أستمع إلى الموسيقى خارج أعمالي. إنها تتحكّم فيّ، توتر مزاجي. أصبح ممسوسا بها. إني أحمي نفسي برفضها، بالفرار منها مثلما يفعل اللص الذي يهرب من الإغواء. ربما ذلك أيضا ضرب من التكييف الكاثوليكي: واقع أن الموسيقى تسبب لي الانقباض، تجعلني مثقلا بالندم، تعذبني بتذكيري ببعد التناغم و التناسق، بُعد الأمن و الطمأنينة، بُعد الكمال الذي أنا مبعد عنه، منفيّ عنه. الموسيقى قاسية. إنها تملؤني بالحنين إلى الماضي، بالندم و الأسف، و عندما تنتهي الموسيقى لا أعرف أين تمضي و تختفي. أعرف فقط أن المكان الذي ذهبت إليه لا يمكن الوصول إليه.. و هذا يحزنني.
أنا حتى لا أقدر أن أصغي إلى شخص ينقر بأصابعه على الطاولة دون أن يعتريني فجأة القلق و الانزعاج، و اشعر بضيق في التنفس. أما نينو، فبوسعه أن يكون وسط فرقة تعزف على نحو ضاج واحدة من مقطوعاته، و مع ذلك يكتب نوتة ثيمة أخرى لا يسمعها أحد غيره.

* لماذا لم تحقق حتى الآن أي أوبرا من تأليف نينو روتا؟ هل لديك التحفظات ذاتها بشأن الأوبرا كما الحال مع الموسيقى عموما؟
-  للأوبرا مظهر جنوني و الذي هو حقاً فاتن. تحفظي الوحيد هو أنني لا أعرف شيئا عن الأوبرا. أعني، أعرف أن الأوبرا جزء من طبيعتي الإيطالية، مثل الرماة، غاريبالدي، الأباطرة الرومان. هناك أوبرات في شكل أنغام ظلت معي على الدوام. كنت دائما أستمع إليها. رأيت كل عماتي و خالاتي، كل أقاربي، ينتحبون كلما أنشدوا مقاطع من الأوبرا. هذه الأشياء تظل بداخلنا إلى حد أنها، مثل اللاوعي، تتحول لتصبح غريبة. إني أشعر تجاه الأوبرا بالألفة التي يشعرها الغريب، الدخيل، اللا منتمي.. و هو نفس شعوري تجاه المدرسة أو الأماكن التي نقضي فيها العطل أو الأشياء التي تنتسب إلى طائفة معينة أو الأشياء التي لها خاصية طقسية: أمور كهذه غالبا ما تولد لدي إحساسا بالغربة، بالمغايرة، بالوحدة.
في شبابي لم أصادف شخصاً لم يكن ينشد واحدة من تلك المقاطع الموسيقية الغامضة الواردة في إحدى الأوبرات: الحدّاد الذي كان يأتي لتصليح المرجل يعمل و هو يغني، ذاك الذي يحشو الفراش يذرع البيت و هو يغني. كذلك خدم المنازل، المخلوقات الغريبة، ذاك الذي يشحذ السكاكين، كناس الشارع. و لو سألت واحدا منهم: "لم تقول، لو كنت ذلك المحارب؟" لأجابك بأن ذلك وارد في الأوبرا و لسوف يشرع في رواية الحبكة. و تلك الحبكات غالبا ما تكون كئيبة، رهيبة، عن ثأر وحشي عنيف، و عن عشاق مخذولين هم أشبه بالأموات من فرط اليأس و العجز.
ثم هناك السكارى الذين يغنون الأوبرا. كنت دائما أخلط بين الأوبرا و السكارى. في الليل، كان هؤلاء السكارى، الوحيدين في الميدان، بستراتهم المتدلية حتى الأرض، يغنون مقاطع من الأوبرا بأعلى أصواتهم: أولئك السكارى كانوا، بالنسبة لي، أول منشدي الأوبرا.
في طفولتي، كان منزلنا في ريميني المنزل الأخير الواقع في شارع سان جوليانو. مباشرة وراء المنزل كان الطريق الريفي الذي يؤدي إلى بلدة سيسينا المجاورة. في ريميني كان لدينا مسرح فيتوريو إيمانويل، لكنني لا أتذكره جيداً لأنه غالبا ما يكون مغلقا بسبب التصليحات. الأوبرا كانت تقدم في صالة بونسي في سيسينا، و بما أن الملصقات كانت توضع في ريميني أيضا، فقد كان أكثر من نصف سكان ريميني يذهبون إلى سيسينا عبر الحافلات، السيارات، القطار الذي يتوقف في جميع المحطات، ليشاهدوا و يستمعوا إلى الأوبرا.
في الرابعة صباحا كنت أسمع أصوات العائدين من سيسينا، أصواتهم المتثاقلة بفعل النبيذ، و هم ينشدون المقاطع إما على نحو ثنائي أو كورس جماعي. وأنا أشاهد ذلك الجمع العائد من سيسينا على دراجاتهم الهوائية، أو داخل حافلات و عربات، أو سيرا على الأقدام، بينما الظلام لا يزال مخيّما، أتخيلهم جيشاً غازياً يعود إلى دياره بعد أن شنّ غارة على جيرانه.
ذات فجر، و فيما ضوء النهار يهبط على مهل، في ذلك الصفاء الغامض اقترب أحدهم، و كان مهووساً بالموسيقى، توقف تحت نافذتنا و قال لي: "إذهب و استدع أبيك و أمك"..
كان قد استمع إلى إحدى تلك الأوبرات، و بصوت جميل جدا شرع في الغناء، و بدأ حشد من الناس يصطفون وراءه. ثم فجأة اعتل جسمه بسبب إفراطه في شرب النبيذ، فأدخلوه منزلنا و أجلسوه على كرسي هزاز حيث بدا لي ميتاً، غير أنه بعد قليل بدأ يغني ثانية لكن بصوت خفيض و عينيه مغمضتين.
كنت دائما أشعر بأنني أشبه الغريب، اللا منتمي، الذي يحمل إحساسا مبهما بالذنب بسبب عدم رغبته في المشاركة في هذا الطقس الإيطالي الجماعي الدافئ، المتقد، الحميم.
لماذا لم استطع التسليم بجانبي الإيطالي الخفيّ؟ هذا الطقس العميق، الفاحش بلطف، الذي يسيّجنا جميعا مثل الغشاء الذي يحيط بالجنين؟
ذلك لأنه يبدو لي أن الأوبرا –بمؤثراتها المدهشة، مظاهرها الخارقة أو المنتهكة، موضوعاتها الرهيبة من مدافن و ثأر و عشق يمتد من هنا حتى حدود الخيال- تعبّر، هذه الأوبرا، بدقة و على نحو صحيح عما يحدث، حتى بواسطة الأخطاء التي ترتكبها. الأوبرا لا توجد على نحو منفصل أو مستقل عما يحدث. لسنوات طويلة هي تواجدت جنباً إلى جنب مع وحدة إيطاليا، الحرب، الفاشية، المقاومة.
كيف نشرع في استعادة نقاءها الأصلي؟ الأوبرا طقس، قدّاس، أنشودة راع. مع ذلك فإن النتاج الراهن يجب أن يلقى الاحترام لما فعله، حتى في أساليب الحياة المختلفة في إيطاليا. لماذا نحاول جلب صرامة في التعبير إلى هذا الشكل بدلاً من جعله يستل حيويته من حقيقته هو فحسب؟
لا أظن أن عدم اشتغالي في مجال الأوبرا عائد إلى خوفي من الفشل.. ليس لدي مخاوف. لكن قد يصبح العمل نتاجا زائفا. إن ما يكبحني هو احترامي لعملي الخاص، و الذي يجعلني غير مؤهل لفعل شيء آخر. اعترف بجهلي الكامل بخشبة الأوبرا. إذا اشتغلت هناك فسوف يحاول العاملون إرضائي بأية وسيلة حتى لو كانت مطالبي مستحيلة. أيضا سوف يتعين عليهم إخباري بما يتعين عليّ عمله. لو كانت لديّ على الأقل أفكار ثورية بشأن الأوبرا لكان هذا دافعاً قويا.
ذات مساء شاهدت في التلفزيون إعدادا صاخبا لأوبرا La Traviata، بدا لي المخرج و المصور كما لو يتحركان ذهابا و إيابا عبر الخشبة مثل أبوين ينتظران مولوداً في جناح مستشفى الولادة. الكاميرات تقترب بحركة زوم من كل شيء: من السجاد، من الأحذية، من مسامير في ألواح، من حشوة سن ذهبية في أفواه المؤدين.
لكن على الرغم من ذلك الإعداد غير المتقن، و وجوه المغنين، و مع إني كنت جالسا وحدي في بيتي،  في غرفة صغيرة مضاءة بمصباح كهربائي، بينما تصل إلى مسامعي، من حين إلى آخر، ولولة سيارات الشرطة في الشارع  و هي تندفع مسرعة، و لا أحد يعلم إلى أين.. على الرغم من كل هذا، فقد أمضيت الأمسية بأسرها و أنا أبكي. مع نهاية الفصل الأول انخرطت في البكاء. و عندما ابتدأ الفصل الثاني، و مباشرة مع حلول النغمة الموسيقية الثالثة، شرعت أبكي مرة أخرى، مبتهجاً لكوني أفعل ذلك.. لكوني أبكي.
ربما تلك الأوبرا، لا ترافياتا، بلغت حد الكمال، و تجسّد عالما من العاطفة المحضة. حتى المعتوهين، العاملين في التلفزيون، لا يستطيعون تدميرها أو تخريبها. و إذا كان الأمر كذلك، فمن يستطيع أن يفعل لها أكثر مما فعله فيردي؟







شاشة بحجم وسادة

* أفلامك: المهرجون، روما، أماركورد (أنا أتذكر).. بداية السبعينيات هي بداية مرحلة إبداعية أخرى.. هل كانت هذه المشاريع مطمورة في الذهن و متصورة في وقت مبكر؟
-  يبدو لي أن كل مشاريعي المنجزة لم توجد مبكرا فحسب، إنما كانت موجودة دائما و باستمرار، و هي لم تنبثق بكل إمكانياتها الإغوائية إلا عندما حانت لحظتها و فرضت نفسها بقوة. ذلك أشبه بالقلاع الصغيرة، الكائنات الحية الصغيرة، النوى الصغيرة، التي تشكـّل نفسها بينما أكون منهمكا في العمل في مكان آخر، و كل ما يتعين علي أن أفعله هو أن أتعرّف عليها، أميّزها، و أقبلها. لم أشعر طوال هذه السنوات أنني أتطور، بل كنت ببساطة أنطلق عبر خط رحلة كان معينا و موطدا من قبل. و كان علي أن أحصر نفسي في ملاحقة مهمة معينة، في إقامة حدودها، رسم محيطها، بمعنى آخر لتسهيل ذلك المجال الكامل من المهن، المعمل، الأستوديو.
دوماً أصل في اليوم الأول من تصوير الفيلم دون أن أختار بعد كل الوجوه-الأشخاص لتأدية الشخصيات. وحدة الإنتاج تكون في حالة يأس. المنظمون ينظرون إلي شزرا، لكنني بإيمان لا عقلاني أريد أن أستمر. أعلم أن الشخصيات سوف تظهر على غير توقع. لقد حدث ذلك عشرات المرات و سوف يحدث ثانية. بل أنه حدث قبل تصوير فيلم "السفينة تبحر". بين الشخصيات التي لم أعثر عليها قبل ليلة من تصوير الفيلم كان أكثرها أهمية: أميرة في البلاط المساوي-الهنغاري، العمياء منذ الولادة.
لم تكن لدي أي فكرة عما كنت أبحث عنه، عما أريده، أي وجه، أي ممثلة. لم يكن لدي أي مرجع، أي إطار حقيقي، و الذي على أساسه يتم اختيار مثل هذه الأميرة. لم أعرف في حياتي أي أميرة. لكن ذات أمسية صاخبة، في إحدى مقصورات المسرح الأرجنتيني، وسط رفرفة من المناديل و الأبواب التي تنفتح و تنغلق، رأيت أمامي أميرتي النمساوية، هادئة، رابطة الجأش، شفافة، و بملابس سوداء. كان اسمها بينا بوش: أشبه براهبة تتناول الآيسكريم، قديسة على مزلجة تتزحلق، وجه ملكة في المنفى، وجه إحدى المشرفات على جماعة دينية، وجه قاضية في محكمة دينية و التي فجأة تغمز بعينها. بوجهها الأرستقراطي، الناعم و القاسي، الغامض و المألوف، المتقلص في صلابة ملغزة، ابتسمت لي بينا بوش محيية.. و يا للوجه الجميل! واحدة من تلك الوجوه المقدّر لها أن تشلـّنا، هائلا و مقلقا، على شاشات الصالات السينمائية.
لم أكن أعرف شيئا عن بينا بوش. علاوة على ذلك، أقرّ بقصوري.. أبدا لم أكن أعرف الكثير عن الأوبرا أو الباليه. كنت واقفا هناك، في مستوى الأوركسترا، عندما اعترتني رغبة مفاجئة في التجول عبر الأروقة لرؤية ما يحدث خلف الكواليس أو في الردهة الخالية. يخجلني قول ذلك، لكنني شعرت بالضجر فلم أبق حتى النهاية. لكنني رأيت مشهد بينا بوش من البداية حتى النهاية و تمنيت لو استمر فترة أطول.
إني أتفق مع القائل بأن مثلما الفرد يعبّر عن الجزء السري، الغامض، غير المستكشف من ذاته من خلال الأحلام التي تكشف لا وعيه الخاص، إضافة إلى اللاوعي الجمعي، كذلك يفعل الجنس البشري الشيء نفسه في تأويل الإبداعات الفنية. هذا يعني أن الخلق الفني ما هو إلا نشاط حلم البشرية، و أن الرسام و الشاعر و الروائي، و حتى المخرج السينمائي، عن طريق تطوير و تنظيم مواهبهم الخاصة، يعبّرون عن اللاوعي الجمعي و يكشفونه على الصفحات أو الكانفاس أو الشاشة. وفق هذه الرؤية تتقوّض مسألة الحدود و القيود المفروضة على الفعالية الفنية.

* هل بالإمكان استهلاك اللاوعي؟ هل يمكن أن يكون له تخوم و نهايات؟ هل تنتهي الأحلام في أي وقت؟
-  إن نشاط حلم الجنس البشري، الذي  يبدو آلياً، يصبح تقنية فنية، لغة بصريات، رموزا. و الفنان عبر إبداعه يعي الوسيلة لترتيب شيء موجود سلفا، و جعله يزهر أمام الحواس و العقل. ذلك هو النموذج الأصلي للإبداع الذي يحدد نفسه المرّة تلو الأخرى، السفر من الفوضى إلى التناغم، من ما هو مختلط و مراوغ إلى النظام و الاكتمال، من اللاوعي إلى الوعي. بالنسبة للفنان، أظن أن الإحساس بالفعل أقوى من الإنجاز نفسه.
يبدو لي أن أي شخص يعمل للتعبير عن شيء فإنه يعمل من خلال ذلك التعبير و يسعى قبل كل شيء إلى توصيل مبرره الخاص للوجود و سعادته الخاصة. و أي نقد يتجاهل ذلك الشرط يصبح شكلا خطيرا، ضبابيا، من أشكال حب الذات. بزهوه و غروره يقود النقاد إلى الحديث بحماقة عن ما هو نفسه قد فعله. بالتالي هو تقريبا يخون الظاهرة المتعذر تعريفها أو تحديدها داخل نفسه.

* نأتي الآن إلى "كازانوفا".. ما هو أول شيء يخطر في ذهنك بشأن هذا الفيلم؟
-  تعبيرات وجه (الممثل) دونالد سوذرلاند القلق، المذعور، الذي غرز في داخلي الخوف من الفخاخ، الشراك، الخيانات. في كل مرّة أقترب منه لاقترح ما ينبغي عليه فعله، يتصلـّب و يتشنج مثل شخص يستشعر خطرا لا يستطيع الإفلات منه. كنت أشعر برغبة في الضحك (تلك المخاوف كانت هزلية حقا) لكنني كنت أكبح ذلك لئلا أتسبب في تعقيد الأمر، إذ قد يعتقد أنني أهزأ به، و عندئذ سوف تمتلئ عيناه بالدموع، و قد يفضي ذلك إلى تخريب مكياجه و أهدابه الزائفة و شعره المستعار.
أنا مقتنع بأن هذا القلق و الاضطراب له خاصية أنثوية. هذا الحياء الدائم، هذا الحذر و التحفظ لا شك أنه يؤثر في شخصيته، يجعلها تبدو غريبة، نائية، شبحية.. تماما كما تخيلت أن تكونه شخصية كازانوفا.
"لكن يا عزيزي فيفي، لماذا ينبغي أن تكون شخصية كازانوفا على هذا النحو الذي رسمته؟".. يسألني المنتج الأمريكي المبعوث من قبل استوديوهات يونيفرسال، و هو رجل ضخم ذو وجه محبوب يشبه الممثل والتر ماثو، و الذي يصر على اختصار اسمي إلى "فيفي". له يدان بالغا الضخامة أشبه بوسادة، و التي بهما يعصر يديّ محاولا أن يجعلني أفهم وجهة نظره:
"كازانوفا حياة! هو الحياة.. إنه القوة، الشجاعة، الإيمان. هو لذة العيش. تفهمني فيفي؟ لم جعلته يبدو أشبه بالزومبي (الميت الحي)؟
و أنا أنظر إلى وجه هذا الأمريكي الضخم و اللطيف، الذي حقق –كما يزعم- مقداراً وافراً من الأفلام مع جاري كوبر، كلارك جيبل، جون كراوفورد، جون هيوستون، بيلي وايلدر.. هذا الأمريكي الذي كان –كما يزعم- صديقا حميما لثلاثة أو أربعة رؤساء للولايات المتحدة، و كان كل سبت يدعوه الرئيس نيكسون ليستشيره في شؤون البلاد..و أنا أنظر إلى وجهه في حيرة، لا أعرف بم أجيب، تمتمت أخيرا متحدثاً عن الغشاء الداخلي في الرحم و الذي يحيط بالجنين مباشرة، و أن كازانوفا كان حبيساً في هذا الجيب أو الكيس الذي يمثـّل الأم-السجن، أم-البحر المتوسط-بحيرة-فينيسيا، و الولادة تتأجل باستمرار، لا تتحقق أبدا.. ثم أضيف قائلا من غير تفكير: "كازانوفا لم يولد أبدا. حياته هي لا حياة.. تفهمني؟"
عندئذ يرتسم الأسى على وجه الأمريكي الضخم و يهز رأسه في حزن: "فيفي، فيفي.. هذه استمناءات ذهنية، ألعاب فكرية"..
ثم يبدأ في إخباري عن وقت كان فيه يغيّر نهاية قصة كتبها ترومان كابوتي و كيف أن "ترو" (يقصد ترومان) يعتبره الآن أباً له، و لا يكتب سطرا قبل أن يتصل به هاتفيا و يستشيره. و يخبرني كيف جعل المخرج بريستون ستيرجز يعيد كتابة إحدى سيناريوهاته ست مرات. أما اليوم الجدير بذكره فهو عندما طلب من مارلون براندو أن يزيل شاربه و يخفف وزنه سبعة أرطال.
لقد سبق أن قلت بأنني لا أشاهد أفلامي ثانية، لذا أنا لست في وضع يسمح لي بأن أقدم حكما أو أطرح رأياً موضوعيا و غير متحيّز عنها. لكن "كازانوفا" يبدو لي أكثر أفلامي اكتمالا و جرأة.
أنت وصفت الفيلم ذات مرّة بأنه نسخة سينمائية عن قصة رعب.. و تلك المرّة الأولى التي لم أتفق فيها معك.

* حققت فيلم "بروفة أوركسترا" للتلفزيون. هل فعلت ذلك بسبب الأزمة التي تمرّ بها السينما؟
-  مضى على اشتغالي في الأفلام ثلاثون عاما، و في كل عام أسمع من يقول أن هذا هو العام الأخير، و أن السينما انتهت.. ماتت، و أن عليّ أن أعود إلى الخربشة و رسم الإسكتشات للجرائد، أو أن أتصل بناشر ما ليطبع لي كتابا، أو أن أعود إلى دراسة القانون لنيل الدكتوراه.
منذ متى كفّ الناس عن الذهاب إلى السينما؟ و كم مرّة وجهت إلينا الدعوة لتشخيص الحالة؟ استحضرنا مختلف الأسباب: الناس صاروا يخشون الخروج ليلا. أسعار التذاكر مرتفعة. التلفزيون. السينما تأكل ذيلها، تجده شهياً فتواصل التهامه. التساهل (واقع أنك، في هذه الأيام، إذا مارست الحب في سيارتك فإن متلصصاً ما سوف يتفرج و يصفق لك استحسانا، أو أن قاتلا مجنونا سوف يعتدي عليك و على فتاتك، و كل ما سوف يناله من عقاب مجرد غرامة و تأنيب رسمي)
الناس لا يرتادون صالات السينما إلا في فترات متباعدة لأنهم يفضّلون السياقة أو الذهاب إلى رحلات الصيد. الآن باتوا يقضون عطلة الأسبوع في أماكن لا يمكن بلوغها على وجه الأرض.. إذن ما الغرض من تصوير تلك الأماكن الجميلة في الفيلم في حين تأخذك الطائرة –أنت و عائلتك- إلى هناك صباح كل سبت؟
أحد الباحثين قدّم تحليلا عميقا عن أزمة السينما قائلا بأنها تنبع خصوصا من واقع أن السينما قد استنفدت كل القصص المتيسّرة و المحتملة، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، و أننا –في الوقت الحاضر- نريد ما هو أكثر من السينما، نريد شيئا من العلمي و الاجتماعي و الديني و الفلسفي. باختصار، السينما التي هي حقا مرآة عميقة فيها لا ننعكس كما نكون الآن فحسب، بل أيضا كما كنا، و كما سوف نكون.. و من يدري، ربما كما ينبغي أن نكون. حقا، أود أن أر كيف سيبدو شكل المنتج و ردود فعله و هو يصغي باهتمام إلى مشروع سينمائي مقترح يلبّي تلك الشروط.
السينما، في رأيي، فقدت السلطة، الاعتبار، الهيبة، الغموض، السحر. الشاشة العملاقة التي هيمنت و حكمت جمهوراً كان يحتشد أمامها بإخلاص و حب شديدين، لم تعد تسحرنا و تأسرنا.
ذات مرّة، هذه الشاشة هيمنت على مخلوقات ضئيلة كانت تحدّق مفتونة إلى وجوه هائلة، شفاه، عيون، تحيا و تتنفس في بُعد آخر لا يمكن بلوغه، وهمي و حقيقي في آن. أشبه بحلم. الآن تعلمنا أن نهيمن عليها. صرنا أكبر منها. أنظر إلى أي مدى استطعنا تصغيرها و تحويلها و إخضاعها. ها هي الآن بحجم وسادة، موضوعة بين المكتبة و الأصيص. أحيانا نضعها في المطبخ، قرب الثلاجة. لقد أصبحت خادمة منزلية كهربائية، و نحن الجالسين في استرخاء على الكراسي، المسلحين بجهاز التحكم عن بُعد (الريموت كونترول) نمارس سلطة كلية على تلك الصور الصغيرة، رافضين كل ما هو غريب و غير مألوف و مضجر بالنسبة لنا.
في صالة السينما، حتى إذا لم نكن نحب الفيلم، فإن سحر و جاذبية و حجم تلك الشاشة الهائلة تجعلنا نمكث جالسين أمامها حتى النهاية.. إن لم يكن بدافع آخر، فبسبب اقتصادي، ذلك لأننا دفعنا ثمن التذكرة. أما الآن، و بنوع من الثأر و الضغينة، عندما يطالبنا الشيء الذي ننظر إليه بانتباه و اهتمام أكثر مما نرغب في توجيهه و إبدائه، فإننا نسارع إلى الضغط على الزر لنخرس الشخص المتكلم، و نمحو الصور التي لا تثير اهتمامنا.
هنا نحن السادة. كم هو مضجر بيرجمان هذا. و بونويل.. من قال أنه مخرج عظيم؟ ليخرجا من بيتنا. نريد أن نشاهد المباراة أو الاستعراضات الغنائية.
هكذا وُلد المتفرج المستبد، الحاكم المطلق، الذي يفعل ما يريد، و يقنع نفسه أكثر فأكثر بأنه المخرج أو –على الأقل- منتج الصور التي يشاهدها. كيف يمكن للسينما أن تجذب هذا النوع من الجمهور؟ المنتجون و المخرجون الأمريكان يحاولون أسر انتباه جمهورهم المستقل، الحيادي، اللا مبالي عن طريق تقديم مشاهد تتسم بالأبهة و الفخامة، تحتوي على مغامرات مذهلة، كوارث كونية، سحر، رعب، أشياء لا يمكن التنبؤ بها، أشياء لم تُعرض من قبل و لم يُسمع عنها. باختصار، العودة إلى البداية، إلى سينما جورج ميليه، إلى المدهش و الخارق.
في هذه المشاهد الأمريكية الفخمة أجد نزوعاً إلى التزيين، الإبهار، الاهتمام بالمناظر و المؤثرات الحسية.. و كلها تعمل على إلحاق الأذى ليس فقط بالإحساس بالقصة، لكن أحيانا بالقصة نفسها. إنها السينما التي يختفي عنها المؤلف المبدع. إنها سينما المهندسين و تقنيي المؤثرات الخاصة.. هؤلاء هم الذين ينالون الإطراء و التصفيق الآن.
النموذج المثالي، كما في حالة فيلم ستانلي كوبريك "2001 أوديسة الفضاء"، أن تكون هذه المعدات التقنية الاستثنائية و الرائعة في خدمة الفكرة، الإحساس، خيال المخرج المؤلف.. حين يحدث هذا ستكون النتيجة مدهشة، و السينما سوف تعود إلى الحقل الذي لا يماثله أي حقل فني آخر.. لا المسرح و لا الأدب و لا الموسيقى و لا الرسم.. بالأحرى، كل وسائل التعبير الفنية تنصهر معا.
هل بالإمكان خلق مثل هذه السينما هنا، في إيطاليا؟.. لا اعتقد. المبدع الذي يريد أن يخلق هذا النوع من السينما لابد أن يتوفر له متعاون استثنائي، رائع، مفعم بالحيوية و النشاط، و يتعذر استبداله.. هو البنك. و المصرفيون الذين يقلقون بشأن أزمة السينما عندنا، بصدق، عددهم قليل جدا. أعلم أن أصدقاءنا المنتجين يدعون إلى إصدار قانون يحمي سينمانا و يمنع تركها تختنق حتى الموت. عندما يشرحون لي بصبر كيفية تمرير مثل هذه القوانين، يتراءى لي بأنهم محقون. مع ذلك أعتقد أن تدخل الدولة الهادف إلى الحماية يولـّد لدي إحساس بالخجل.
العمل للتلفزيون؟ إنه يعني دخول ذلك المحيط من الصور الضبابية المربكة، دخول في خليط يلغي نفسه، هو بديل عن الواقع كماً و كيفاً.
لدي إحساس بغيض بالمشاركة في فيض كوارثي من الصور التي يخضعنا التلفزيون لها كل دقيقة من النهار و الليل. إنه يطمس أية فجوة بين الحقيقي و البصري، و يستعيض عن ذلك بنوع  من اللا واقع الذي إليه ينبغي أن تتعوّد طريقتنا في النظر: مرآتان كل منهما تواجه الأخرى، تنسخان نفسيهما برتابة لا متناهية و خواء هائل. إنها ليست مسألة أسلوب أو جماليات، أنا حتى لا أعرف أية لغة أستخدم للفيلم التلفزيوني.
حققت "بروفة أوركسترا" للتلفزيون نظراً لتوفر المرونة: آلية إنتاج أكثر طواعية، أقل جهدا، أقل ضخامة. لم أكن مثقلا بالمسؤولية، بالتالي كنت قادرا على رؤية المشروع كله بطراوة و عفوية أكثر. بصرف النظر عن ذلك، لم أفعل شيئا مختلفا عن العادة. أعني، ضمن حدودي و ببضع ليرات تحت تصرفي، أن أروي القصص، أن أتبع ميلي الطبيعي نحو المدهش، أن أعبّر كما الحال دائماً عما يبدو لي رؤية مقلقة أو ملغزة أو آسرة.
باختصار: مع أن ذلك قد يبدو متناقضاً ظاهرياً أو مضحكاً أو وقحاً أو استفزازياً، إلا أنه يبدو لي أن المجرى الوحيد الذي على السينما أن تسلكه هو أن تصنع أفلاماً أفضل، أعلى جودة، أكثر جمالا و ذكاء، و إلا سوف يتعين علينا أن نسلـّم أنفسنا إلى حقيقة أن من الآن فصاعدا السينما سوف تنتمي إلى موظفي الأرشيف لتخزينها مع العديد من الأمثلة الأخرى عن فترات تاريخية خلال القرن العشرين. و سرعان ما سوف نقول: إذا كان القرن التاسع عشر هو عصر الميلودراما، فإن القرن العشرين كان قرن السينما.





لون الذاكرة

* فيلمك "بروفة أوركسترا" أثار الكثير من ردود الفعل المختلفة و المتباينة.. ما الذي لا يزال عالقاً في ذاكرتك من هذه الاستجابات؟
-  إذا كان عليّ تحديد استجابة الجمهور، المباشرة و غير المباشرة، فإنني بصراحة أجد صعوبة في تصنيف فيلمي. كيف يمكن حقا استرضاء مشاعر أولئك الذين علـقوا بأسف بعد مشاهدة الفيلم: "كم هو مخجل أن لا ينتهي الفيلم حين بدأت الأوركسترا تعزف كمجموعة متكاملة و متناغمة مرّة أخرى! لكن ما سبب إقحام الحوار الألماني؟ ما الغاية؟ ما الذي يعنيه ذلك؟"
كيف يمكن التوفيق بين الفيلم و الملاحظة المجنونة التي أبداها ذاك المعتوه (لابد أن يكون معتوهاً تماما حتى يفسر الفيلم بتلك الطريقة) و نحن في غرفة إيداع المعاطف بالمطعم، و فيما أرتدي معطفي، مال صوبي و همس في ارتياح وحشي قائلا: " لقد شاهدت فيلمك.. أنا أساندك.. نحن حقا بحاجة إلى العم أدولف (هتلر) هنا".
سؤال مثير للقلق: هل بالإمكان، في أي وقت، أن يعرّض فيلم ما نفسه إلى خطأ شنيع إلى هذا الحد؟ ما الذي يعنيه ذلك؟ ما الذي يثير أو يحفز أو يكشف رد فعل بعيد جدا و غير متوقع على الإطلاق؟
في عالم اليوم، مع تقوّض البنى التنظيمية، و انهيار القيم و المعالم الهادية، يستجيب كل فرد منا، بهلع و تخبط، إلى التشوش و المرض و الشر الذي يحيط بنا. إننا نعمّم أمراضنا الذاتية و نسقط مخاوفنا و رغباتنا الشخصية على كل ما يحيط بنا.. سواء أكان فيلما أو حدثا.
ربما تلك هي الطريقة التي كان يتعيّن على الفيلم سلوكها من اللحظة التي عرض فيها الحالة الجنونية و الانحدار نحو اللاعقلانية. بما أن تلك الحالة كانت مروعة و رهيبة، فإننا نستجيب عن طريق اقتراح شكل من الجنون المؤسس المنظم، تماما كما في حالة الديكتاتورية.
التفكير السائد: إذا السياسة لا تعيرنا انتباهاً فإننا نوجّه انتباهنا إلي السياسة التي تتحكم بنا كليا. لكن ذلك الذي ينشد الحماية يجب أن يهيئ نفسه لأن يكون محمياً حتى الحدود القصوى.

* فيلمك "مدينة النساء" أيضا يقدم ثيمة حديثة. إذا طلبنا منك أن تنبش ذاكرتك، فما هي الصورة الأولى التي سوف تنبثق و تتجلى؟
-  مارشيلو ماستروياني. مارشيلو العزيز الرائع. صديق حكيم، مخلص، أمين. نموذج للصديق الذي لا تجده إلا في القصص الإنجليزية. نادرا ما نلتقي، و أحيانا لا نرى بعضا لسنوات طويلة.. ربما ذلك هو أحد أسباب متانة صداقتنا. الصداقة التي لا تطالب بشيء، لا تطوّق العنق بمنّة أو فضل، لا تضع شروطا، لا تسنّ القوانين و لا تعيّن التخوم. صداقة جميلة حقا قائمة على الارتياب الصحي المتبادل.
العمل مع مارشيلو متعة و بهجة: لبق، سلس، عفوي، متـّقد الذهن. إنه يخطو مباشرة داخل الشخصية دون أن يطرح الأسئلة أو حتى يطلب قراءة السيناريو. كان يقول: "أين المتعة في معرفة ما سوف يحدث سلفاً؟ أفضّل أن أكتشف ذلك تدريجيا، يوما بيوم، مثلما تفعل الشخصية. أفضّل أن أعيش حالة الشخصية التي لا تعرف ما سوف يحدث لها".
مارشيلو يبيح نفسه للتشكل وفق منظور المخرج، لا يعترض على ماكياج أو لباس أو تسريحة شعر، و لا يطلب إلا الأشياء الأساسية التي لا غنى عنها. معه كل شيء يكون هادئا، رائقا، مريحا، و طبيعيا.. ذلك النوع من الطبيعية الذي يبيح له أحيانا أن ينام و هو على خشبة المسرح.
في  ذلك المساء، حين كنت أتحدث إليه عن "مدينة النساء" و دون أن أخبره بأنه مرشّح لتأدية الشخصية الرئيسية –المنتج وقتذاك كان مصرّا عل دوستين هوفمان- كان مارشيلو يصغي دونما اهتمام مثل شخص يعرف أن الأمر لا يعنيه لكنه مضطر بدافع الصداقة أو المجاملة أو الكياسة إلى إظهار فضول فاتر.
كنت أقول له: إنها قصة رجل يدرس المرأة على نحو شامل، يتأمل كل مظاهرها و هو مفتون بها لكن في الوقت ذاته تدهشه و تصعقه. إنه ينظر إليها دون أية رغبة في فهمها. بالأحرى، هو يجد لذته في البقاء مشدوها، مفتونا بها، مفعما بالابتهاج، مشوشا، و شغوفا إلى حدٍ ما. إنه يبحث عن امرأة، عن المرأة، لكنه لا يرغب أبدا في إيجادها. ربما هو خائف، ربما يظن أنه بإيجاد المرأة و امتلاكها سوف يستسلم، يخضع، يختفي، يموت. لذا هو يؤثر أن يستمر في بحثه عنها دون أن يصل إليها أبدا.
سردي لقصة الفيلم على ذلك النحو المؤثر، المحرك للمشاعر، أزعجه قليلا. لذلك واصلت سياقة السيارة في صمت. مارشيلو أيضا التزم الصمت. تحاشينا النظر إلى بعضنا البعض لفترة طويلة. لكن في تلك اللحظة، اتخذنا قرارا مشتركا –دون أن نصرّح به- أن نعمل معا في تحقيق "مدينة النساء".

* وصلنا الآن إلى فيلمك الأخير.. أولئك الذين عملوا معك أكدوا أن كل شيء مضى بيسر و سلاسة، دون توترات و عراقيل كالتي صادفتك في أوقات أخرى. مواعيد التصوير تم التقيد بها في انضباط صارم تقريبا .. هل الفضل في ذلك يعود إلى الإنتاج أو إلى مزاجك الرائق آنذاك، أم إلى شيء آخر؟
-  فيلمي "السفينة تبحر" أصبح الآن خلفي، و لا أتذكر إلا القليل عن العمل فيه. و صراحة صرت لا أذكر الكثير مما كان يحدث لي أثناء العمل في الأفلام الكثيرة التي حققتها. وحدها التفاصيل العادية، المبهمة، التي لا تعني شيئا هي التي تمكث في الذاكرة: سترة الميكانيكي الخضراء، المشاهد المصورة في المواقع الخارجية حيث المطر يطرق على الخيمة البلاستيكية التي ارتجلناها، و نحن نحتشد معا هناك داخل خندق في الظلام".
يتعيّن علي أيضا أن أبذل جهدا موجعا ( بقدر ما يتعلق الأمر بي هو جهد عقيم) من أجل تذكر جو أحد أفلامي، و الذي جوهرياً لا يتغير أبدا. ربما هذا هو السبب الذي يجعلني لا أصدق إنني في الرابعة و الستين من عمري، و أنا الذي كنت لتوي جالسا في الأستوديو أدير جهاز العرض و أغلقه، أو أزعق عبر البوق سائلا عن وجبة الغداء وقت الاستراحة,
لا أظن أن العمل في "السفينة تبحر" سار على نحو أكثر يسراً و سلاسة مما حدث مع الأفلام الأخرى. ربما كان الأمر يبدو كذلك بالنسبة للآخرين و ذلك ببساطة لأن التصوير توافق بدقة مع عدد الأسابيع المخطط لها في جدول التصوير.
لا توجد شروط مثالية لتنفيذ فيلم ما. و في أفضل الأحوال، الشروط هي دائما مثالية، بما أنها تتيح لك أن تحقق الفيلم بالطريقة التي تحقق بها أفلامك عادة. مهنتنا توحّد الصرامة و المرونة. علينا أن نكون حازمين، لكن في الوقت نفسه منفتحين و مرنين و مستعدين لاحتواء أي مقاومة أو خلافات أو نزاعات أو أخطاء. غير المتوقع لا يشكل دوما معضلة، بل هو في أحوال كثيرة مصدر عون. كل شيء هو جزء من العمل في الفيلم.. كل شيء هو الفيلم.
أنا و تونينو جويرا كتبنا "السفينة تبحر" منذ فترة –و كما سبق أن قلت في موضع آخر- لأنه كان علي أن أعبّر عن فكرة ما، لكنني لم اعد أتذكر إلى من عبّرت. بعد يومين أو ثلاثة من الثرثرة المبهمة و التفكير غير المجدي توصلنا إلى الحبكة و السيناريو صار جاهزا خلال ثلاثة أسابيع فقط. إذا ظننت أن ثلاثة أسابيع تبدو غير كافية لانجاز سيناريو جيد، خذ بعين الاعتبار حقيقة أن من التلميحات الأولى للقصة و حتى الشروع في التصوير ثلاث سنوات قد انقضت. و يبدو لي أن ثلاث سنوات هي فترة طويلة لضمان توقع فيلم جدير بذلك.
و كما يحدث معي بانتظام لمدة 15 سنة، العيش فترة طويلة مع مشروع سينمائي ينتهي بي إلى الإحساس بالكراهية تجاهه، أحاول أن أتخلص منه، و لا أعود أرغب في الاشتغال عليه. عندما أصل إلى هذه الحالة يبدأ الشروع الفعلي في تنفيذ الفيلم.
الآن و قد تم انجاز "السفينة تبحر"، لا أعود أستطيع أن أخبرك كيف كان شعوري الأصلي تجاهه. فقط حقيقة أن الفيلم يوجد.. ما كنت أريد أن أفعل به قد ذاب و تلاشى. أذكر حديثي السابق عن شخصيات آسرة على نحو مثير للمشاعر و التي لها سحر الأفراد المجهولين في الصور الفوتوغرافية. قلت بأنني أردت أن أحقق فيلما بأسلوب الأفلام الأولى، و بالتالي توجّب أن يكون بالأسود و الأبيض.
لا أعرف كم من تلك النوايا و المقاصد بقيت في الفيلم، لأن خلال التصوير الأشياء تحدث على غير توقع. ربما في هذه المرّة أنا كرّست عناية أكثر قليلا من المعتاد في انتقاء الوجوه. اعتقدت أنني كنت بحاجة إلى الوجوه التي، واقعيا، كانت تبدو أنها تنتمي إلى أولئك الأفراد الذين لم يعد لديهم وجود، أفراد ضاعوا في الزمن و الذين يلامسوننا و يثيرون فينا الفضول بسبب تلك التسريحة العتيقة، وذاك اللباس القديم الذي عمره مئة سنة، تلك الطريقة في الابتسام، في تثبيتنا بنظرة ضاعت إلى الأبد و التي تفشي بإحساس بالتاريخ، قصة الحياة. خطر لي أن ممثلين من قطر آخر، من مجتمع آخر، بأساليب و عادات مختلفة، ربما بإمكانهم التعبير على نحو أفضل عن ذلك النوع من النأي، عن تلك الخاصية المغايرة، المحركة للمشاعر. أظن أن ذلك هو السبب الحقيقي، إلى جانب العديد من الممثلين الإيطاليين في هذا الفيلم، وراء اختيار ممثلين بريطانيين و فرنسيين و ألمان و الذين يبدون أكثر حقيقية لأنهم يؤولون شخصيات تنتمي إلى جنسياتهم الخاصة.
محاطا بصور فوتوغرافية لوجوههم المعلقة على جدران مكتبي الصغير في استوديوهات شنيسيتا، شعرت بالحاجة إلى تطوير قصصهم إلى مدى أبعد، أن أحفر بعمق أكثر في علاقاتهم، أن أضيف أصدقاء، آباء و أمهات، معارف جدد، أن أخترع أوضاعا جديدة.. باختصار، أن أقوم برحلة معهم.. ذلك لأن الفيلم عبارة عن قصة رحلة، رحلة بحرية لإنجاز طقوس ما، رحلة من المفترض أن تحدث قبل سبعين سنة عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى.

* لكنك صورت "السفينة تبحر" بالألوان ثم قمت بعكسه بحيث أننا نرى أجزاءً معينة بالأسود و الأبيض. هل ثمة علاقة هنا مع فيلمك "ثمانية و نصف"، حيث "الواقع" مصور بالأسود و الأبيض و"الحلم" بالألوان؟
-  الفيلم يحكي عن عالم بعيد والذي عاش وعانى في فترة لم يكن لأحد منا وجود فيها. أردت من شخصيات القصة أن تنقل الإحساس ذاته الذي تشعره عندما تنظر إلى صورة فوتوغرافية قديمة، شبحية و مشوبة بالصفرة مع تدرجات اللون البني الداكن. أعتقد حتى عندما تكون هذه الصورة ملوّنة و مؤسلبة، فإن مشاعرنا سوف تتدخل و تغيّر اللون أو تزيله، تجعلها شبحية، ذلك لأن أولئك الأفراد، بالنسبة لنا، مجرد ظلال، أشباح. لهذا السبب كان لتصوير الفيلم طابع لوني غير مألوف: الألوان الحمراء و الزرقاء و الخضراء تفقد قوة الواقع من أجل اتخاذ الأشكال الغامضة والدرجات المضبّبة للذاكرة.
كما في كل الرحلات عبر الزمن أو الغزوات نحو تجاويف الماضي، الواقع المتحقق و المستحضر يعطي إحساساً بالأثر، بالتذكار. إنها وثيقة مستردة من الأعماق، من غبار موقع يتم فيه التنقيب عن الآثار، من الرمل الذي يغطيها في قاع البحر. الصورة التي، بطريقة أو بأخرى، تصبح محرّفة، محجبة، مهزوزة. دائما هناك شيء بيننا و تلك الصور. ذلك الحجاب، تلك المسافة، أردت دوماً أن أحفظها على الشاشة، أن أفشي بالعملية التي تخطر في أذهاننا مع مرور السنوات.. العملية التي بها تظهر الذكريات على نحو ملائم باعتبارها زائلة، متموجة، متقلبة.
لا شيء مشترك بين هذه العملية، استخدامي للون هنا، و استخدامي السيئ للون في فيلمي "ثمانية و نصف"، و الذي قرّرته بغباء الوحدة الإنتاجية ضد مشيئتي، إذ كانت تفكر، بسذاجة و بلاهة، أن التباين بين الألوان والأسود والأبيض سوف يسهّـل على الجمهور التمييز بين الواقع والحلم، و بالتالي يسهـّل فهمهم للفيلم.

* بوجه عام، ما المشاكل التي تواجهك في المهمات و الواجبات التي تلي عملية التصوير؟
-  أي متعة تجدها في عمل يخلو من المشاكل؟ كل مرحلة من العمل السينمائي ينطوي على صعوبات غير متوقعة، و جزء من عملك أن تتغلب عليها أو أن تحاول التعايش معها.
بالنسبة لي، إعادة تسجيل الصوت هي واحدة من أكثر المراحل مشقة و تطلبا. إذ يتعين علي أن أعيد كتابة كل الحوارات، لأن طريقتي في تحقيق الفيلم تمنعني من استخدام حتى متر واحد من التسجيل الصوتي الأصلي. ها هنا الجلبة و اختلاط الأصوات: أصوات أممية تنتسب إلى جنسيات مختلفة، لهجات، صلوات، أصوات تسرد بدلاً من تقديم تلميحات، أصوات تخبرنا – بناء على طلبي- عن ما أكلته ليلة البارحة. عملية إعادة تسجيل الصوت تشبه عملية إعادة صنع الفيلم، هذه المرّة وفقاً لضرورات التسجيل الصوتي، والذي أحيانا يطرح مشاكل لفظية لا تقل حجما عن المشاكل البصرية.
المرحلة الرهيفة الأخرى هي عملية المونتاج. أثناء التصوير لا أمانع أبدا في الزيارات التي يقوم بها الأصدقاء أو المعارف أو، كما هو حاصل الآن، حيث تدخل علينا صفوف من الطلبة بكل ضجيجهم و فضولهم (في الواقع لا تزعجني تعليقاتهم و ملاحظاتهم بل أشعر بالتحفيز و الإثارة).. لكن في غرفة المونتاج الصغيرة لا أطيق و لا أسمح بحضور أي أحد ما عدا المونتير و مساعده بالطبع. لابد أن أكون وحيدا هنا. هذه هي المرحلة التي فيها يشرع الفيلم في الكشف عن نفسه، عن ما يكونه، عن حقيقته. ذلك يشبه فعل الخلق الذي يجترحه دكتور فرانكشتاين و هو واقف أمام مخلوقه المسخ، المركـّب من أجزاء تشريحية متنوعة، و يجعل النقـّالة التي تحمله ترتفع إلى سماء ملبدة بالغيوم، مشحونة بالبروق و العواصف، ليتلقى الحياة بفعل الضوء المصحوب بالرعد. بالمونتاج يبدأ الفيلم في التنفس، في التحرك، في النظر إليك مباشرة.










ثمة وحيد قرن في فيلمي

* قبل إرسال فيلمك (السفينة تبحر) إلى مهرجان فينيسيا السينمائي، هل أتيح لك أن تعيد مشاهدته عدة مرات؟ هل قمت بتصحيح أو تنقيح أو تشذيب أي تفصيلة فيه، أم – وهذا ما يحدث غالبا- تم انتزاع الفيلم من يدك ليصل قبل الموعد النهائي؟
-  كما قلت في مناسبات أخرى، بودي أن أتمكن – حال اكتمال الفيلم- أن أدعه شهرا على الأقل دون مشاهدته، دون التفكير فيه، دون التحدث عنه، بحيث أستطيع بعد ذلك أن أعاينه و أفحصه بهدوء أكثر، بصفاء أكثر، و تكلف و ارتباك أقل بسبب الاستعجال. لكن ذلك لا يحدث أبدا.
مع "السفينة تبحر" سارت الأمور كما الحال دائما. بعد المونتاج، قمت بعرضه مع شريط الصوت المؤلف من صوتي، زعيقي، اقتراحاتي. هذه النسخة نسميها "نسخة عمل"، و التي هي، صدقا، النسخة الأكثر جمالا لأنها لا تزال مشوشة، مضطربة، كثيرة الأخطاء. بتلك الطريقة تنظر إلى فيلمك متوهما أنه في ما بعد سوف يصبح الفيلم الأكثر فتنة و إغراء و سحرا.. لكن هذا نادراً ما يحدث.
عادة، بالنسبة لهذا النوع من العرض، الأضواء تكون باهتة أو معتمة، و الصوت معدّلا. إني أترك الصديقين أو الثلاثة الذين دعوتهم (نفس الأشخاص دائما لأنني أثق بهم و أعرف أنه مهما بدا العمل فسوف يخبرونني بأنه قد أعجبهم) و أمضي متشمماً و أنا أذرع حجيرة العرض، أتحدث مرتين مع مشغل جهاز العرض (البروجكتر)، ألقي نظرات سريعة عبر الزجاج متجسسا كما لو مصادفة. و فيلمي هناك، بعيد جدا عني، يتحرك على الشاشة التي تبدأ في تأدية مهمتها الإغوائية. أو، بينما العرض يستمر، أخرج و أجلس على درجات السلـّم المؤدي إلى غرفة العرض في استوديوهات شنيسيتا، حيث يشم رائحتي من بعيد قطيع من الكلاب التي تحتل الأستوديو في الليل.
أحد الأصدقاء أخبرني بأن فيلمي "فظيع".. نحن نفهم بعضنا البعض، هو لا يشير إلى خاصية الفيلم بل يعني بالأحرى أنه تأثر به كثيرا. مبدع الفيلم، المبتهج بفكرة أنه رأى شيئا فظيعا، يشعر أن الفيلم مهم و ذو شأن. لكنني في هذه الحالة لا أتفق مع صديقي. إني أجده مبهجا. يبدو لي أشبه بالفيلم الذي يجعلك ترغب في تنفيذ فيلم آخر مباشرة و فورا.

* كنت دائما تشعر ببغض شديد للمهرجانات السينمائية العالمية، مع ذلك فقد ذهبت إلى مهرجان فينيسيا.. لا تقل أنك كنت مضطراً لحضور المهرجان...
-  لنكن صريحين. كل شخص، كما تعلم، يرغب في حضور المهرجانات، حتى أولئك الزملاء الذين هاجموا في الماضي مهرجان فينيسيا على نحو غير مسؤول ثم وجدناهم يهرعون صوب مهرجان كان مرتدين السترة الخطافية و القبعة العالية.
ثمة مجازفة في حضور المهرجانات، هذا صحيح، لكن ذلك ينطبق على كل حلبة تجري فيها منافسة ما. في النهاية، حتى عدم المشاركة هو مجازفة. من جهة أخرى، عندما يكون المنتج سعيدا، و الموزع فرحا، و الممثلون و الممثلات يشعون بهجة، فلماذا نفسد كل هذا الفرح و اللهو؟ كما أن مدراء المهرجان يستقبلونك مؤكدين أن لا مجازفة في المسألة ما دمت خارج المسابقة. و يبدو أنك، حين تبلغ سناً معينة، تكون أكثر تميّزاً و أنت تقدم فيلمك خارج المسابقة.
تحفظاتي، و من بينها رغبتي في التنافس، لأنني أعتبر ذلك أكثر تميّزا، غالبا ما تؤخذ –هذه التحفظات- كملاحظات عابرة. في الحقيقة، إذا هم ضمنوا لي الجائزة فسوف أتنافس برغبة و استعداد أكثر. و مادمنا نتحدث عن الجائزة: ألا يقولون دائما أن المهرجانات تشجع و تدعم الفيلم الذي، في النيّة على الأقل، لا يتردد على شباك التذاكر؟ إذن لماذا لا يقررون منح جوائز نقدية؟ أنا واثق بأن المهرجان الذي سوف يبادر إلى دفع شيكات قيّمة إلى أكثر الأفلام تميّزا سيكون من أكثر المهرجانات أهمية في العالم.
لقد حققت حوالي عشرين فيلما، و هذه هي المرّة العشرين التي توجّه إليّ الدعوة لحضور المهرجان. كان ينبغي للتجربة أن تجعل مني شكوكياً بعض الشيء، أو بالأحرى أكثر استرخاء. بدلا من ذلك، يجب أن أعترف بأن الأمر لا يزال مثيرا بل و مزعجا قليلا: الوصول إلى مقر الإقامة عبر زورق مزود بمحرّك أو عبر مرسيدس مكيّفة الهواء. أعلام من كل أنحاء العالم ترفرف على المباني التي تُعرض فيها الأفلام. حالات الذهاب و الإياب في اهتياج أو استرخاء. الموظفون العصبيون المبللين بالعرق في ردهات الفنادق الكبيرة. الالتقاء بمنتج يتعذر اجتنابه، ذي لكنة غريبة، بوجه زيتوني و لباس أبيض تماما، و الذي يدعوك لصنع فيلم لحسابه. و هناك أيضا المؤتمرات الصحفية.

* آه نعم.. المؤتمرات الصحفية. لا يبدو أنك تحبها كثيرا. لكن أ ليست هي جزء من مهنتك؟
-  أن أجد نفسي محتجزا خلف طاولة مع ميكروفونين أو ثلاثة تحت أنفي، شارحاً سبب وجود وحيد قرن في فيلمي، ليس هو الوضع المفضل لدي. أشعر بانزعاج تام و أنا أتحدث عن ما فعلته. ينتابني الإحساس غير المريح عندما أدافع عن نفسي بتزيين فيلمي، تلوينه، زخرفته بالكلمات، مخترعاً المبررات في محاولة يائسة لمنحه عمقا فكريا و جدّة بصرية. و أنا أتعامل مع كل هذا بجدية تامة. لا أحاول أن أكون موضوعيا. لست مفعما بالحيوية و النشاط: الخلاصة.. أنا مريض.
أحيانا أحاول تفادي المؤتمرات الصحفية، لكن تصرفي هذا قد يبدو للبعض غطرسة و فظاظة، حتى بعض الأصدقاء يشعرون بالانزعاج و الضيق.  لكن ذلك في الواقع مجرد جبن مني، إحساس بالانسجام، و لأنني لا أريد أن أكون مضجرا. إذا قلت أن ثمة وحيد قرن في فيلمي لأن اختصاصيين بحريين أكدوا لي أن في 1914 كان على كل سفينة أن تحمل وحيد قرن في عنبر السفينة، فإن الأصدقاء في الصحافة سوف يعتقدون، و هم معذورون، بأنني أحاول أن أروي نكتة. و لو قلت لهم، عوضا عن ذلك، أن في أحشاء السفينة، في أعماقها، يكمن ألهذا (الجانب اللاشعوري من النفس الذي يعتبر مصدر الطاقة الغريزية أو البهيمية)، يكمن لا وعينا، الجزء الحيواني منا و الذي يتخطى الزمن و المكان، و مع ذلك يساند و يعزز وجودنا، مرغما إيانا بالضرورة على التعايش معه، لو قلت هذا لشعر الجميع بالسعادة مع مثل هذه الإجابة، لكنني حتما سأشعر بشيء من السخف.
أنا أميل إلى أن يكون المؤتمر الصحفي صامتا بحيث نتطلع إلى بعضنا البعض، نتبادل الابتسام، نحيي بعضنا البعض بالتلويح بالأيدي، بل و نتبادل الهدايا، كل هذا دون أن ننبس بكلمة، بعدئذ يذهب كل واحد منا ليباشر عمله.

* بمشاهدة فيلمك مرّة أخرى في مهرجان فينيسيا، هل تكوّن لديك شعور مختلف عما توقعته؟
-  في هذا الموضع أيضا سوف أكرر ما سبق أن قلته. إنها عادة قاسية و التي تجعل سينمائياً ما يشهد كيفية مضغ و ازدراد و ابتلاع فيلمه في معدة صالة سينما هائلة. فيلمك على الشاشة له نبضه الخاص، و أنت تلاحظ أن للجمهور نبضا مختلفا. قلبان يخفقان على نحو غير متناغم إيقاعيا. هذه الثنائية، هذا الافتقار إلى التزامن، يخترق كيانك، يقلقك و يزعزعك، يعذبك، يجعلك عليلا.
لكن كيف تنقذ نفسك من هذا التعذيب عندما تجد نفسك جالسا قرب وزير أو امرأة جميلة أو الدوق الأكبر، و لا تستطيع أن تتسلل خارجا؟
إني أغمض عينيّ و أبدأ في تذكّر أحداث سابقة، لقاءات سارّة، مغامرات مغوية، كما أقوم بإجراء عمليات حسابية مثل: كم مرّة في السنة فعلت شيئا معينا. أيضا أتخيل أني أرد على نحو فوري على رسائل موجودة في جيبي. باختصار، أهرب بكل وسيلة ممكنة من عرض الفيلم الذي يدور أمامي بلا شفقة، و لا ينتهي أبدا.
من حين إلى حين أفتح عينا واحدة و أتطلع إلى فيلمي، الذي يجعلني حزينا بعض الشيء، متروكاً لمصيره الغامض أمام آلاف الأعين التي لا أحد يدري إلى ماذا تنظر و كيف تنظر. حتى بالنسبة إلى عينيّ، أفلامي أحيانا تبدو مختلفة. هذا يعتمد على المدينة التي أشاهد فيها أفلامي، و صالات السينما، و الأفراد الذين أكون برفقتهم. الأفلام متحولة، متقلبة، غير مستقرة، وفقاً للأوقات و المواسم التي فيها تُعرض هذه الأفلام. إنها تعكس مزاج صالة السينما: هل هي مضجرة؟ الفيلم بدوره يصبح مضجرا. الجمهور لا يفهم الفيلم؟ عندئذ يصبح الفيلم غامضا و متعذر الفهم أكثر من أي وقت مضى.
لهذا السبب أنا لا أرغب أبدا في مشاهدة أفلامي مرة ثانية، أو ربما فقط عندما أبلغ سناً متقدمة، حيث أكون قد نسيتها تماما، بإمكانها حينذاك أن تظهر لي كما هي حقا للمرّة الأولى.

* الشيخوخة مرة أخرى: هل تريد أن ننهي هذه المقابلة كما بدأنا؟ فلليني في الثمانين، فلليني في التسعين.. كيف ترى نفسك؟ ما هي مشاريعك المستقبلية؟
-  الذاكرة.. إنها تضعف و يعتريها الوهن. إني أعاني من مشكلة عدم تذكر أسماء الأفراد، إضافة إلى كلمات معينة أحيانا. قبل سنوات طويلة ظننت أنني، خلال شيخوختي، سوف أقرأ الكتب التي لم أقرأها و ظلت تنتظرني بإخلاص. سوف أتجول في أنحاء المتاحف التي لم أزرها قط: الهند، التبت. لدي صديق في بنارس، غالباً ما نتبادل الرسائل. ذات مرّة أخبرني أنه استطاع بطاقة ذهنه أن يجعل ذاتي الثانية تتجسد في حديقة منزله.. هذا العمل الفذ بدّد رغبتي في زيارته.
إني أعزّي نفسي بالتفكير في الشيوخ العظام الذين تحدثت عنهم سيمون دي بوفوار في كتابها الجميل. لقد قرأت، و أعدت قراءة، الصفحات المخصصة لتولستوي، فيردي، فيكتور هوجو. كنت آمل أن أجد بعض التماثلات بيني و بينهم..لكن، لا شيء.
قرأت في مكان ما أن الكاتب دانونزيو، عندما تقدم به العمر، أخذوه ذات أمسية لمشاهدة عرض مسرحي لإحدى تراجيدياته. العرض كان على شرفه، و كل الشخصيات الرسمية كانت هناك، إضافة إلى شخصيات اجتماعية بارزة. دانونزيو، الجالس في الصف الأول، طوال الوقت كان يضحك في استهزاء، يقاطع الممثلين، يوجه لهم الإهانات، و كان يريد أن يعرف من هو مؤلف هذا العمل السخيف السيئ، منتقدا الجميع بقسوة. و كلما اعترى العبوس الوجوه المحيطة به، و ارتسمت عليها أمارات الفزع و الاستنكار، ازداد الكاتب استغراقا في الضحك.

* سؤال أخير: ما الذي هو متروك لك لكي تقوله في فيلمك القادم؟
-  لا أعرف. بعد الكثير من الوفيات، بعد نيل الكثير من المتعة في تصوير الأنقاض و التفسخ، فإنني أرغب في إسعاد الناس.. النسوة خصوصا اللواتي، بنبرات محبطة برقـّة، و بترقـب مفعم بالأمل، يرددن بعد عرض كل فيلم لي: لكن لماذا لا تصور قصة حب جميلة؟



نبــذة

فدريكو فلليني:
ولد في 20 يناير 1920 بمدينة ريميني بإيطاليا، و توفى في روما، في 31 أكتوبر 1993 بعد إصابته بنوبة قلبية.
بدأ في كتابة السيناريو، لمخرجين آخرين، منذ 1943 و حتى 1952.

أفلامه كمخرج:
* أضواء حفل المنوعات (1950) بالاشتراك مع ألبرتو لاتوادا
* الشيخ الأبيض (1952)
* فيتولونيI, Vitelloni   (1953)
* الطريق La Strada  (1954)
* المحتالون )1955)
* ليالي كابيريا (1957)
* الحياة الحلوة La Dolce Vita (1960)
* بوكاشيو 70 (جزء – 1962)
* ثمانية و نصف (1963)
* جولييتا و الأرواح (1965)
* قصص غير عادية أو أرواح الموتى (جزء – 1968)
* ساتيريكون (1969)
* المهرجون (1971)
* روما (1972)
* أماركورد (إني أتذكر – 1973)
* كازانوفا فلليني (1976)
* بروفة أوركسترا (1978)
* مدينة النساء (1980)
* السفينة تبحر (1983)
* جنجر و فرد (1986)
* المقابلة (1987)
* صوت القمر (1990)

     




          


        

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire