jeudi 26 avril 2012

ثقافة سينمائية

  فلم
 
مفاهيم الفلم الفنية
عدنان المبارك


كان أرنولد هاوزر قد أسمى القرن العشرين بقرن الفلم . كما إعتبره خير من يمثل الفن المعاصر بالرغم من إعترافه بأن الفلم لا يملك أعلى القيم بعد. وجاء حكم هاوزر هذا في كتابه المعروف ( سوسيولوجيا الفن والأدب ) من خمسينات القرن الأخير . وأكيد أن نصف القرن الفائت هو عصر بكامله للفلم . فمنذها سيطر على وعي المجتمعات نوع جديد من الإتصال والتأثير يتمثل بالتلفزيون. وبات الجميع يعتقد بأن هذا الإختراع الألكتروني الجديد قد طرد الفلم من موقعه كمنّظم للمخيلة الجماعية. وبدأ الكلام عن أزمة
السينما والتي تمثلت بإنصراف الجمهور عنها مما يعني التشكيك بماقاله هاوزر عن ريادة الفلم لفن القرن. إنها قضية لاتخلو من التعقيد. فإذا كان معيار الريادة هو شيوع الفلم وتأثيره يكون هو قد خسر النزال مع التلفزيون الذي أخذ يشغل بوتيرة سريعة مكان الفلم منذ خمسينات القرن العشرين . الا أن إنصراف جزء كبير من الجمهورعن إرتياد دور السينما لا يعني إنصرافا عن الفلم الذي بات يحتل المكان الأكبر في البرنامج التلفزيوني . فكما تشير الإستقصاءات وفحوصات الرأي العام في كل مكان ، يكون الفلم المادة التلفزيونية الأكثر جذبا مما يعني أن الأزمة تخص دار السينما وليس الفلم .
أكيد أن الفلم كان ومازال يكسب أكبر المواقع بين هذا الجمهور وذاك حين يقدّم واقعا زائفا ونتاجا من ( مصنع الأحلام ) على حد تعبير إيليا أرنبورغ أو كما قال هاوزر كانت دور السينما وما زالت المكان الذي تتحقق فيه الرومانسية الإجتماعية التي تفشل في إختبار الحياة. وكانت أفلام هذا المصنع نسخا رديئة للأدب. وعامة كان الفلم ، رغم مكاسبه كفن للجموع ، ظاهرة لم تصبح أستيتيكية بعد. أن وضع الفلم كنتاج لمصنع الأحلام تعرض لتبدل جوهري بعد الحرب العالمية الثانمية بشكل خاص حين ظهرت الإتجاهات الجديدة في السينما . وكانت الميزة الأولى لفلم ما بعد الحرب هي إكتشافه .. للواقع. والأشارة الأولى جاءت بها الواقعية الجديدة الإيطالية التي إرتبط مضمونها الجديد بشكلها الجديد أيضا . وكان المضمون متجذرا بالحياة الإجتماعية. وصار بطل هذه الواقعية الإنسان العادي المحروم من الماكياج الهوليوودي. وكما قيل دخل الفلم معه الى الحياة مما أعطاه الحقيقية التي عمقتها وسائط تعبير سينمائية مقتصدة غير متفننة وخاضعة لمنطق السر(الحياتي). وصارت هذه الواقعية أهم حدث في تأريخ سينما ما بعد الحرب وإمتدت تأثيراتها الى أكثرية البلدان وخلقت إنعطافا كبيرا في السينما العالمية صوب الواقع وقضاياه الفعلية. وفي منتصف الخمسينات ظهرت قضايا الواقع ، من جديد ، في الفلمين الفرنسي والأنجليزي بأقوى صورة. عرفت حينها ( الموجة الجديدة ) و( السينما – الحقيقة cinema - verite ) الفرنسيتان و( السينما المستقلة Free Cinema ) الإنجليزية. ولم يكن المنطلق هنا جماليا فقط بل كان بالدرجة الرئيسية ذا طبيعة إجتماعية – سياسية . وقد تبدو هذه النزعات موسمية. الا أن تأثيراتها المضمونية والشكلية صارت أساسية. وكان التحول الأساسي إظهار الواقع بشتى هيئاته وتعقيداته. وعن حق أصبح الفلم مرآة العصر وشاهده وقاضيه في الوقت نفسه. وتجسد هذا بالصورة الأكثر بروزا لدى برغمان وكوروساوا وفيلليني وبريسون وغيرهم ممن قاد الفلم صوب واقع الأنسان والمجتمع.
وطبيعي أن الفلم الترفيهي ما زال يحتل المكان الأكبر. الا أنه صار المادة الرئيسية للتلفزيون. كما أنه تعرض للتطور التقني مستعيرا الكثير من أدوات وملامح الفلم الفني . مثلا تبدل الفلم الميلودرامي والكوميدي والبوليسي باللغة والمضمون : الأول صار يقدم أحوالا أكثر واقعية وحياتية للحب مستعينا بأدوات البسيكولوجيا ومغروزا في واقع إجتماعي ملموس . أما البوليسي فصار أداة تسجيل فنية للواقع السياسي في إيطاليا مثلا، وفي الكوميدي إمتزجت السخرية الإجتماعية ونقد الحضارة الحديثة بمادته وبنيته. وعامة جرى نوع من ( خلط الأوراق ) في الفلمين الترفيهي والفني. فالفلم الإجتماعي لا يعني اليوم أنه بعيد عن مفهوم الترفيه كذلك حين يصبح الفلم تسلية لا يعني تفاديه للمشاكل الإجتماعية. وهناك فريق من علماء الإجتماع يرى أن جمهور الشباب قد أسهم في حسم تطور السينما المعاصرة. فالفلم صار لدى هذا الجمهور ( مدرسة حياة ) وليس ( مصنع أحلام ).
أكيد أن ظاهرة الفلم ليست متجانسة. وفي هذا اللاتجانس تكمن المفارقة. ونلمس السبب في صعوبة العثور على تعريف شامل وصائب للفلم يختصر جميع إمكانياته. الا أننا نقدر ، عامة ، على تمييز ثلاث محاولات للتعامل مع الفلم كفن . وهي :
- الفن السينمائي كتظاهرة وتطوير لحقل تقليدي من حقول الفن .
- الفن السينمائي كفن مرّكب .
- الفن السينمائي كفن مستقل .
وجاءت المحاولة الأولى في زمن ولادة الفلم كفن. وبعد تجاهل كيانه الفني وإعتباره تسلية أسواق جاءت مقولة أنه تشكيل. وكان لها أنصار كثيرون في زمن الفلم الصامت الذي شبّهوه بغرافيك نفخت فيه الحياة. و طبيعي أن الفلم فن الصور المرئية لكن المتحركة. فالحركة تميّز بنيته التي تختلف بصورة أساسية عن بنية الصوة التشكيلية الثابتة. والحركة تعامل في الفلم تكملة طبيعية للصورة التشكيلية. وبذلك صارت الأخيرة تكشف عن إختلافات عن الصورة الفلمية هي أكثر من أحوال الشبه.
وحين أصبحت الحركة الميزة الأساسية لفن الفلم أخذوا يقارنوه بالموسيقى ، وفي حالة واحدة فقط وهي إذا لم يتم تجاهل عنصر الصوت . ف(موسيقية ) الفلم تعامل كنتيجة لنشوء أنظمة وإيقاعات معينة للصور الفلمية الا أنها بالأساس نوع من ( موسيقى الصور) أو ( موسيقى الحركة الصامتة ) أو كما أسماها البعض ( موسيقى قائمة بواسطة العين ). وفي الأساس تنشأ المقارنات بين الفلم والموسيقى من منطلق مجازي وشاعري وليس تنظيري .
أما حقل الفن الذي يقارن ، غالبما ، بالفلم فهو الأدب. فمفهوم الفلم كفن من تحت مظلة الأدب يتحدد في أن السينما هي أدب مرئي ومسموع . وهذه مقولة يصعب تفنيدها أو تقبلها كاملة أيضا . فالفلم يستفيد من الأدب. والفلم الروائي ، شأن الرواية ، له بطله وحدثه وحتى أن الفلم حين أخذ على عاتقه مهمة الأدب صار رواية القرن العشرين أو التيار الثاني للأدب بحكم كلتي الوظيفتين : الثقافية والإجتماعية. ولكن من المشكوك فيه أن تدخل جميع وسائط التعبير الفلمية في إطار الأسلوب الأدبي. فالأدب هو فن الكلمة أما الفلم فهو فن الصورة المرئية والمتحركة. وهذا هو الإختلاف الرئيسي بين هيكلي الفنين.
والحا ل نفسها نلقاها عند المقارنة بين الفلم والمسرح : الأول هو فن الإمكانيات الزمكانية غير المحدودة على وجه التقريب. أما الثاني فهو فن الإمكانيات المحدودة إذا خص الأمر كيانه المعهود بالطبع.
أما المحاولة التالية التي تخص الفلم كفن مركب فهي بمثابة تأكيد على إمكانية واحدة من إمكانيات الفلم وليس على صفة أساسية فيه . فهناك أفلام روائية أو تسجيلية تخلو من عتاصر الأدب والمسرح أو الموسيقى الا أنها أعمال فنية من حقل الفلم . كذلك فعتاصر الفنون الأخرى تفقد خواصها حين تدخل الفلم . فما هو فلمي يكف عن أن يكون مسرحيا أو تشكيليا أو أدبيا . وهذا يدحض بالمحصلة البراهين على أن الفلم فن مركب. كذلك لا يساعد هذا الأمر على مسك خصائص فن الفلم .
ويكرس أنصار مفهوم الفلم كفن مستقل الإنتباه الى مسك هذه الخصائص عند النظر في العلاقة الأساسية بالنسبة لفن الفلم : الفلم والواقع . ففي إطار هذه العلاقة نكشف عن خصيصة الفلم الجمالية بل نعرف متى يصبح الفلم فنا .
وكان رودلف أرنهايم أول من طرح مفهوما متماسكا عن الفلم كفن ، مشيرا الى النطاق الواسع لوسائط التعبير الفلمية المتميزة التي وجدها ضرورية في عملية التحويل الجمالي للواقع. فالفلم هو فن إذا حقق هذا التحويل ويعود الأمر الى أن الطبيعة الخام تتحول نتيجة لما أسماه أرنهايم ب( التقليص الجمالي ) المناسب ، الى عمل من أعمال الفن الفلمي. وفي الواقع كانت هذه الفرضية الأساسية التي يصبح وفقها حقل معين فنا بعد طرح الواقع المحوّل جماليا ، تناسب الوعي الجمالي للفترة التي عاش فيها أرنهايم أول المنظّرين الذين بينوا أن الفلم يملك وسائطه التي تخدم عملية التحويل تلك . وبعبارة أخرى قد يغدو حدث الفلم والمأخوذ من العالم كخامة بدون تحويل، جميلا. غير أن مثل هذا الفلم لم يحقق بعد، هويته كفن مستقل .
وهذه الفرضية صارت قاعدة متينة لدى المنظر الهنغاري المعروف بيلا بالازش الذي يجد الفلم فنا يكشف عما أسماه بالمضمون البسيكولوجي للمعاناة أو التجرية. وهذا الكشف يتم بفضل قانون التشويه أو التحوير الأستيتيكي للصورة الفلمية . وبرأي بالازش لايعيد الفلم خلق الواقع بل هو يخلقه ، إذ أن وظيفته لاتتحدد بإعادة خلق الواقع بل تركيبه وليس الإعتمادالكبير أو البسيط عليه.
في عام 1945 صدرت دراسة للناقد الفرنسي الكبير أندريه بازان عارض فيها شتى مفاهيم الفلم كفن مستقل . فما كان يعتبر تقييدا للفلم وينبغي إزالته ، صار بنظر بازان طبيعة للفلم وقوته الرئيسية. وهذه الطبيعة هي فوتوغرافيته. فالفلم هو طفل الفوتوغرافيا . وبحكم كونه فوتوغرافيا متحركة عليه أن يكون أمينا بشكل مطلق للواقع. ومهمة الفلم هي الإدامة الأكبر أمانة لهذا الواقع ، وبدون إيهام وإضافات. فعدسة الكاميرا تظهر الواقع النقي غيرالمحوّر( بفتح الواو ) الذي يكشف بنفسه عن معناه وأهميته. أما العمليات الشكلية ، وخاصة الحيل المونتاجية ، فهي تشّوه الواقع وتزيّف المعنى المباشر للواقع . وهكذا يرى بازان أن الفلم يصبح فنا عندما يقّدم الواقع بصورة أمينة ويكشف الميزات الجمالية للواقع ذاته. كذلك نجد أن هذا الناقد وأتباعه يرون أن حقول الفن المسماة بالتقليدية مثل التشكيل والأدب لاتظهر الواقع بل تعامله كخامة تفيد في خلق العالم المستقل للفن والذي لايملك أي شيء مشترك مع ذلك الواقع .. فالواقع يختفي في مقاصد وتفسيرات الفنان. والفلم هو أول فن حقيقي يعرفه التأريخ ، ومن هنا تمايزه عن بقية حقول الفن الذي يمكن أن يحرر الواقع من المقاصد والتفسيرات التي ألحقت به بشكل مصطنع ، وأن يظهر الواقع الحقيقي غير المشوّه ويمسك بالتيار الفعلي للحياة . فبقية الفنون تتملق الى الواقع ، بشكل ما ، وهي تخونه في المحصلة . إنها ليست صورة الواقع بل صورة الصورة التي نشأت في ذهن المؤلف.
وفي الحقيقة ليس مفهوم بازان مجرد نظرة جديدة في إمكانيات الفن الفلمي ومهامه بل هو بمثابة تغيير أساسي لإتجاه البوصلة الدالة على الوعي الجمالي . فقد دحض بازان مقولة أن الفلم يقدم الواقع المشوه أستيتيكيا عندما إعتبر أن على هذا الفن أن يخدم ، بسبب طبيعته الفوتوغرافية ،إعادة خلق الواقع reproduction . وبعضهم يجد في هذا الموقع ثورية مفهوم بازان ، والآخر ضعفها. فنحن نحرم الإنسان من إمكانية التعبير والجهر عندما نطلب منه أن يقدم الواقع بأمانة وحرفية ،كذلك حين تكشف القيمة الجمالية بدون تدخل يحرم الإنسان من حق منح الواقع القيمة الإنسانية. وفي الأخير فهذا أمر غير ممكن من الناحية العملية. ففي الفلم وغيره من الفنون أيضا يقوم الإنسان بإختيارما حين يقدم الواقع. وعندما يقوم بالإختيار إنما يتخذ قراره المتضمن حكمه على الواقع. وهكذا فليس الواقع يكشف عن أهميته بل الإنسان من يقرر أهمية الواقع. كذلك فتقديم الواقع ( النقي ) أمرغيرممكن أي تقديمه ككل بدون إختيار وحتى إذا كان ممكنا فسيكون محروما من المعنى.
وبمعزل عن هذه الإعتراضات وغيرها فمفاهيم بازان أثرت كثيرا على الفكر السينمائي. فعندما إعترف بمبدأ ( الإيمان بالواقع ) لفت النظر الى أن فن الفلم ينبغي أن يعثر في الواقع ذاته على أساس متين له. الا أن الواقع ليس هو الخارجي فقط والذي حصر بازان فيه إمكانية الكشف الفلمي عن العالم. والأفلام التي تراقب الحياة بشتى هيئاتها الخارجية ضرورية وقيمّة الا أن هناك الأخرى التي تحاول سبر الداخل الإنساني ومسك عالم المخيلة أو الكشف عن ذلك العالم المعروف والمجهول – عالم الأحلام..
ومن ناحية يكون الفلم الفن الأكثر واقعية ، والأكثر بعدا عن الواقع الفعلي من ناحية أخرى. فالفلم يظهر ، مثلا ،إ لتماع قطرات العرق على وجه إنسان ثم يظهر وحشا عملاقا يلهو بتحطيم المباني .. وهكذا فإلتماع القطرات فلمي ولهو الوحش فلمي أيضا . وهذه الطبيعة المزدوجة ( الواقعية وخارج الواقعية ) هي الطبيعة الحقيقية للفلم . كذلك فحق البقاء يملكه كلا الفلمين : فلم الخلق وفلم إعادة الخلق، إذ أنهما يعكسان واقعا معينا ، والأمانة للواقع ، ومهما كان قدرها ، لا تخلو من صيغة معينة نابعة من الطبيعة البشرية. كذلك فالحقيقة نكتشفها حين تنظر الكاميرا السينمائية الى العالم بعين الإنسان وعندما ينظر الإنسان الى العالم بعدسة الكاميرا أيضا. وفي هذه الجدلية الخاصة بالفلم وفي تكرارها لرؤيتنا للعالم وفي نقضها لهذه الرؤية تكمن أكبر إمكانيات التعرف .
وعند القيام بمثل هذا الإستعراض السريع لمفاهيم الفلم الفنية تكون الحقيقة الأولى أن نظرية الفلم لم تدخل مرحلة التبلوربعد. فإذا كان الفلم مملكة الحركة فإن أرنهايم يجده فنا ذا نطاق خاص من وسائل التعبير يمكن من خلق صورة أستيتيكية للواقع. أما دجيكا فييرتوف المنظر والتسجيلي السوفيتي المعروف فيجد الفلم خالقا لرؤيا فعلية للعالم هي جديدة تماما وتختلف عن الواقع. ويرى سيرغي آيزنشتاين الفلم تركيبا حقيقيا لجميع الفنون، ولاشك أن نظرية أدبية الفلم أو تبعيته للأدب تجد برهانا لها أساسيا في التأكيد على الدور الإجتماعي للفلم في حياة الإنسان المعاصر في حين أن مفهوم الفلم كفن فوتوغرافي مهمته كشف وإكتشاف المظهر الموضوعي للواقع الفعلي قد تكرست له أعمال بازان وكراوزر. وصار ( إمتدادا ) معدّلا لها مفهوم أرفين بانوفسكي فيلسوف الفن ومؤرخه الكبير الذي كانت فكرته الرئيسية هي أن مهمة الفلم التقديم غير المحوّر للواقع والذي يكتسب بالنتيجة أسلوبا. أما أدغار مورين فيلفت النظر في كتابه الشهير ( السينما والمخيلة ) الى أن دورا كبيرا تلعبه عناصر المخيلة في خلق العالم الفلمي .
ويجد القائلون بمفهوم الفلم كمملكة للحركة أنه رصد مرئي لتعامل الإنسان مع المادة . وما يكونه المنظر الطبيعي بالنسبة لمفهوم المكان يكونه الفلم لمفهوم الزمان. ففي الفلم تتكشف فكرة الحركة الصرفة. كذلك ليس هناك فن لايحوي عناصرا من الفنون الأخرى . وهؤلاء يجدون أن السينما تجاور ، من طرف ، الدراماتورغيا ، ومن طرف آخر التصوير. ومرة تهيمن عناصر الأولى وفي أخرى عناصر الثاني . الا أن الحال شبيهة بالأخرى في التصوير : ليس الحدث الجاري بالأمر الجوهري بل هو مجرد حجة لكشف أسرار الظل والضوء. كذلك ليس الحدث في السينما بالأمر الهام بل كشف أسرار الحركة من خلال نزع ( أقنعة ) الحدث. ومرة قارن هنري برغسون العقل ( وكان يكن له الإحتقار ! ) بالسينما ذاكرا أنه ليس بإمكان العقل أن يكشف لنا عملية النشوء بل هو يلصق آليا جزيئات الواقع المنتزعة من الكل. الا أن برغسون لم يكن منصفا حين تجاهل صفة مشتركة بين الأثنين وهي أن العملية الفلمية سريعة وخاطفة مثل عملية التفكير ذاتها ..
ولدى أرنهايم يكون الفلم ، شأن التصوير والموسيقى والأدب والرقص ، وسيطة تعبير يمكنها وليس لزاما عليها ، أن تكون مستغلة لخلق التأثير الفني . ويقول إن الفلم ليس إعادة خلق آلية للواقع ولايمكن حرمانه من مكانه في معبد الفن ، والأكيد أن الفلم يصلج كأداة تقريرية تقوم بمسح العالم الخارجي موضوعيا الا أن هذه صفة من صفاته حسب. وهو هنا شبيه بالأصباغ التي تستخدم لأغراض عملية أو أخرى كتلوين لوحة فنية مثلا . كذلك فمنفذ الفلم لايقدم صورة موضوعية للعالم بل أخرى ذاتية أيضا. وفي مؤلفه ( أنا – السينما – العين ) يكتب فييرتوف أننا لا نحتج حين تزين السينما بالريش ، الأدب أو المسرح بل نؤيد تماما إستغلال الفلم في جميع حقول العلم ، ونحن نسميها وظائفا جانبية كتفرعات من الجذع الذي هو التحسس الفلمي بالعالم. ويرى فييرتوف أن الكاميرا أكثر كمالا من العين عند فحص فوضى الظواهر المرئية التي تملأ المكان . ف( السينما – العين ) تحيا وتتحرك في الزمكان ، تراقب وتثبت الإنطباعات بشكل مغاير لما تقوم به العين. ويذكر بأننا لانعرف كيف نحسّن عيوننا الا أن الكاميرا يمكن تحسينها الى ما لانهاية . كما أنه يدافع عن الكاميرا من خلال الهجوم على العين التي أرغمت الكاميرا على تقليد وظيفتها. بل نجده يدعو الى إخضاع العين لما أسماه بأرادة الكاميرا. ويقول : أنا أرغم المتفرج على أن يرى الظاهرة بالصورة التي قررت إختيارها , أي أن طريقي يمضي صوب خلق إدراك وتقبل جديدين للعالم ..
أما آيزنشتاين فيرى الفلم أعلى درجة تعبير لإمكانية كل فن من الفنون ومطامحه, بل يقول إن الفلم هو آخر وأصدق تركيب لجميع وسائل التعبير الفنية. و يذكر أن مثل هذا التركيب كان مطمح الكل .. فديديرو أراد أن يجده في الأوبرا وفاغنر في الدراما ، ويقول إن الفلم بالنسبة للنحت هو سلسلة من الأشكال البلاستيكية التي كفت في الاخير، وبعد قرون طويلة، عن أن تكون جامدة غير متحركة . وبالنسبة للتصوير ليس الفلم مجرد حل لمشكلة الحركة في الصورة بل وصول الى أشكال جديدة غير متوقعة لفن الرسم الذي هو شبيه بمجرى طليق يغير الأشكال والتكوينات والصور ويمزجها مما كان لغايتها وقفا على التصوير. وبالنسبة للأدب يعني الفلم توسيع حدود الكلمة والتي وصلها الشعر والنثر كما يعني فتح هذه الحدود أمام مملكة جديدة تصبح فيها الصورة المنشودة مجسّدة بشكل مباشر في الإستقبال البصري – السمعي. وهكذا فإلفلم قادر، لوحده ، على أن يجمع في وحدة حقيقية هذه العناصر المستقلة للتقديم المرئي . ومثل هذا التقديم أراد المسرح منذ قرون إعادة خلقه. الا أن الحظ لم يحالفه بل حالف الفلم الذي وجد آيزنشتاين فيه وحدة فعلية عضوية لاتقوم على الدمج والخلط. وتكون ميزات الفلم لدى هذا الفنان في أنه ( سيمفونيا الألوان التي تكملها سيمفونيا الأصوات ).. كذلك وجد الفلم ( تحريرا حقيقيا وكاملا للغنائية المسجونة في الأشعار ). بل يمضي أبعد عند القول : ( إن طريقة الفلم المدركة كما ينبغي وكاملة تعيننا في خلق مفهوم خاص بطريقة الفن عامة ).
يرى بازان أن تركيبية آيزنشتاين لا تخص جوهر الفلم الذي هو مسجّل موضوعي للواقع بفضل ميزته الفوتوغرافية حيث تعتمد أصالة الفوتوغرافيا بالمقارنة مع التصوير الفني ،على عنصر الموضوعية . فالعدسة حلت محل عين الإنسان. وللمرة الاولى تظهر بين المادة وتقديمها مادة أخرى حيث تتشكل صورة العالم بصورة أوتوماتيكية وبدون توفر نية الخلق. ووفق قانون السببية تكون مهمة حامل الكاميرا الوحيدة هي القيام بعملية الإختيار ورسم الإتجاه أو تحديد المغزى ( التربوي أو غيره ) للظاهرة موضع الوصف. ويقول بازان أن جميع أصناف الفن تعتمد على إسهام الإنسان عدا الفوتوغرافيا التي تستغل غيابه فيها. فهي تؤثر فينا كظاهرة ( طبيعية ) شأن الزهرة وذرة الثلج التي يرتبط جمالها بشكل لافكاك منه بانحدارها المعدني. وهذا الطابع الأوتوماتيكي للفوتوغرافيا قد نسف جذريا بسيكولوجيا الصورة. فموضوعية الفوتوغرافيا تمنح الصورة قوة المصداقية والتي لا تتوفر في الأعمال البلاستيكية الاخرى. ومهما كانت شكوكنا ، يقول بازان ، ماعلينا الا الإيمان بوجود الشيء القائم بين الواقع وصورته التي تقدمها العدسة. الا أن بازان يصيغ في الواقع المقولة بشكل آخر : تكمن الأمكانيات الأستيتيكية للفوتوغرافيا في إكتشافها للواقع. إن الفلم هو لغة ، أي أداة موضوعية ولو أنها تجيء أحيانا ذاتية. فحالها حال اللغة التي تكون موضوعية في العلم وذاتية في الشعر. وترجع المسألة هنا الى حقل أستخدام اللغة. أما زيغفريد كراوسير الذي يعد أكبر مؤيد لنظرية بازان فيوضح ويضيف الكثير لنظرية الفلم كفن الفوتوغرافيا . ونجده يؤمن بأن التصوير والأدب والمسرح وغيره من الفنون لا تقدم الطبيعة وحتى لو كانت تتكلم عنها . فهي تستخدمها كخامة لبناء مؤلفات مستقلة. كذلك فدخول الفن الى الفلم يخنق إمكانيات الثاني الذي هو قائم تحت تأثير الفنون التقليدية ولذلك يتجاوزالوا قع الفيزيقي بأسم النقاء الأستيتيكي. ويذكر أن مخرجي مثل هذا الفلم يضيعون الفرصة الوحيدة المتوفرة في الوسيلة الفلمية. ولربما تستطيع أفلامهم أن تقدم الواقع المرئي الا أنها لا تظهره. فاللقطات تخدم مسألة واحدة لاغير وهي بناء شيء عليه أن يكون عملا فنيا ، وفي مثل هذه الأفلام ،يقول كراوسير ، تفقد المادة المأخوذة من الحياة طابعها كخامة. وبرأيه أن هذا الأمر لايحصل فقط في الافلام ذات الطموح الفني أو التجريبية كفلم ( الكلب الأندلسي ) لبونويل ودالي بل في الأفلام التجارية التي تقلد المسرح رغم أنعدام القيم الفنية فيها. وشأن بازان يجد كراوسير أن الفن في الفلم هو عامل معيق لأنه يفترض الوجود الدائم للمعتقدات التي ( تحجب ) الواقع المادي. كذلك فشتى أصناف الفلم الروائي ، الفني والتجاري والتجريبي وغيره ، لا تقوّي إلا عادة النظر التجريدي الى العالم. أما الأفلام الأخرى ، أفلام الحقائق العارية وأشرطة الأنباء والريبورتاجات والفلم التسجيلي ، فهي تنبذ ( كذب ) الفن الذي يمثله الفلم الروائي أي التأليفي. ويجد كراوسير أن هذا الفلم ، سواء أكان ( المدرعة بوتيومكين ) لآيزنشتاين أم ( رفاق السلاح) لرينوار أم ( لوس أوليفدادوس) لبونويل ، يعتمد على الطاقة الإيحائية للمادة التي تقدمها. ويسوق هنا قولا معروفا لفيلليني : ( الفلم الجيد لا يسعى صوب إستقلالية العمل الفني . ففيه ينبغي أن توجد الأخطاء التي نلقاها في الحياة والناس). ويستخلص كراوسير نتيجة مفادها أن الواقعية الفوتوغرافية والفن قطبان متنافران. فالفلم هو الفن الوحيد االى جانب الفوتوغرافيا والذي يكشف مادته الخام .
أما إرفين بانوفسكي فيكتب في مؤلفه المعروف ( دراسات في تأريخ الفن ) بأن الفلم صار ظاهرة إجتماعية يومية مما لايعني ، بالطبع ، إبتعاده عن الفن. ويسوق هذا المثال على ( إنتشار ) الفلم في الحياة الإجتماعية : لو أن القانون أمر الشعراء والمؤلفين الموسيقيين والمصورين والنحاتين بالكف عن العمل لأدرك ذلك جزء ليس بالكبير من الجمهور ولأسف جزء أصغر منه على هذا الأمر. لكن لو مسّ هذا القانون السينما لكانت العواقب الإجتماعية بحجم الكارثة ..
ويشبّه بانوفسكي الفلم بكاتدرائية القرون الوسطى حيث يناسب دور المنتج دور الأسقف ، والمخرج المعماري الرئيسي ، وكاتب السيناريو المستشارين السكولاستيكيين الذين يحددون البرنامج الإيكونغرافي للعمل الفني ، أما جهد الممثلين والمصور والمونتير ومهندس الصوت وصانع الماكياج وغيره من الفنيين فيشبهه بجهد النحاتين وصانعي النوافذ الزجاجية والبرونز والبنائين والنجارين وقاطعي الأحجار وغيرهم ..
ويجد بانوفسكي أن السبب في قلة الأفلام الجيدة ، وبالمقارنة مع عدد الكاتدرائيات ، هو في تجارية السينما وكون السينما الفنية إستثناءا وليست قاعدة وحتى أنه يقول بأن متطلبات الإتصال السهل تجعل من الفن التجاري أكثر حيوية من الآخر. وبرأيه صارت السينما في الحياة المعاصرة ذلك الشيء الذي كفت عن أن تكونه الأشكال الأخرى من الفن ، أي صارت ضرورة وليس زينة. وكما يقول إن منح الواقع أسلوبا وقبل أن يكون قد مسك يعني تجاوزا للمسألة .
ويعالج أدغار مورين ما أسماه بجدلية الفعلية واللافعلية من خلال تناول القضايا المتعلقة بالفلم الروائي الذي أسماه بفلم الوهم fiction الذي يجده مرتبطا بالدرجة الأولى بنشاط المخيلة. ويقول أن طبقة المخيلة قد تكون رقيقة أو شفافة بل يمكن أن تكون مجرد حجة لقيام صورة موضوعية. والعكس صحيح أيضا .. فلكم هناك من نوع فلمي لهذا الوهم ولكم من درجة هناك للفعلية واللافعلية. ويذكر مورين أن الحاجات الشعورية والأخرى العقلانية تتداخل لكي تخلق هياكلا وهمية معينة. و المعنى الأساسي للفنتازيا يعتمد على عقلنتها. وكلما كانت عملية العقلنة متقدمة كان الفلم أكثر واقعية. كذلك فالواقعية التي ترفض المصطنع وتمكن من الإسهام الأكمل في الوهم ليست الا نوعا من الجائزة التي تدفع للوعي الذي يخشى الإتصال بالسحر ولا يعرف كيف يملك أحلام اليقظة ..
إن الفنتازيا تعقلن السحر وتموضعه لكن يبقى جوهرها الذاتي على حاله. والواقعية هي تظاهر موضوعي للفنتازيا بينما الفلم هو بناؤها الذاتي.
ويكون التحول والصهر الدائميين للفعلية والوهم أو الحلم خصيصة للسينما التي تبحث عن جوهرها الذي يكون ، في الحقيقة ، إنعدام الجوهر .. وما أمر السينما الا حركة جدلية دائمة بين محوري الفعلية ( الواقع كواقع ) واللافعلية ( الحلم كلاواقع مباشر ). وكما لاحظ معظم الباحثين يكون مستقبل االفلم في نبذه الصلة الوثيقة بفن الكلمة ، ومسك جوهره كفن الحركة بشقيها المكاني والزمني ..



بعض المصادر الرئيسية :
- جورج سادول – تأريخ الفن السينمائي . منشورات مكتبة المعارف , بيروت ,1956
S. Eisenstein – The Film Sense , Faber , 1943
S. Eisenstein – Film Form , New York 1949
R.Arnheim – Film jako sztuka , Warszawa , 1961
D. Wiertow – Wybor pism , Warszawa ,1976
A.Bazin – Film i rzeczywistosc , Warszawa, 1963
S. Kracauer – Teoria filmu , Warszawa, 1975
E. Panowski – Studia z histori sztuki , Warszawa, 1972
E. Morin –Kino i wyobraznia. Warszaw, 1975 – 1960
B.Balazs –Wybor pism , Warszawa, 1960

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire